لا أَحَد يَأْخُذ مَا بِدَاخِلك

لا أَحَد يَأْخُذ مَا بِدَاخِلك

ما دامت روحك حُرَّة فأنت قادر على زراعة وردة داخل سجنك، مهما كانت الظروف التي تُوْضَع فيها قاسية أنت قادر على اختراع لغة تخاطب بها سجينًا معك، وأحيانًا تكون قادرًا على إقناع سجَّانك بأنه سجين، وأنه عن طريقك أنت يمكنه أن يمارس حريته، أنت تُحقِّق من خلال هذا السجَّان جزءًا كبيرًا من حريتك، فكل سجين يبحث عن طاقة ينظر منها لعالم حريته التي يحلم بها.

 

يبدأ فيلم A Twelve-Year Night (ليلة الاثني عشر سنة) والذي أُنْتِج في الأوروجواي بمقطع يقول: «نَظَرَ الرجل إلى المحكوم وسأل الضابط: هل يعرف السجين عقوبته؟ قال الضابط: لا، سيختبرها بنفسه». هذا المجتزأ من (مستعمرة العقوبات) لكافكا يُنِير الشاشة قبل أن يبدأ الفيلم ويثير داخلنا تساؤلات حول هذه العقوبات التي سندخل إليها عبر الزنازين، فالفيلم يبدأ الحكي عن عام 1973 وأوروجواي تحت حكم ديكتاتوري بعد عقود كثيرة من الديمقراطية، ونتتبَّع حركة (توبا مارو) الثورية، ففي 7 سبتمبر أخذت الحكومة العسكرية تسعة سجناء من توبا مارو كرهائن، هذا الفيلم يحكي قصة ثلاثة منهم في خلال 123 دقيقة، أخرجه وكتبه ألفارو بريشنر وحصل الفيلم على جائزة الهرم الذهبي لأحسن فيلم، وجائزة جويا لأفضل سيناريو مقتبس.
 
زنزانة لكسر الروح
ينفتح الفيلم على بوابة حديدية ضخمة، نسمع أصواتًا مختلطة لعالم خارجي قادم عبر صوت مذياع، ثم يستقر على برنامج تطلب فيه  امرأة أُغنية معيَّنة تهديها لحبيبها، وتبدأ الأغنية في العزف، وفي الوقت نفسه يتحرَّك السجَّانون لضرب وتعذيب المساجين على أصوات الأغنية، وتختلط أغنية الحب مع الضرب والتعذيب في تعاشق يشي بأن الحب مختلط بهذا التعذيب، كأنه يقول بأن من يمارس التعذيب يحب ذلك ويمارسه وهو مستمتع بممارسته عن رغبة، خاصة وأن من يتم تعذيبه يتعذب لأنه يحب شيئًا ما يتعذب من أجله، وطنه، ونحن كمشاهدين خارج القفص، عبر أسلاك حديدية مُحْكَمة، هذا عالم محصور، لا يدري به أحد، ولا يعرف أحد عنه شيئًا، ولا يمكن الوصول إليه.
 مع أول نَزْع للغطاء الموضوع على رؤوس المساجين الثلاثة أبطال الفيلم، أنطونيو دي لا توري في دور خوسيه موخيكا، والممثل تشينو دارين في دور موريسيو روسينكوف، والممثل ألفونسو تورت في دور إليوتريو فرنانديز هويدوبرو، تعرَّت شخصياتهم وردود أفعالهم، وظهروا من الطلَّة الأولى لنا بملامحهم الشخصية فأحدهم نَزَعَ الغطاء وكأنه يفكر بهدوء، والآخر ظهرت عصبيته، والثالث بانت رغبته في التحرُّر، وهذه الانفعالات المبدئية هي الأساس الذي اعتمدت عليه الشخصيات في تصرفاتها طوال أحداث الفيلم، كانت هذه البداية هي مفتاح انفعالات أبطال الفيلم.
كان أول تحريم داخل السجن (لا يمكنكم الحديث لا مع بعضكم ولا مع أحد، ممنوع على الجنود التحدُّث إليكم) والكلام حاجة إنسانية، ومنعه عقوبة شاذة، وعُزْلة نفسية كاملة، تُفْقِد المسجون الاتصال بالعالم، قَطْع الكلمة وسيلة التواصل، ولمَّا كانت النافذة وسيلتهم لرؤية ضوء الشمس وشَم رائحة العالم من خلال خيوط الشمس، فقد سدُّوا النوافذ، وحرموهم من الضوء، فمن الآن لا كلام، لا رؤية، لا صلة بالعالم نهائيًا، آذان مفتوحة لا تسمع، عيون مفتوحة لا ترى، أنت وحيد، أقل من جنين في بطن أمه، فالجنين على الأقل يرى عالمه، ويستشعره، أما أنتم فلا.
في السجن رأينا عبارات مكتوبة على الجدران تؤدي إلى فقدان الأمل والثقة (يا من دخلت هنا، افتقد الأمل) وكأن كاتبها هو السجَّان نفسه، يريد أن يكون السجين مكسور الروح، عبارة محفورة توحي بأن سجينًا حفرها، لكن الأمر بقليل من التمعُّن يكشف أن كاتبها إما إدارة السجن أو شخص ضعيف الإرادة تم تحطيمه.

