فن التمثيل المسرحي بين «خيال الظل» المملوكي و«القراقوز» العثماني

فن التمثيل المسرحي بين «خيال الظل» المملوكي و«القراقوز» العثماني

قامت دولة المماليك في مصر سنة 648هـ/1250م، وامتدت إلى بلاد الشام والحجاز، وتصدت للخطر المغولي بانتصارها في موقعة عين جالوت سنة 658هـ/1260م وإنهائها الوجود الصليبي في بلاد الشام سنة689هـ/1290م بسقوط عكا آخر معاقل الصليبيين في بلاد الشام، وسقطت دولة المماليك في أيدي العثمانيين سنة 923هـ/1517م.

 

قامت الدولة العثمانية سنة 699هـ/1300م على يد عثمان بن أرطغرل، ونسبت إليه، وتوسعت في آسيا الصغرى وامتدت أملاكها إلى شرق أوربا، وأصبحت إحدى القوى العالمية في قرونها الثلاثة الأولى، وتصدّت للأخطار التي هددت العالم الإسلامي؛ فتصدت للتهديد الصليبي للعالم الإسلامي وخاضت حروبًا كثيرة مع الأوربيين كان النصر حليفها ثم أخذت على عاتقها حماية البلاد الإسلامية من الخطر البرتغالي في بداية تهديده للعالم الإسلامي خلال القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، وامتدت حتى زوالها في العصر الحديث سنة1924م.

