الأعمال التجارية المستدامة ربح وخير

 الأعمال التجارية المستدامة   ربح وخير

في استجابة لما يشهده كوكب الأرض من تدهور ومظاهر سلبية نتيجة للخيارات غير المستدامة للشعوب والحكومات - التي عادة ما تهتم بالمكاسب المادية العاجلة، وتقيس الرفاهية والتنمية بالناتج المحلي الإجمالي من دون حساب التكاليف الاجتماعية والبيئية المصاحبة- ظهرت أشكال جديدة من المنظمات الهجين التي تجمع بين مخاطبة قضايا اجتماعية وبيئية والربحية من أجل الاستمرار والازدهار وتكوين الثروات الخاصة. وذلك بعد أن كان الربح مقصورًا على القطاع الخاص، بينما يتحمل القطاع الحكومي جل تكاليف الاهتمام بالقضايا البيئية والمجتمعية.  تعد منظمة «بي لاب» - B Lab - واحدة من هذه المنظمات التي تتبنى نماذج أعمال تحرص على خلق قيم اقتصادية واجتماعية وبيئية في الوقت نفسه، مع إمكانيات لاقتراح حلول مستدامة وملموسة للمشكلات الملحة.  

 

قادت «بي لاب» حركة «بي كورب»- B Corp  التي ولدت على أيدي ثلاثة أصدقاء تزاملوا في جامعة ستانفورد الأمريكية، وحققوا بعد تخرجهم نجاحات مهنية ملحوظة في إدارة الأعمال. وأدركوا أن هذه الأعمال بحاجة إلى تغيير على نحو ما. فقد كان أحدهم - جاي كوين جيلبيرت - من مؤسي شركة AND1 الناجحة لأحذية وملابس كرة السلة. وكان الثاني -بارت هولاهان - مصرفيًا، التحق مؤخرًا بالشركة نفسها، وصار رئيسها. أما الثالث - أندرو كاسوي - فقد سبق له أن أدار استثمارات شركة «مايكل ديل»، قبل أن يغوص في عالم ريادة الأعمال الاجتماعية والمستدامة. 
 
الأفضل للعالم  
طرح الأصدقاء الثلاثة أسئلة مهمة تتعلق بجدوى ملاحقة المكاسب قصيرة المدى التي لا تنتهي، وسألوا: لماذا لا تستطيع الأعمال حماية موظفيها أيضًا وإثراء حيواتهم؟ ولماذا لا تستطيع التركيز على مساعدة مجتمعاتها المحلية؟ ولماذا لا تستطيع الالتزام بالمسؤولية البيئية كمبدأ أساسي لا تحيد عنه؟ وتوصلوا معًا إلى استنتاجين أساسيين:
-1 تستطيع الأعمال أن تؤثر على المجتمع إيجابيًا بصورة كبيرة. -2 لا تسمح المؤسسات الداعمة للأعمال حاليًا بالاستفادة من تلك الإمكانيات نتيجة لقيود قانونية وثقافية.  وفي ضوء ذلك قرروا ابتداع علاج للمشكلة، بإيجاد طريقة لتوسعة الأعمال، وتوفير سيولة، مع الاحتفاظ بالإخلاص للرسالة الاجتماعية. وأسسوا عام 2006 منظمة «بي لاب» غير الهادفة للربح، وكرسوها لإعادة تعريف الأعمال كمنافسة لا لتكون «الأفضل في العالم» ولكن «الأفضل للعالم». وطور فريق «بي لاب» مدخلًا يدور حول الشفافية والمحاسبية الاجتماعية والبيئية للشركات، نظرًا لأهميتها لإثبات حسن النوايا، ونيل ثقة حملة الأسهم، والمستهلكين، والموظفين على حد سواء.  
ولنجاح المهمة واستمرارها كان لابد من تحقيق مكاسب للشركات، في إطار نوع جديد من الشراكة التي تمنح منافع اجتماعية بصورة قانونية، وتضمن حقوق العاملين والمجتمع والبيئة، إلى جانب استفادة المساهمين، كأن تستفيد من منصات وأدوات تسويقية تزيد من مبيعاتها، وتنشر طبيعة مهماتها وأنشطتها، لتحقيق هدفي الثروة خاصة، وإحداث تأثير أكبر لجعل العالم أفضل.  

