هل تغير مفهوم الصداقة في عالمنا الرقمي؟

هل تغير  مفهوم الصداقة في عالمنا الرقمي؟

«هذا الذي هو صديقك حقًا، يعينك في حاجتك إن حزنت يبكي وإن استيقظت فلا يستطيع النوم هكذا ومن كل حزن في القلب يحمل معك جزءا منه هذه مؤشرات معينة يجب معرفتها لنفرق بين صديق مخلص وعدو منافق».

 

هكذا تحدث ويليام شكسبير في تعريفه للصداقة الحقيقية في كتاب «الحاج الشغوف» The Passionate Pilgrim منذ ما يقرب من 500 عام وتحديدًا عام 1599. ومما لا شك فيه أن التفكير في طبيعة الصداقة قد رافق البشرية على مدى آلاف السنين، فكانت الصداقة كقيمة إنسانيّة أزليّة تحتل مكانةً محوريّة في إحدى أقدم الملاحِم في التاريخ حيث تحدثت «ملحمة جلجامش» البابلية عن الصداقة بين بطل الأسطورة جلجامش وصديقه إنكيدو الذي لطالما احتاج وجوده إلى جانبه ليعينه في مغامراته على الرغم من قوته الخارقة، والذي كان رثاؤه له محملاً بعاطفةٍ جيّاشة فائقة الشعريّة، جاءت تتويجا دراميا لقضيّة الصداقة، حيث هَوَى البطل الأسطوري جلجامش أمام صديقه إنكيدو الذي كان ينازع الموت، وقال:
«من أجل إنكيدو خلّي وصديقي أبكي وأنوح نواح الثكلى إنّه الفأس التي في جنبي وقوس يدي والخنجر الذي في حزامي، والمجن الذي يدرأ عنّي، وفرحتي وبهجتي وكسوة عيدي».
 وبعد ملحمة جلجامش بنحو ألفي عام تقريبًا عرض أرسطو في كتابه «الأخلاق النيقوماخية» لثلاثة أنواع رئيسية من الصداقات، فتحدث عن الصداقات التي ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ اللذة، وتلك القائمة على المنفعة وأخرى مرتكزة ﻋلى الفضيلة. وفي مكان قريب في الثقافة العربية نجد مفهوم الصداقة حاضرًا في كتاب العلامة الفيلسوف أبو حيان التوحيدي الذي يحمل عنوان «الصداقة والصديق»، والذي يقول فيه عن الصديق إنه «مثل الروح لصاحبه، يحييه بالتنفّس، ويمتعه بالحياة ويريه من الدنيا نضارتها، ويوصل إليه نعيمها ولذّتها».
 