عقلية عمياء
مشاهد الفيلم تميل في مُجْملها إلى اللون البني الذي يقترب من لون الزى العسكري، يعطينا إيحاءً بأننا نعيش في حالة تسيطر عليها عقلية عقيمة تعيش لونًا وحيدًا، وفكرًا وحيدًا، أحادية واضحة. مشاهد التعذيب ضبابية، لا تُصَرِّح كيف يحدث التعذيب، لكن الأكيد أن ما يحدث مَهَانة، دَفْع الأجساد والضرب بالعصي، وحمل المساجين بعنف، إضاءة تتأرجح، مَهَانة واضحة تبدأ بسيارة تنطلق داخلها رجال معصوبو العيون، تسير في الظلام، نرى العالم من خلال العين المعصوبة، رماد وضباب وإضاءة باهتة، وحين أراد أحدهم في السيارة أن يتغوط رفض الحارس، وعلمنا أننا دخلنا مرحلة تعذيب لم نرها من قبل. حين صَبَّ الحارس الجاز على عصابة السجين أصابنا الاختناق، ولم نتنفَّس كمشاهدين من تعذيب النفوس إلا عندما خرجت الكاميرا لنشاهد منظر السجن من الخارج، تحيطه الشمس والهواء والأشجار. وظهر لنا أن في الداخل موتًا وفي الخارج حياة.
ظهرت عقلية السجَّان الغبية المتوحشة في مشاهد عديدة، وبصورة مكثفة في أسلوب حياة المساجين، لقد صنعت رغبة السجين إليوتريو فرنانديز هويدوبرو، والذي قام بدوره ببراعة الممثل ألفونسو تورت في التغوط مشكلة داخل السجن، فقد كان مقررًا أن يتركوه يتغوط وهو في حالة وقوف، يده اليمنى مربوطة بمواسير المياه، وهذا وَضْع مستحيل، ومُضْحِك، ومُبْكٍ، وغير إنساني، وبالتالي كان لا يمكن للسجين أن يتغوط إلا إذا تم فك يده، ومن هنا نشأت المشكلة، من الذي لديه السلطة لفك يد المسجون من الماسورة لجعله يتغوط، لم تكن لديهم أي أوامر حيال ذلك، فرأينا أن الكل يحاول أن يتملَّص من اتخاذ قرار فك يد السجين ليمارس فعلًا طبيعيًا، كان المشهد هزليًا، يوحي بالمرارة، ويكشف عن عقلية متحجرة، تتَّبع الأوامر فقط، لا يمكنها أن تتخذ أي قرار بسيط في محيط عملها، كشف مشهد وحيد هذه العقلية ببساطة.
من العذابات الشديدة الوطأة أن السجَّان رسم داخل السجن مربَّعًا باللون الأبيض، وحرَّم على المساجين أن يتجاوزوا هذا المربع، لقد صَنَعَ سِجنًا داخل السجن، هذا سَحْق للروح.
وجاء السِجن غير المتصوَّر، لقد انتقلوا إلى سجن عبارة عن حُفر مجوفة، ليس فيها أي فتحات سوى الباب الحديدي، لا يأتي الضوء إلا عن طريق المصباح الباهت الأصفر المريض، لقد سبَّبت هذه الزنازين نوعًا من التوتر والهيستيريا والصراخ والعذاب، ولولا أن الكاميرا خَرَجَت في الفضاء الفسيح عن طريق مخيلة السجناء، ورأينا السماء الممتعة الصافية والذكريات الجميلة، كل الذكريات الجميلة جاءت هنا في هذا القبو الخانق، مع الأحلام، حتى إن أحدهم تخيَّل زوجته نائمة بجانبه، هذا الخروج بالكاميرا من حُفر الزنزانة عبر الذكريات فَك الكتمة التي كانت يمكن أن تتلبَّس المشاهد داخل الفيلم، كان لابد أن نتنفَّس خارج السجن، وتأكَّد مرة أخرى أن العقل الإنساني حتى لو تم حبسه داخل قبر يمكنه أن يتنفَّس عبر خياله، وأنه لا أحد يمكنه أن يتحكَّم في خيال إنسان.