ثلاث مبادرات
بدأ الأصدقاء الثلاثة العمل مع 19 شركة من الرواد في صيف 2007. ثم ارتفع العدد إلى 81 من الأعضاء مع نهاية العام المذكور.  وأخذت الحركة في الانتشار حتى أصبحت اليوم تضم أعضاءً من 83 بلدًا، يمثلون 156 مجالًا صناعيًا، وأكثر من 432 ألفًا من العاملين في أكثر من 5250 شركة، ملتزمة جميعها نحو مساهميها ونحو المجتمع بأفضل أداء اجتماعي وبيئي، وأعلى مستويات الشفافية والمحاسبية. بات الهدف المتفق عليه هو العمل معًا من أجل الوصول إلى نظام اقتصادي يؤيد الشمول والعدالة والتجدد للجميع، من منطلق إيمان راسخ بإمكانية استخدام الأعمال كقوة من أجل الخير والصالح العام.  
هذا، وتطلب إحداث التغيير المنظم باستخدام قوة القطاع الخاص لخلق قيم اقتصادية اجتماعية وبيئية العمل على ثلاث مبادرات من خلال «بي لاب» لتجهيز بنية تحتية، ودعم قطاع الأعمال الاجتماعي الجديد:
 الأولى: بناء مجتمع من الشركات الحاصلة على شهادة بي، بعد مقابلة معايير محددة، وإثبات تميز الأداء وتوافر الشفافية والمحاسبية. 
الثانية: بنية تحتية قانونية، وحوافز للأسواق، بتشجيع كيان أعمال قانوني جديد - «Benefit Corporation» - لحماية الشركات التي تتبنى رؤى ومهمات اجتماعية أو بيئية قانونيًا، وتمكينها من بلوغ أهداف أسمى من مجرد الربح. 
الثالثة: تطوير وتوفير نظام ترتيب عالمي للأثر الاجتماعي والبيئي للشركات جي إل إل - Global Leadership Lab - لتشجيع الاستثمار المسؤول. 
ويشترط الانضمام لعضوية «بي كورب» الحصول على 80 نقطة من أصل 200 نقطة، وفقًا للحجم، وتوافر عوامل معينة - يتراوح عددها بين 130 و180 في مجالات كالحوكمة، والشفافية، والمحاسبية؛ وما يتعلق بالعاملين، وتعويضاتهم وتدريبهم وملكيتهم للكيانات التي يعملون بها، وبيئة العمل؛ وما يتصل بالمجتمع والممارسات البيئة من منافع تقدمها المنتجات أو الخدمات. 