الصداقة بين اليوم والأمس
وهكذا، وفي مختلف الحضارات، استمر البشر في التفكير في طبيعة الصداقة لآلاف السنين، لكن السؤال الذي يبرز هنا: لماذا يسعى البشر إلى تكوين أصدقاء، وما أهمية الصداقة في حياتنا؟
 تحاول دراسة حديثة نُشرت في مجلة «العلاقات الشخصية» Personal Relationships عام 2020، استكشاف الأسباب التي تدفعنا إلى تكوين صداقات، وخلصت إلى تحديد خمسة عوامل أساسية هي: السعي إلى الدعم النفسي والمعنوي، والبحث عن سمات مرغوب فيها في أشخاص آخرين، ومن أجل التفاعل الاجتماعي، وأخيرًا من أجل النجاح المهني، إن كان من حيث التعامل مع الزملاء في العمل أو من أجل الوصول إلى منصب معين. 
لكن بغض النظر عن الأسباب فقد تغيرت طبيعة الصداقة عبر العصور لا سيما اليوم في عصرنا الرقمي، حيث اختلفت اختلافًا كبيرًا عما كانت عليه في الماضي خاصة مع دخول الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي على تنوع أشكالها، مما يطرح مجموعة من الأسئلة المهمة: ما مدى الاختلاف في الصداقة بين اليوم والأمس؟ هل الاختلافات في الطرق التي نتفاعل بها مع أصدقائنا اليوم مقارنة بالجيل السابق هي مجرد اختلافات سطحية؟ أم إن هناك شيئًا ما يتعلق بالصداقات المعاصرة يختلف اختلافًا جوهريًا عن صداقات الزمن الماضي، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن تستمر الصداقة في التغير في المستقبل؟
من الشائع هذه الأيام الشكوى من أن الصداقات ليست كما كانت عليه في الماضي، فالمطاعم ممتلئة بأشخاص يجلسون معًا وهم يحدقون في هواتفهم بدلًا من التحدث مع بعضهم البعض، وثقافة الصور الشخصية قد حولتنا إلى أشخاص نرجسيين يهتمون بإدارة العلاقات العامة الخاصة بهم أكثر من التفاعل مع الآخرين، كما أن صداقات اليوم أصبحت مشروطة إلى حد ما أكثر مما كانت عليه في الماضي، حيث أصبحنا ننظم أنفسنا عبر الإنترنت في ما يعرف بـ«غرف الصدى» التي تضم أفرادًا متشابهين في التفكير، حتى كلمة «صديق» نفسها تم تغييرها بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي بحيث أصبح لها معنى جديد إذ إننا بتنا نصبح أصدقاء لشخص ما بمجرد النقر على خيار «قبول» في طلب صداقته دون الحاجة حتى إلى إلقاء التحية عليه. وكل ذلك يؤدي الى القلق من أن الصداقة الحقيقية آخذة في التدهور، وأن التكنولوجيا الحديثة هي السبب. 

مخاوف قديمة جديدة
لكن قبل الغوص في استكشاف التغيير الذي تحدثه التكنولوجيا الحديثة في طبيعة الصداقة تجدر الإشارة هنا إلى أن القلق بشأن الآثار السلبية للتكنولوجيا الحديثة على الصداقة قديم قدم الكلمة المكتوبة، وقد يكون، في الواقع، حتى أقدم من ذلك. فبالنسبة لسقراط، كانت الكلمة المكتوبة بحد ذاتها جزءًا من المشكلة بحيث إنه منذ أكثر من 2000 عام عبر سقراط عن شكوكه من أن كتابة الرسائل لن تكون طريقا سليما للحكمة، مفضلًا التفاعل وجهًا لوجه مع أقرانه. وفي بداية القرن العشرين أُثيرت مخاوف من أن الهواتف الأرضية ستؤدي إلى إضعاف التفاعل الاجتماعي وتعزيز السلوكيات الاجتماعية غير الصحية. ومما لاشك فيه أنه من المنظور المعاصر  يتم اعتبار التواصل من خلال الرسائل أو الهواتف أفضل بكثير مما يمكن الحصول عليه من تواصل عبر منصات التواصل الاجتماعي، ومثل هذه المخاوف تعتبر غريبة تماما لأننا، على العكس، نعتبر أن الرسائل والتخابر بالهاتف بين الأصدقاء البعيدين هي بالضبط أنواع التواصل المفيدة التي يخشى المتذمرون من وسائل التواصل الاجتماعي اليوم من أن تموت وتندثر.
فهل وسائل التواصل الاجتماعي تهدد الصداقة أم تعززها؟  في ورقة بحثية قامت بها المتخصصة في فلسفة التكنولوجيا شانون فالور Shannon Vallor التي حاولت من خلالها دراسة ما إذا كانت أنواع الصداقات التي يكونها الأشخاص على منصة فيسبوك يمكن أن تكون صداقات حقيقية، وخلصت إلى أنه نعم، بالفعل يمكنها أن تكون كذلك. وقد استندت في استنتاجها هذا إلى أنه من خلال فيسبوك لا تخسر الصداقة أيا من مقوماتها الأساسية ولا حتى تلك التي حددها أرسطو منذ ما يفوق 2000 عام وهي فضائل متعلقة بالمعاملة بالمثل والتعاطف ومعرفة الذات (بمعنى فهم مكانتنا في العالم، بما في ذلك مكانتنا في علاقاتنا مع الآخرين) والعيش ضمن حياة مشتركة.

