أنتوني فان دايك «صورة ذاتية مع دوّار الشمس»

أنتوني فان دايك «صورة ذاتية مع دوّار الشمس»

من خلال تاريخ الفن، أصبحت كلمة «بورتريه» (صورة شخصية) مرادفًا للشكل المستطيل عموديًا، إذ من النادر أن نرى صورة شخصية أو صورة ذاتية في لوحة أفقية الشكل مثل هذه، حيث رسم فان دايك نفسه بقرب زهرة دوّار الشمس.  ومن المؤكد أن وجود هذه الزهرة هنا هو على مستوى عالٍ من الأهمية حتى اضطر الرسام إلى اختيار هذا الشكل الأفقي الذي ما كان معروفًا إلا للوحات التي تمثل شخصين أو أكثر.
ولد فان دايك عام 1599م، وظهرت موهبته منذ صغره، إذ أصبح وهو في الرابعة عشرة من عمره متدربًا ومساعدًا لبيتر بول روبنز، أشهر رسامي أوربا الشمالية في ذلك الوقت. وعندما أصبح في التاسعة عشرة من عمره، حصل رسميًا على لقب «أستاذ» في عصبة الرسامين في هولندا. وفي العشرين كانت أوربا بأسرها قد عرفته.
رسم فان دايك كثيرًا من المواضيع الدينية، غير أن التهافت عليه خلال تجواله في أوربا وبشكل خاص إيطاليا وإنجلترا، كان أكبر في مجال رسم الصور الشخصية، خاصة أنه تميّز عن أستاذه روبنز بأسلوب فذّ ومبتكر في تعظيم الشخصيات التي يرسمها حتى عندما تكون هذه الشخصيات في أوضاع شبه عفوية. فأصبح الرسام الرسمي لحاكم هولندا عام 1630م، بعد أن كان قد عمل لصالح ملك إنجلترا جيمس الأول في عام 1620م. غير أن إنتاجه ومكانته بلغا القمة بعد انتقاله عام 1632 للاستقرار نهائيًا في إنجلترا.
استقبلته إنجلترا بحفاوة لا مثيل لها بالنسبة لفنان. فقد عُيّن فورًا الرسّام الرسمي للملك تشارلز الأول براتب ضخم وقدره 200 جنيه ذهب سنويًا، وأقام في جناح خاص به في القصر الملكي حتى وفاته بعد تسع سنوات. وخلال هذه الفترة رسم فان دايك الملك تشارلز الأول الذي منحه لقب فارس، في أكثر من أربعين لوحة، والملكة هنرييتا ماريا في أكثر من ثلاثين لوحة، إضافة إلى عدد كبير من النبلاء ووجوه المجتمع والثقافة. ومن بين أعماله آنذاك صورته الذاتية هذه مع زهرة دوّار الشمس.
 نرى الرسام في هذه اللوحة يتطلع صوب المشاهد من فوق كتفه، وهو يلمس بيد وريقات الزهرة الصفراء الكبيرة، وباليد الأخرى يرفع السلسال الذهبي قليلًا عن كتفه، كأنه يقول شيئًا بذلك للمشاهد. ورغم أنه لم تكن لكثير من الزهور أية دلالات رمزية آنذاك، فإن زهرة دوّار الشمس كانت ترمز إلى الوفاء والولاء بفعل متابعتها لحركة الشمس خلال النهار. لكن لمن هذا الولاء والوفاء؟ للملك تشارلز الأول المشار إليه بالسلسال الذهبي، والذي من المؤكد تاريخيًا أن الملك أهداه للفنان، حتى إن الصائغ الذي صاغ هذا السلسال معروف بالاسم.
هذا عن الموضوع، أما عن التقنية فقد كان الفنان قد اطلع خلال زيارته الأولى إلى إنجلترا على لوحات الأستاذ الإيطالي تيسيان، وتعلّم منها مهارة استخدام الريشة الدقيقة بمرونة في قولبة ملامح الوجه وتذويب الألوان ببعضها خلال ذلك لتحقيق أعلى درجة من الشبه مع الأصل. وأضاف هذه المهارة إلى مهارة التركيب الباروكي المعقد والمتوازن التي تعلمها من روبنز.  لذا، بالتطلع إلى بشرة الوجه في هذه اللوحة لا نلحظ من ضربات الفرشاة الدقيقة غير القليل جدًا. فالجهد المبذول في رسم ملامح الوجه يعادل أضعاف الجهد المبذول في باقي أرجاء اللوحة، إذ إن ضربات الفرشاة تصبح أعرض في رسم الشعر والزهرة، ومن ثم غليظة في رسم الملابس بالأحمر والأبيض.
خلال ذروة شهرته في لندن، اضطر فان دايك إلى توظيف مساعدين لتلبية الطلبات الكبيرة التي تنهال عليه، فكان يكتفي هو برسم الشخصيات على الورق ثم يعطي هذه الرسوم لمساعديه كي يطبقوها بالألوان الزيتية على الكانفاس. ولم يكن يرسم هو غير الوجوه بالتقنية الدقيقة التي نراها هنا. لكن أثره الكبير على الفن في إنجلترا من بعده لا يعود إلى أي من مساعديه أو الذين تتلمذوا على يديه، بل إلى الانبهار العام بأعماله.
عندما توفي فان دايك عام 1641م، حرص الملك بنفسه على إقامة ضريح مهيب له في كاتدرائية سانت بول في لندن، ودفنه فيه.  لكن الضريح اندثر مع رفات الفنان في حريق لندن عام 1666م ■