العصر الذهبي لخيال الظل
تمثل مسرحيات خيال الظل وجود الروح المسرحية عند العرب التي كانت في حالة ركود إلى حين ظهور بوادر الحركة المسرحية الحديثة مطلع القرن العشرين، وكان العصر العثماني هو العصر الذهبي لخيال الظل أو «قراقوز» في الشرق الإسلامي، وساير خيال الظل كوسيلة تعبير جماهيرية الحياة الاجتماعية والفنية في هذا العصر خلال صعودها وهبوطها، وقد لاقى في بادئ الأمر من جانب الحكام والسلاطين والولاة حظوة وقبولًا.
ويقال إن خيال الظل لعبة هندية قديمة، امتدت جذورها إلى الصين أيضًا، وأقدم ما وصل إليه علمنا عن اشتغال العرب بها أنها كانت من ملاهي القصر بمصر في العصر الفاطمي، وقد أخرج السلطان الملك الناصر «صلاح الدين الأيوبي» من قصور الفاطميين شخوص «خيال الظل» ما يدل على أنها كانت موجودة في مصر قبل العصر المملوكي. وكان لسلاطين مصر ولعٌ بخيال الظل حتى حمله «السلطان شعبان» معه عندما حجَّ سنة ٧٧٨هـ مع ما حمله من الملاهي، وكان للناس شغف بخيال الظل في مصر حتى أوائل القرن الرابع عشر الهجري، فكانت له سوق رائجة في الأعراس، قلَّ أن يقام عرس لا يلعب الخيال في إحدى لياليه.
وكان سراة الناس وأثرياؤهم في أول الأمر يستقدمون المخايلين (اللاعبين بخيال الظل) في أحفالهم ولياليهم اللاهية مثلما يستقدمون كبار القصاص والمنشدين والمغنين، ما ساهم في تطور أداء لاعبي خيال الظل وانتشارها في المدن والقرى، وفي المناسبات الدينية في ليالي رمضان والمولد النبوي والاحتفال بالإسراء والمعراج، والمناسبات الاجتماعية مثل حفلات الزواج والختان، وكذلك في الأسواق كوسيلة من وسائل التسلية والترفيه.
لقد كان مؤلفو تمثيليات خيال الظل في البلدان الإسلامية يكتبون ويرتجلون لجمهورهم ما يخفف عنهم وطأة الحياة على حقيقتها وبشكلها العفوي البعيد عن تزويق الكتاب وخيالات الشعراء، ويعود الفضل في تدوين وتأليف تمثيليات خيال الظل إلى «محمد بن دانيال الموصلي» المتوفى سنة 710هـ، وكان شاعرًا ولغويًا وطبيبًا حلو النادرة، وقد أسماها «طيف الخيال»، وتتأرجح بين نثر مسجع أو غير مسجع، تخالطه أبيات من الشعر العامي أو الفصيح، ويعوزه التسلسل المنطقي، كما أنه يفتقر إلى موضوع أساسي وفكرة مركزة واضحة...  لكن على الرغم من هذه العيوب التي سادت هذا الفن في بداياته، فإننا نشهد من خلالها عرضًا كاملًا للنماذج البشرية في مصر خلال عهد المماليك وغيرهم، ففيهم الحاوي والطبيب والمنجم والواعظ والمشعوذ والعطار... وغيرهم.
وخيال الظل من الفنون المسرحية الشعبية التي انتشرت في المجتمعات في التاريخ الوسيط كوسيلة من وسائل التسلية والترفيه، وتعتبر أول محاولة عربية لكتابة المسرحية، وإذا كانت هذه المسرحيات مكتوبة لشخوص من الجلد المضغوط أو الورق المقوّى، فمضمونها يعكس الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واليومية لقطاعات واسعة من المجتمع. 
وتتلخص طريقة عرض تمثيليات خيال الظل في ابتكار نماذج وأشكال من الجلد أو الورق المقوى على صورة أشخاص أو عرائس ودمى توضع خلف ستارة بيضاء بحيث ينعكس ظلها على الستارة ليراها الناظرون من الجهة الأخرى ويختفي مقدم التمثيلية خلف الستارة لا يظهر ظله، وتحرك الأشخاص بعصا، وتردد العبارات التي توافق حركاتها على المسرح.
بينما عرائس خيال الظل من القماش مع الاستعانة بالجص والخشب والسلك والورق وعناصر أخرى كالقش أو القطن أو الجلد، وتلبس الشخوص ملابس الشخصيات المراد محاكاتها في التمثيل، ومن المعتاد أن يكون الوجه تركيبًا مضحكًا إما بأنف متضخم أو شفتين ورمتين أو صلعة رأس أو قفا عريض، ويتميز بصوت أجش ينفرد به عن بقية الشخصيات المشتركة، ولاعبه قد يضع في فمه شيئًا يغير الصوت حتى يوهم المتفرجين بأنه صوت خاص بخيال الظل الذي يتميز بالخفة واللباقة وحسن التخلص من المآزق بالتحايل واستغلال الخبث والدهاء.
والحوار في مسرحيات خيال الظل موزع على الشخصيات توزيعًا متناسبًا مع أفكار كل شخصية ومشاعرها ومنسجم مع تطور النص إلى غايته التي أرادها المؤلف، يتم ذلك بجمل قصيرة، بعيدة عن المونولوج المطول الذي يبعث على الملل، ويستهين النص بالزمان والمكان، وتشير المصادر الأدبية إلى تنوع الموضوعات التي يستخدمها فنانو الأداء التمثيلي في مسرحيات خيال الظل التي تحدد الفن الدرامي من خلال مواصفات عرض العلاقات الإنسانية، والقصة والجمهور، ووجود كل هذه العناصر ضرورية في مسرحية الظل.
وكان اللاعب أو المخايل الذي يرسم الشخصيات ويقوم بتقطيعها وترتيبها في الصندوق وفقًا لنسق ظهورها على الشاشة يخرج هذا المشهد التمثيلي إخراجًا بديعًا، وقد جرت العادة أن تقدم عروض خيال الظل في المساء فقط بعد انتهاء الناس من أعمالهم كوسيلة من وسائل الترفيه.
وقد جمع ابن دانيال مسرحيات خيال الظل في كتابه: «طيف الخيال»، وقد طبع بروح المجون والدعابة والولع بالنادرة العجيبة والنكتة اللاذعة؛ فأثمر ذلك في الفن التمثيلي الذي كان يعرف آنذاك بخيال الظل، فأظهر فيه تفوقًا وبراعة حتى شاع ذكره وتردد اسمه في أوساط العامة والخاصة وعطف عليه كبار رجال الدولة تقديرا لنبوغه الفني وموهبته النادرة؛ فدعوه إلى مجالسهم واتخذوه نديمًا يتحفهم بحكاياته الفكاهية ونوادره الطريفة، وكان يؤدي عروضه التمثيلية في الأماكن العامة كالحانات والشوارع والساحات وقصور الأمراء والسلاطين.
 وقد عرض ابن دانيال الشاعر أعماله كصورة موثقة لفهم طبيعة المجتمع المصري، فقد وظف موهبته الشاعرية في تصوير الحياة اليومية وتسجيل مشاهدها الواقعية، فكان شاعر الجمهور الشعبي المعبر عن نبض الشارع المصري.
وقد استخدم ابن دانيال الشعر والنثر المسجع، وكانت لغته فصيحة غالبًا، غير أن مسرحيات مماثلة لها في التاريخ كتبت بالعامية المصرية شعرًا ونثرًا مسجوعًا، ويعتبر المؤرخون نصوص بابات خيال الظل امتدادًا لفن المقامة عند بديع الزمان الهمذاني، غير أنه بتقدم الزمن استغنى عن الفصيحة والسجع، واستخدمت العامية المحلية استخدامًا واضحًا، فكانت كل مدينة عربية تحرّف النص بما ينسجم مع لهجتها، وبما يفهم فيها، بل كانت تعيد كتابته من جديد، وكلما استغني عن الفصحى قل الشعر وأصبح النثر سيدًا، وكانت الموسيقى والغناء يصاحبان العرض المسرحي، ويندمجان اندماجًا تامًا في طبيعته، ويشكلان أحيانًا تطورًا للقصة المروية.
يشير «أميلا بوتوروفيتش» (Amila Buturovi) إلى أن العرب لهم معرفة بالدراما قبل ابن دانيال، لكن من الصعب الادّعاء أنها متأثرة بالفن المسرحي اليوناني.
وربما انتشرت بعض المفاسد أثناء مشاهدة مسرحيات خيال الظل مما دفع السلطان المملوكي «الظاهر جقمق» سنة 855هـ/1451م إلى منع مسرحيات خيال الظل، وطلب من أصحاب خيال الظل حرق جميع ما معهم من الشخوص المصنوعة للخيال وكتب عليهم العهود بعدم عودتهم إلى ذلك.
وسرعان ما عادت تمثيليات خيال الظل مرة أخرى كوسيلة من وسائل الترفيه الاجتماعي. وقد انتشر خيال الظل بين الشرق والغرب وإن اختلفت مسمياته من مكان لآخر، حيث كانت تمثيليات خيال الظل إحدى وسائل التسلية والترفيه في المجتمع الإسلامي خلال العصر الوسيط، وقد أقبل على مشاهدتها والاستماع بها كل طبقات المجتمع حيث اقترنت بالعامة والبسطاء، فيروى أن السلطان سليم الأول العثماني كان يتسلى بمشاهدة خيال الظل.
 وعرف خيال الظل عند العثمانيين والذي يطلق عليه: القراقوز (Karagöz)، وتم تحويره إلى الأراجوز، فالقراقوز في المجال التركي يعني خيال الظل في المجال العربي ويساويه في مؤسساته الآلية والفنية مع وجود الفوارق الانطباعية الأساسية عمليًا وفنيًا، وتلك الفوارق التي تفرضها اللغة والبيئة بكل تراثها ومميزاتها. وكان عند العثمانيين أروج وسيلة في التسلية في رمضان للنساء والدهماء، واجتذبت أيضًا الطبقات العليا المثقفة وعددًا كبيرًا من السلاطين، وبلغ خيال الظل حظًا كبيرًا من الرقي والذيوع عند الترك. ويعتبر قراقوز التركي مثالًا ممتازًا على التصنيفات العرقية أو الجنسية أو الاجتماعية لمختلف الموضوعات العثمانية، وبالتالي يتم التلاعب بأوجه القصور في مسرحية الظل باعتبارها أنماطًا لتقوية العلاقات المجتمعية المتأصلة. 