كسر حاجز الصمت
من المشاهد المهمة البديعة في الفيلم مشهد الاحتفال بعيد الميلاد المجيد، فالأضواء كانت تتطاير في السماء خارج الزنازين، تقع انعكاسات الضوء على وجوه المساجين الثلاثة بكل حساسية، ولأول مرة نرى الابتسامة على وجوه المساجين الثلاثة، ابتسامة راحة نفسية، كانت تلك لحظة ميلاد، واكتشاف لغة للكلام، وسط الأضواء الساحرة، الجميلة والممتعة. دَقَّ أحدهم على الحائط، واستمع الآخر، وبدأ التواصل، دون كلام، بدأت دَقَّات لغة جديدة داخل الزنزانة دون صوت مسموع، دقَّة مكتومة وأذنين تستمعان من وراء جدار، لغة كالتلغراف، كل خبطة تعني حرفًا، خبطة واحدة تعني «أ» وخبطتان تعنيان «ب» وهكذا، بعدد الحروف، تجمَّعت من الحروف كلمة ثم جملة، ودار حوار ممتع عبر الجدار، لقد تم التواصل دون الحاجة للكلام و كُسِر حاجز الصمت. 
كانت الكاميرا تنتقل في دمج لذيذ بين اليد وهي تدق على الحائط، فتبلغ الكلمات للحائط الآخر، حين تكونت أول كلمة رأينا ابتسامة رائعة، صارت الدقات المتشنجة تتألم من الخبط في سعادة، إنه ألذ وأمتع حوار يمكنك أن تراه في مشهد سينمائي، كدنا نقول «الله» ونحن نرى هذا الحوار البديع عبر الطرْق على الحائط، لقد صنعوا تلغرافًا عبر الحائط، لذة السماع ولذة الحوار، ولذة وجود الآخر الذي يتفاهم معك ويفهمك، ويشعرك أن في الدنيا حياة، مشاهد متقطعة متتالية في إبداع سينمائي مميز، ويبدأ الحوار «ميلاد مجيد يا رسو» «ميلاد مجيد لك أيضًا يا نانو» لحظة عيد الميلاد هي لحظة ميلاد اللغة داخل السجن، هي لحظة التحرُّر الداخلي، ونحن في استمتاع من لذة هذا الاختراع الذي صنع تواصلًا، كنا نظنه مستحيلًا، لغة الصمت.
ونشاهد أروع ما يمكن مشاهدته، لقد صاروا يلعبون الشطرنج، عبر هذا الدَّق على الحائط، وهذه اللغة، صار كل منهما يصنع رقعة شطرنج داخل مخيلته، نراها على الشاشة، من داخل رؤوسهم، نرى القِطع تتحرَّك داخل مخيلتهم، وربما ننسى للحظة أننا داخل سجن، لقد حّرروا عقولهم، ولعبوا أفضل الألعاب في العالم، دون قِطَع، ودون كلام، فقط في المخيلة الحرة، التي لا يمكن السيطرة عليها، مشهد رائع وبديع، لغة سينمائية رائقة تجعلك تستمتع بالنقرات على الحائط، حتى إننا استمعنا وعلمنا أخبار العالم الخارجي عن طريق هذه النقرات، لقد كانت المتنفَّس السينمائي الرائع لهذه الحبسة داخل الزنزانة. 
السجين خوسيه موخيكا والذي قام بدوره الممثل المتميز أنطونيو دي لا توري كان يستخدم عقله الحر في مخاطبة أمه بالتلباثي (التخاطر عن بعد) حتى يمكنه التواصل، كنا نستمتع بلحظات لذيذة بينه وبين والدته عن طريق التخاطر وكأنه يحدثها بالفعل، لقد تم استخدام لغة عقلية أخرى توحي بأن العقل الإنساني لا يمكن حبسه، وأنه سينطلق حتى داخل الزنزانة.
كان السجين موريسيو روسينكوف والذي قام بدوره الممثل تشينو دارين يريد أن يحصل على ورق ليكتب، وبتتبعه للسجَّان، استطاع الدخول في تفاصيل حياته العاطفية، كان السجَّان يعاني من علاقة عاطفية غير مكتملة، أقنعه موريسيو روسينكوف بأنه يمكنه أن يُحَسِّن له علاقته لو كتب له خطابًا، كانت هذه التفريعة في الفيلم وارتباط السجان بالسجين هما ما منحاه علاقة جيدة مع محبوبته، أما مشهد السجين وهو يشمّ الورق فقد كان بارعًا، لقد أدركنا الآن أن السجين هو من يتحكَّم في مشاعر السجان، وأن عواطف السجين أشد رهافة، لقد مارس حريته الخاصة عن طريق السجان، الواقع أن السجان هو في ذات الوقت مسجون، على الرغم من أن الصورة الخارجية تقول إنه حر، لكنه لا يستطيع مغادرة سجنه، وهو بالفعل مرتبط بسجينه بصورة كبيرة.