حين تتغلب الكمية على النوعية
على الرغم من نتائج هذه الدراسة «المتفائلة» باستطاعتنا تحديد مخاوف معينة يمكنها أن تنتقص من قيمة الصداقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. أولها له علاقة بحقيقة أن وسائل التواصل الاجتماعي تشجعنا على تفضيل الكمية على النوعية وعلى عرض صور تظهر الكمال الخادع على حساب تكوين روابط جدية وعميقة. وهنا يمكن الإشارة إلى ما كتبه الفيلسوف اليوناني «بلوتارخ» منذ ما يقرب من ألفي عام في مقال بعنوان «في وجود العديد من الأصدقاء» بحيث قال:
«ما هي الصداقة إذا؟ إنها النوايا الحسنة والكرم جنبًا إلى جنب مع الفضيلة، والتي لا يوجد شيء أكثر ندرة منها في الطبيعة. وبالتالي فإن الصداقة المتبادلة القوية مع العديد من الأشخاص أمر مستحيل لأنها تمامًا مثل الأنهار التي تتدفق بشكل قوي ومن ثم تضعف عندما تتفرع بسبب الأغصان والقنوات الفرعية، فإن الصداقة تكون قوية بشكل طبيعي في الروح لكن إذا تمت تجزئتها بين العديد من الأشخاص تصبح ضعيفة وتفقد معناها». وفي وقت قريب، وفيما يتعلق بتشعب الصداقات، قام عالم الأنثروبولوجيا البريطاني روبن دنبار بدراسة مجموعات اجتماعية مختلفة على مر القرون، ووجد أن عدد الروابط الاجتماعية المستقرة التي يمكن للأفراد الحفاظ عليها يبقى ثابتًا إلى حد ما عند حوالي 150، وهذا الرقم - الذي أصبح يُعرف باسم «رقم دنبار» - يشير إلى «عدد الأشخاص الذين نعتبرهم أصدقاء غير رسميين قد ندعوهم الى حفل كبير نقيمه»، حسب قول دنبار. ولكن ذلك لا يمنع من أن يكون هناك تقسيمات فرعية داخل هذه الروابط الـ150 بحيث يميل كل فرد إلى أن يكون لديه ثلاثة إلى خمسة أشخاص يشكلون نواة صغيرة لأصدقاء مقربين قد يلجأ إليهم في أوقات الشدة، بالإضافة إلى «مجموعة تعاطف» تتكون من 12 إلى 15 شخصًا «سيتسبب موتهم المفاجئ في صدمة لنا»، على حد تعبير دنبار. لكن دنبار يقول بأن هناك صعوبة في توسيع هذه المجموعات لأننا ببساطة نفتقر إلى القدرة المعرفية لذلك، هذه القدرة المعرفية التي لها علاقة بالمعالجة الذهنية للمعلومات بما في ذلك الانتباه والذاكرة والإدراك والقدرة على اتخاذ القرارات. وكل ذلك له علاقة بقدرتنا على تكوين صداقات عبر الإنترنت، بحيث تبقى الأعداد الكبيرة التي قد تتجاوز الآلاف في بعض الأحيان (التي يفتخر بعض الأشخاص بتكوينها عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي) تفتقر إلى مكونات الصداقة الحقيقية التي تتطلب أكثر بكثير من مجرد كبسة زر واحدة أو إلى تعليق سطحي عابر، إذ تستوجب تواصلًا مباشرًا يمكننا معه قراءة الأحاسيس والمشاعر والتعاطف وخوض التجارب المشتركة. 