اختلافها بين المجتمعات والأماكن
وقد تختلف مشاهد اللعبة وإتقانها من مكان لآخر، فقد تكون في مجتمع بدائية وفي مجتمع آخر على درجة عالية من الجودة والإتقان، وهناك ثمة إشارات تفيد بتأثير متبادل بين خيال الظل عند المماليك والعثمانيين، ولا يعني انتقالها من مكان إلى آخر أن اللعبة لم تكن معروفة في ذلك المكان، بل يعني اختلاف تطورها من مكان إلى آخر.
وهناك تشابه وتأثر في مجال تشكيل شخوص خيال الظل وطريقة أدائها عند المماليك وخيال الظل عند العثمانيين؛ فيشير «ابن حجر» إلى أنه في سنة 777هـ/1375م وصلت هدايا صاحب اسطنبول (إسطنبول) من الروم، وفي جملة الهدايا صندوق فيه شخوص له حركات، كلما مضت ساعة من الليل ضربت تلك الشخوص بأنواع الملاهي، وكلما مضت درجة سقطت بندقة.  الغريب أن ابن حجر العسقلاني توفي سنة852هـ/1448 قبل فتح القسطنطينية سنة 857هـ/ 1453م وإطلاق اسم إسطنبول عليها، ما يجعلنا نتساءل عن المقصود بـ«اسطنبول» الواردة في النص السابق؟، ويبدو أنها من إثبات نسّاخ الكتاب فيما بعد بدلًا من كلمة القسطنطينية. 
وهل المقصود بالروم الدولة البيزنطية أم العثمانية كما كانت المصادر تطلق (الروم) على العثمانية؟ وسواء كانت تطلق على البيزنطيين أم العثمانيين وهما متجاوران، فليس غريبًا أن يكون خيال الظل بنفس المستوى عند العثمانيين والبيزنطيين، نظرًا لتجاورهم، وانتقال ذلك الفن بينهما ليس صعبًا، خاصة أن العثمانيين قد توسعوا في الأراضي البيزنطية وورثوا نظمهم وفنونهم وأبقوا على كثير منها، ولم تتغير أنماط الحياة الاجتماعية كثيرًا، وأن خيال الظل عند البيزنطيين - كما يدل على ذلك تعجبهم من تلك الهدايا - أرقى منه عند المماليك، الأمر الذي أثار إعجابهم واندهاشهم. وقد انتقلت لعبة خيال الظل إلى الثقافة العثمانية كوسيلة من وسائل الترفيه والتسلية، وقد عرف خيال الظل في الثقافة العثمانية، ويعتبر مثالًا ممتازًا على الأنواع العرقية أو الأجناس الاجتماعية للعديد من الموضوعات العثمانية.
هناك رأي يشير إلى أن مسرحية خيال الظل انتقلت إلى بيزنطة عبر غرب آسيا ومصر، ثم شكّلت أساس مسرحية قراقوز التي تطورت على يد العثمانيين، وأن القصص الشعبية التي اشتهرت بها مثل قصة عنتر وبيبرس التي تقرأها وتستمع إليها الجماهير زمن المماليك. واتخذت «ألف ليلة وليلة»، التي وصلت إلى الخلود على الساحة الدولية بترجماتها شكلها الحالي في عهد المماليك.

