الحور والنور

الحور والنور

لم ألقَ الدكتور عبدالرحمن بدوي مرة، وقد لقيته كثيرًا في بيروت وفي الكويت، إلا وسألتُه عن اسم بطلة روايته «الحور والنور» وهي رواية عاطفية باردة تتحدث عن علاقة له جرت في بيروت مع سيدة لبنانية إبان تدريسه الفلسفة الإسلامية في معهد الآداب الشرقية أواخر الأربعينيات من القرن الماضي. في كل مرة كان بدوي يستمع فيها إلى سؤالي كان يقول لي على الفور القول نفسه: «إن لبنانيين كثيرين سألوني السؤال نفسه ولم أجب عنه، ولن أجيبك اليوم بالطبع».
وأذكر أنني رويت يومًا ما قاله لي الدكتور عبدالرحمن بدوي للأستاذ منح الصلح المفكر اللبناني المعروف الذي حضر بعض محاضرات بدوي في معهد الآداب الشرقية فقال لي: «الحور والنور» رواية ولو في الحدّ الأدنى هي تعتمد على الخيال وليس فيها من الواقع إلا نقطة انطلاق لا أكثر. وأتصور - والكلام للصلح - أن بدوي التقى في بيروت، سواء في معهد الآداب الشرقية أو في سواه، سيدات لبنانيات مثقفات، وأن إحداهن، وكانت ذات جمال، لفتت نظره وتبادل معها حديثًا رقيقًا في أكثر من مناسبة، «فكبرت» المسألة عنده وتصوّر ما تصوّر، وجعل خياله ينسج ما نسج في «الحور والنور». والرسائل التي نشرها في روايته وقال عنها إنها رسائل متبادلة بينه وبين صديقته كله من تأليفه.
الواقع أن بدوي لم يكن مجرد باحث أو فيلسوف لغته جافة أو مقعرة على الدوام، بل كان في بعض ما كتب أديبًا موهوبًا. يتضح ذلك من مذكراته التي نشرها قبل وفاته وبخاصة مما رواه عن مغامرات عاطفية له مع فتيات أوربيات كان يتعرف إليهن في الحدائق العامة ويجالسهن على تلك المقاعد الخشبية ويغازلهن ثم يتفرق العشاق إن صح أن تلك الجلسات العابرة جلسات عشق ووله.
ولا شك أن السيدة اللبنانية التي كتب بدوي عنها كتابًا كانت أسعد حظًا من سيدتين لبنانيتين لم يظفرا من عباس محمود العقاد إلا بكتاب واحد، فقد خصص العقاد قصته «سارة» لعلاقة جمعته بهاتين السيدتين في وقت واحد. الأولى لم يختلف حبه لها عن حب بدوي في «الحور والنور» إذ كان عذريًا محضًا. أما الثانية فقد أذاقته الحلو والمرّ على التوالي ولم يشْفَ من حبّه لها إلا بمرور الزمن. ولعل الفرق بين «الحور والنور» وبين «سارة» أن الأول يغلب عليه طابع المراهقة والخيال، في حين أن الثاني أقرب إلى التحقيق الواقعي منه إلى أي شيء آخر.
على أن حكم منح الصلح على «الحور والنور» وعلى طبيعة العلاقة العاطفية بين بَطَلَيها حكم لا يحوزه الصواب. لقد تخيل بدوي بنظره ما تخيل، وتوهم ما توهم، وعاش بينه وبين نفسه حكاية عذبة قديرة على الرغم من أن صلتها بالواقع صلة ضعيفة. وهذه هي على الأرجح حكاية السيدة اللبنانية التي قال عنها إنها شغلته في بيروت وتبادل معها رسائل بين الفلسفي والعاطفي، وكلها من وحي الشباب الذي كان بدوي يجتازه يومها ■