الصداقة وغرف الصدى
من جانب آخر، يخشى الكثير من الناس من تجمع الأصدقاء عبر الإنترنت في ما بات يعرف بـ«غرف الصدى»: تلك المجموعات من الأفراد المتشابهين في التفكير التي يتم فرز الأشخاص فيها مما يؤدي إلى الحد من التلاقح المتبادل للأفكار بحيث يصبح الناس أكثر استقطابًا وتشبثا بآرائهم. 
يقول ستيفن هوكينغ، أحد أبرز علماء الكونيات في العالم «إننا جميعًا متصلون ببعضنا بفضل الإنترنت مثلما ترتبط الخلايا العصبية ببعضها في الدماغ العملاق»، ولكن ما لم يذكره هو نوع الدماغ الذي يربطنا جميعًا. وهنا يمكن الإشارة هنا إلى أن إحدى الخصائص الأساسية لمرض التوحد الناتجة عن كثرة نقاط الاشتباك العصبي بين خلايا الدماغ، هي الحاجة إلى التشابه، وهذه الحاجة إلى التشابه والتجانس هي وصف مناسب لمجتمع العصر الحديث الذي تتفاقم فيه مسألة التجانس بسبب الترابط الذي توفره تكنولوجيا الإنترنت. وبينما تم الإعلان عن الإنترنت في الأصل على أنها «الموحِّد العظيم» للإنسانية، فقد أدى انتشار «غرف الصدى» اليوم إلى تقليص قدرتنا الجماعية على التواصل مع الأشخاص الذين تختلف معتقداتهم وأيديولوجياتهم عن معتقداتنا وأيديولوجياتنا نحن. ومنذ عقدين من الزمن تقريبا قام عدد من الباحثين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في الولايات المتحدة الأميركية بإطلاق تحذيرات مرتبطة بالمخاطر المحتملة من كون العالم متصلا بهذا الشكل بالإنترنت. وقد عبروا عن ذلك بالتحديد كالتالي:
«قد يشكل الأفراد الذين يمتلكون القدرة على حذف المواد التي لا تتوافق مع تفضيلاتهم الحالية، مجموعات افتراضية ويقومون بعزل أنفسهم عن وجهات النظر المعارضة ويعززون تحيزاتهم. يمكن لمستخدمي الإنترنت البحث عن تفاعلات مع أفراد متشابهين في التفكير يكون لديهم قيم متشابهة، وبالتالي يصبحون أقل احتمالًا للثقة بالقرارات المهمة التي قد يتخذها أشخاص تختلف قيمهم عن معتقداتهم وطريقة تفكيرهم».
لكن، من وجهة نظر الصداقة لطالما ساد الاعتقاد بأن الصداقة يجب أن تكون أعمق من المصالح والاهتمامات المشتركة لذلك فإننا لطالما تأثرنا بقصص الصداقات والعلاقات الرومانسية بين أشخاص من مجموعات مختلفة بل متعادية أحيانًا، مثل قصة الحب الأكثر شهرة بين روميو وجولييت اللذين ينتميان إلى عائلات متناحرة، وقصة الصداقة بين نيلسون مانديلا، أثناء سجنه بتهمة التآمر للإطاحة بحكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وحارس سجن أبيض شاب مؤيد للفصل العنصري، والتي كانت محور فيلم «وداعا يا بافانا». ومثل هذه الأمثلة توضح أننا مفتونون بفكرة النظر إلى أبعد من آراء واهتمامات أصدقائنا ومحبة الشخص بغض النظر عن ذلك.

مفهوم الصداقة الفعلية
أخيرًا، يمكننا القول بأنه نعم لقد تغيرت طبيعة الصداقة في عالمنا الرقمي وفي ظل طغيان وسائل التواصل الاجتماعي وأنها قد تتغير أيضا في المستقبل مع ما قد يطرأ من تغيرات قد يدخلها عالم التكنولوجيا المتطور سريعا، والذي جعل بعض البشر يعقدون صداقات مع الروبوتات، ولكن يبقى القول بأنه يجب علينا دائما العودة الى تحديد مفهوم الصداقة الفعلية والسعي إلى المحافظة على المهارات الاجتماعية التي قد يسلبنا إياها التواصل الرقمي المستمر لنتمكن من الارتباط مع أشخاص نختبر معهم أبعاد الصداقة الفعلية ■