بين المملوكي والعثماني
 أما مظاهر تأثير خيال الظل المملوكي في القراقوز العثماني، فلا يمكن القول على وجه اليقين بأن الترك استعاروا تمثيليات خيال الظل من المصريين على الرغم من وجود تشابه كبير بينهما.
وقد أعجب السلطان «سليم» عقب دخوله مصر بالمشهد التمثيلي الذي عرضته تمثيليات خيال الظل لشنق طومان باي، فيقول ابن إياس: «وفيه أشيع أن السلطان سليم شاه لما كان بالمقياس أحضر في بعض الليالي خيال الظل، فلما جلس للفرجة قيل إن المخايل صنع صفة باب زويلة وصفة السلطان طومان باي لما شنق عليه، ولما انقطع به الحبل مرتين، فانشرح ابن عثمان لذلك وأنعم على المخايل في تلك الليلة بمئتي دينار، وألبسه قفطانًا مذهبًا، وقال له إذا سافرنا إلى إسطنبول فامض معنا حتى يتفرج ابني على ذلك». 
ويعلّق إبراهيم حمادة على النص السابق بأن سليم أعجب بخيال الظل كأنه يراه لأول مرة، وهو غير ذلك؛ فيقول: «وهذه الواقعة تدل على أن الأتراك لم يعرفوا خيال الظل بالشكل المعروف حتى دخول سليم مصر سنة 923هـ، ولم يكن لهم علم بأصوله وأفانينه».
والحقيقة أن النص يشير إلى إعجاب سليم بالمشهد التمثيلي الذي قدمه صاحب خيال الظل، ولم يثر اهتمامه أو اندهاشه وجود خيال الظل كأنه يراه لأول مرة، ولا يحمل النص ثمة إشارة تدل على إعجابه بخيال الظل، بل بالمشهد التمثيلي فقط. 
 ثم نجده يناقض كلامه، فينفي معرفة العثمانيين خيال الظل ثم يثبته لهم بصورة بدائية، فيقول: «وهذه الواقعة تدل على أن الأتراك العثمانيين لم يعرفوا خيال الظل بالشكل المعروف وقتذاك حتى هذا التاريخ ولم يكن لهم علم بأصوله وأفانينه، ويؤيد ذلك الدكتور «جورج يعقوب» باعتقاده أن سليم أخذ معه بعض المخايلين ضمن الصناع الذين ارتحلوا معه إلى تركيا، وهذا لا يعني أن العثمانيين كانوا لا يعرفون خيال الظل، وإنما كان عندهم بصورة مختلفة، ومستواه أقل من مستوى خيال الظل فى مصر... والإشارات الواردة عن خيال الظل التركي قد دونت كلها بعد التاريخ الذي حمل فيه سليم الأول المخايلين المصريين إلى إسطنبول، ولا يعني ذلك أن معرفة العثمانيين بالخيال كانت منذ الفتح العثماني لمصر فقط».
 وهكذا أضحت مسرحيات خيال الظل وسيلة للترفيه والتسلية وتمثل مظهرًا فنيًا للإبداع المسرحي يمثل المنظور الاجتماعي والثقافي، ويتطلب أن يتم التعامل معها على أنها ظاهرة اجتماعية ديناميكية وغنية تخلق إحساسًا بالمجتمع من خلال إشراك الجمهور في الرسالة الدرامية ■