نماذج من أعمال بي كورب 
تتنوع أنشطة أعمال الشركات الأعضاء «بي كورب» بينما تجتمع على السعي نحو خير البشرية والأرض. وفيما يلي نماذج لبعض الأعمال: 
كاريوما Cariuma تأسست من جانب مجموعة من المديرين التنفيذيين السابقين في صناعة الأحذية في ريو دي  جانيرو بالبرازيل. وهي عبارة عن ماركة أحذية رياضية، تركز على الاستدامة. فهي صناعة يدوية، تستخدم خامات طبيعية، وتشحن بضاعتها في علب الأحذية مباشرة، بدون مواد تغليف إضافية. وتعادل انبعاثات الكربون، بدفع مبالغ لتمويل أنشطة مستدامة كزراعة الأشجار. وتطلق على مجموعة منتجات لديها بالمجموعة العضوية. وترفع شعارات مثل: «أرض سعيدة، أقدام سعيدة». و«اشتر  زوج أحذية وازرع شجرتين». 
تومس Toms، الأمريكية التي تصنع أحذية بسيطة صديقة للبيئة. فتستخدم مواد طبيعية كالقطن العضوي مئة في المئة، والقطن المعاد تدويره، والبوليستر المعاد تدويره. وتعتزم استخدام قطن مستدام بنسبة مئة بالمئة مع حلول 2025. كما تغلف منتجاتها بمواد معاد تدويرها بنسبة 80 في المئة. وتعمل على خفض بصمتها الكربونية. وهي ملتزمة أيضًا بتخصيص ثلث أرباحها للخير، من خلال التبرع بزوج من الأحذية في مقابل كل زوج أحذية يباع، إضافة إلى تبرعات نقدية لمؤسسات خيرية. ونجحت في استثمار مليوني دولار في التأثير الإيجابي على حياة مئات الآلاف من الناس العام الماضي. 
إيسوب Aesop تأسست في ملبورن بأستراليا، وهي عبارة عن ماركة للعناية بالبشرة مع مستخلصات للشعر والجسم مصنعة من مكونات نباتية نظيفة. انضمت إلى «بي كورب» في 2020. وتحرص على التبرع بمنتجات، وتجمع تبرعات لصالح مؤسسات خيرية، كما تملك مؤسستها الخيرية الخاصة.  
ليسا Leesa التي تعتبر واحدة من الشركات الرائدة في تجارة المراتب. وتتمتع بتأثير اجتماعي قوي، حيث تتبرع بمرتبة في مقابل كل عشر مراتب تقوم ببيعها. وسبق أن تبرعت بـ 37 ألف مرتبة للمحتاجين.  
ذي بودي شوب The Body Shop، انضمت إلى «بي كورب» في 2019. ولكن منذ تأسيسها في النصف الثاني من السبعينيات نظمت حملات خيرية، وعقدت شراكات مع مئات النساء لتوفير مواد طبيعية تدخل في منتجاتها.  
بروس Prose للعناية بالشعر، التي بدأت عام 2017، وانضمت إلى «بي كورب» في 2019. وما يميز منتجاتها أنها حسب الطلب، حيث يستخدم المؤسسون خبراتهم التسويقية في إطار إستراتيجية رقمية، ويدعمون البحث والتطوير بالتعاون مع شركات كبرى، ليقدموا في النهاية نموذج أعمال قائما على البيانات والمكونات من مدخل تكنولوجي صيدلي، يقدم منتجات نظيفة وملائمة للحاجات الفردية. كما تقدم استشارات مجانية على موقع الشركة. 
تنتري Tentree لملابس النزهات الخارجية التي تزرع عشر أشجار لكل منتج تبيعه. وتساعد المجتمعات حولها في دعم الاقتصادات المحلية المستدامة. ونجحت في زراعة أكثر من 57 مليون شجرة. وتستهدف رفع هذا العدد إلى مليار شجرة مع حلول 2030.  يونايتد باي بلو United by Blue ماركة ملابس وإكسسوارات من مواد مبتكرة مستدامة. وتسهم في إزالة. 
رطلًا من القمامة من المحيطات والممرات المائية في مقابل كل منتج تبيعه. وتعمل على منع استخدام البلاستيك أحادي الاستخدام في عملياتها التجارية. وتشارك الناس في أعمال التنظيف. 
ان كومن غود UncommonGoods التي تتعاون مع الفنانين لإبداع هدايا مستدامة مميزة من مواد معاد تدويرها. وتقوم بتغليفها بطريقة صديقة للبيئة.  ونجحت في تأسيس كيان يشجع العملاء على التبرع بدولار مع كل طلب. كما ساهم نموذج الأعمال من أجل الخير هذا في توفير فرص عمل، وفرص تدريب ومنح للطلاب. إلى جانب الدعوة لرفع الحد الأدنى للأجور، مع إجازات مدفوعة الأجر في نيويورك وولايات أخرى. 
امبورد MPowerd التي تتخذ من نيويورك مقرًا لها، وتقدم منتجات مبتكرة منخفضة التكلفة  تساعد على توفير الطاقة النظيفة. ومن أشهر منتجاتها المصباح الشمسي، وشاحن الهاتف المحمول الشمسي. وتتميز بتشجيع عملائها على التبرع بمنتجاتها لمنظمات غير ربحية حول العالم من خلال 700 شراكة إستراتيجية تتمتع بها.
فود نيشن Food Nation، شركة انضمت هذا العام لحركة «بي كورب»، تعمل على مهمة إعادة تعريف الغذاء الجيد، بوضع المزيد من الخضر والمكونات الطازجة في مزيد من الأطباق من أجل صحة البشر والكوكب. إلى جانب مساندة الراغبين في افتتاح مطاعم، ودعم رواد الأعمال في مجال الأغذية.  
هذا، وتتعاون «بي كورب» مع حركات أخرى لتكون الأعمال قوة من أجل الخير. وتؤكد أنها لن تتوقف حتى تنضم جميع الأعمال لهذه القوة الخيرة؛ على أمل أن ينجح العمل الجمعي يومًا ما في وقف «سرقة المستقبل، وبيعه في الحاضر، ثم تسميته بالناتج المحلي الإجمالي» حسب وصف الناشط البيئي ورجل الأعمال الأمريكي بول هاوكين ■