المهزومون يتوقفون عن القتال
الكاميرا تنتقل بين المساجين الثلاثة، كل في زنزانته، تكشف شخصية وذكريات كل سجين بمفرده، وفي الوقت نفسه تَعْرِض لنا تتابع الفيلم وكأننا في زنزانة واحدة، وكأننا نرى المشهد نفسه متكرِّرًا متكاملًا متتابعًا بثلاث شخصيات، يتفاعل كل واحد مع الحدث نفسه حسب شخصيته، فلا تنقطع الصلة بين المساجين الثلاثة، لقد أفلحت الكاميرا في استخدام عناصر الزنازين المتشابهة في الانتقال الناعم عبر الشخصيات والحدث، وكأننا نرى حدثًا واحدًا نتابعه عن طريق ثلاثة أشخاص، فالمشاهد مع كل واحد بمفرده، وفي الوقت نفسه هو مع الثلاثة، فمثلًا يعطى السجان الورقة لأحدهم، فيمد يده ليأخذها، فنراها في يد الآخر، وحين يقربها من الضوء ليقرأها نراها في يد الثالث، لقد علمنا أن الثلاثة وصل إليهم نفس المنشور في الوقت ذاته، وأن كل واحد يقرأ ما يقرأه زميله، بنعومة ومن دون تزيُّد سينمائي. 
مشهد بديع حين كان يتم رشهم بالماء، أجسادهم في منتهى القذارة، لكن السجين إليوتريو فرنانديز هويدوبرو استغل رشّ الماء وراح يشرب بعنف وشغف، لقد كان محرومًا من الماء سر الحياة، هذا المشهد من المشاهد البارعة التي تعبر عن الحرمان دون كلمة تقال، الحرمان من الارتواء.
روسينكوف في مشهد متميز عندما كان وراء القضبان تزوره أمه وابنته، رأينا في عينيه الحياة كاملة، الحياة كلها أمامه، كانت تعبيرات وجهه كاذبة، تعبيرات تحمل لابنته الفرح وهو يخبرها أنه يتنزَّه؛ حتى لا تنزعج من حقيقة ما يحدث له، وفي الوقت نفسه تُخْفِي ملامحه ألمًا شديدًا، كان لا يريد لابنته أن ترى آلام هذا العالم القاسي، كانت في داخله حسرة، ابتسامته ممزوجة بالحسرة، العذاب والتعذيب، المخرج في هذا المشهد كان مميزًا، حين طلبت منه ابنته أن يغلق عينيه كي ترتدي النظارة، انفتحت الشاشة أمامنا عن تفاحة في حديقة يقدمها لابنته وهي تحاول أن تقضمها، كنا نعلم أن هذا المشهد داخل عينيه، متعة رائعة، أكملها وجود الكاميرا على وجهه وملامحه وهو في غاية السماحة، أذهبت كل الكدر الموجود في روحه من داخل الزنزانة، في لحظة بسيطة عاشها تحول على سطح المشهد إلى إنسان بريء راض وناعم أمام ابنته البريئة.
حين رآه والده بعين الأب لم يكن لتخفى عليه التغيرات التي حدثت لابنه داخل الزنزانة حتى إنه صرخ مؤكدًا أنه ليس ابنه، وأُغْمي على الأب، لقد صُعِق الأب من العذابات التي رآها في روح ابنه، لقد أدرك الأب فورًا أن ابنه تغير وصار آخر، وسقط الأب من الصدمة.
من المشاهد المفرحة في هذه الكتمة الجسدية، مشهد إليوتريو فرنانديز هويدوبرو وهو يجري بكُرَة قدم متخيَّلة في رأسه والمساجين من داخل الزنازين عبر النوافذ يصفقون له، وهم يرون الكرة التي داخل مخيلته داخل مخيلتهم، يلعب بكرة وهمية، تتحوَّل إلى حقيقة حتى إنه حين يضرب الكرة ناحية السجَّان ينظر السجَّان إليها، لقد تحوَّل الخيال إلى حقيقة وصار كل شيء ممكنًا بالخيال.
وجاء مشهد النهاية بديعًا لحظة خروجهم من السجن...  قام المسجون بتنظيف أدوات السجن على الرغم من معرفته أنه تحرَّر، فقط يقول عن سبب تنظيفه الأواني:  «لكي يحصل عليها السجناء القادمون نظيفة» مما يخبرنا بأن هذا السجن لن يتوقف ولن ينتهي، وأن هناك مساجين سيأتون وسيعانون المعاناة نفسها، ينتهي الفيلم بالحرية، وأحضان حارة وانفراجة في مشاعر المشاهد التي ظلت طوال الفيلم تلعن حبس الحريات ■