ما بين الفلسفة والتفلسف

ما بين الفلسفة والتفلسف

شغف الحياة يكمن في السعي نحو الكشف عمّا ورائيات العالم وأسراره، فحب الحكمة يخلق بشرًا محبّين لكل معارف الحياة وفي شتى المجالات، وللفلسفة القدرة على ردم الهوّة بين الحياة الجامدة الواقعية والحياة المتجددة المغايرة للروتين الثابت.
الحقيقة ليست حكرًا على أحد دون الآخر، فكل منا يملك جزءًا منها معتقدًا بذلك أنه يمتلكها كاملة، وهذا ما يذكّرني بقول جلال الدين الرومي: «كانت الحقيقة مرآة بيد الله، سقطت فتحطّمت، كل شخص أخذ قطعة ونظر إليها... فظن أنها الحقيقة كاملة».
الإنسان بطبيعته كائن فضولي متسائل، يريد الإجابة الواضحة على جميع تساؤلاته، سواء كانت تساؤلات يمكن الإجابة عنها أم لا، لذلك فهو يفحص واقعه الذي يعيش فيه بكل الأدوات المتاحة له، فتراه لا يستريح لحظة واحدة دون التنقيب عن كل أسرار ومعاني الحياة، لكننا مهما جاهدنا في السعي وراء كل مسائلها لن نبلغ إلا مقدار ذرة بسيطة من غبار هذا العالم الشاسع.
في المجتمعات العربية والإسلامية تحديدًا هناك غالبية عظمى تتعاطى مع الفلسفة على أنها نوع من أنواع الزندقة والتفكير المحرّم، إذ لا يمكننا الخوض فيها لأنها تناقش مواضيع حسّاسة تكون حكرًا فقط على فئة من نخبة المجتمع، والتي تحتوي على الكثير من الخطوط الحمراء. 
إن الفلسفة رغم جمودها الظاهري إلا أن في عمقها أسمى معاني الوجود الإنساني والروحاني، فإذا أخذنا مواضيعها المعتادة نراها تحلل الوجود الإنساني وطبيعته، وبذلك فإذا عرف الإنسان نفسه كما ينبغي فقد عرف ربه كما يجب، إنها لا تبعدنا عن الدين مثلما يعتقد البعض بل إنها أقرب وسيلة يمكننا من خلالها إثبات وجود الله عز وجل، فكما يقول ابن رشد «الحكمة صاحبة الشريعة، والأخت الرضيعة لها»، وهذا إن دل على شيء فيدل على أن الفلسفة والدين لهما خطان متوازيان يلتقيان في بؤرة الحقيقة، حقيقة الإنسان وخالقه.
وما بين الفئة التي ترى التطرّق للفلسفة أمرًا محرّمًا، هناك فئة أخرى تحتكر المعرفة لنفسها ولمن هم على شاكلتها، فلا تقرأ إلا خطًا واحدًا من القراءات، وتختار المفردات التي تحتاج إلى المعاجم حتى تفك رموزها، فتراهم مختالين بأنفسهم لا يرون مَن هم أقل منهم، ولا يمكنني إلا استحضار قول الشاعر العباسي أبي نواس عن تلك الشريحة: «فقل لمن يدّعي في العلم فلسفةً... حفظت شيئًا وغابت عنك أشياءُ».
وأخيرًا، فإن الفلسفة تشمل جميع نواحي الحياة، فيتواضع المرء رغمًا عنه بل ودونما شعور منه لأنه لم ولن يبلغ منتصف الطريق نحو الحقيقة! ■