الرواية أم السيناريو والحوار؟

الرواية أم السيناريو والحوار؟

أيهما أسبق إلى الوجود؛ الرواية أم السيناريو والحوار؟
قد يكون الحوار الإنساني هو الأسبق إلى الوجود، بل ربما يكون الحوار أسبق من وجود الإنسان نفسه، وآية ذلك الحوار الذي جرى بين الله سبحانه وتعالى والملائكة قبل خلق آدم، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة - 30).
ولنا أن نتخيل الحوارات التي جرت بين آدم وحواء بعد خلقهما، وقبل هبوطهما من الجنة، وبعدها. لنا أن نتخيل أيضًا السيناريوهات المعدة التي تُفضي إلى الحوار، أو التي تمهد لأجواء الحوار، وذلك قبل أن تكتمل عناصر الرواية، فيكون هناك كلام مرويٌّ فيه شيء من الإخبار إلى جانب شيء من متعة السرد أو الحكي. 

لكن قبل أن نسترسل في هذا التصور، ينبغي لنا أن نقوم بتعريف كل من السيناريو والحوار والرواية، تعريفًا نتفق عليه، مع أن الإجماع على تعريف واحد لمثل هذه الكلمات قد يكون شيئًا صعبًا. لكننا سنحاول هذا مع الأخذ في الاعتبار أن ما نقصده هو الكتابة الأدبية، فالسيناريو في أبسط تعريف أو مفهوم له هو الكتابة بالصورة، أو كتابة الصورة، أو الكتابة الوصفية أو المشهدية للقطة السينمائية أو التلفزيونية، أو وصف المشهد في كلمات - وربما تعليمات - لمن سيحوّل هذه الكتابة إلى عمل مرئي؛ دراميًا كان أو وثائقيًا أو تسجيليًا، مع الأخذ في الاعتبار الوقت المحدد لتنفيذ أو ترجمة أو عرض هذا السيناريو على الشاشة.
لذا فإن السيناريو يرتبط بالمرئي ولا يرتبط بالمسموع. في المسموع نقول: مسمع إذاعي، وهو يعتمد على مفردات أخرى غير مفردات السيناريو المرئي.
أما الحوار فهو ما يتعلق بالأطراف التي تظهر في السيناريو، سواء كانوا بشرًا، أو حيوانات أو طيورًا، أو كائنات أخرى خرافية أو آلية. وتدلنا الآية الكريمة السابقة من سورة البقرة على أقدم حوار عرفناه قبل خلق الإنسان، وكان بين الله وملائكته.
والحوار يُعد عنصرًا مشتركًا بين الرواية والسيناريو، وإن كانت هناك بعض الاستثناءات، كأن تأتي الرواية بلا حوار، فتعتمد في كل صفحاتها على الوصف أو السرد ورسم الشخصيات دون إجراء كلام على لسانها، وكأن يأتي السيناريو بلا كلام أو حوار، وهذه من الأشياء النادرة، ويتوقف نجاحها على قوة العناصر الأخرى التي تأتي على حساب الحوار.
بطبيعة الحال من الصعب تعريف الرواية، أو من الصعب أن يكون لها تعريف جامع مانع، يتفق عليه النقاد والكتَّاب والقراء، فالرواية متجدِّدة دائمًا، وكل رواية تأتي بشكلها معها، حتى لدى الكاتب الواحد، سنجد على سبيل المثال الشكل الذي كتب به نجيب محفوظ رواية «ميرامار» 1967 هو الأقرب إلى تعدد الأصوات (البولوفونية) غير الشكل الذي كتب به «الحرافيش» 1977 غير الشكل الذي كتب به «أمام العرش» 1983، وهكذا. 

عنصر مؤثر
أحد تعريفات الرواية يقول إنها «سلسلة من الأحداث تُروى من خلال سرد نثري طويل يصف شخصيات خيالية أو واقعية وأحداثًا على شكل قصة متسلسلة، كما أنها أكبر الأجناس القصصية من حيث الحجم وتعدد الشخصيات وتنوع الأحداث، وقد ظهرت في أوربا بوصفها جنسًا أدبيًّا مؤثرًا في القرن الثامن عشر، والرواية حكاية تعتمد السرد بما فيه من وصف وحوار وصراع بين الشخصيات».
وهذا التعريف ينقصه الحديث عن الخيال بوصفه عنصرًا مؤثرًا، فهناك روايات الخيال العلمي، والخيال التاريخي، كما اتكأ هذا التعريف على السرد النثري الطويل، مع أن هناك سردًا شعريًّا أيضًا من الممكن أن تعتمد عليه الرواية. وكان يطلق على المسرحيات القديمة مسمَّى «رواية»، كما كان يُطلق على الرواية «قصة طويلة».
نخلص من هذا إلى أن تعريف «الرواية» يتغير من عصر إلى عصر، وربما من ناقد إلى آخر، خاصة بعد تداخل الأنواع الأدبية على نحو غير مسبوق، فأصبحت الرواية أكثر أنواع الكتابات الأدبية تجريبًا وتداخلًا، مع ملاحظة أننا سنجد هذا التداخل بين الأنواع الأدبية في عمل ضخم مثل «ألف ليلة وليلة» الذي جمع في متنه بين السرد والشعر والوصف والحكي والحوار والقصة داخل القصة وغيرها من تقنيات قد يعتقد البعض أنها تقنيات مستحدثة. مع لجوء النقاد إلى تصنيف الروايات إلى الرواية البوليسية، والرواية التاريخية، والرواية الواقعية، والرواية السياسية، ورواية الخيال العلمي، ورواية السيرة الذاتية والسيرة الغيرية... إلخ. ومع ظهور فن السينما في باريس على يد الأخوين لوميير عام 1895 ثم انتشارها في العالم كله واستفادتها من التقنيات الحديثة في كل فترة زمنية، فأصبح يُطلق عليها «الفن السابع»؛ ظهرت كتابات تواكب تلك التقنيات، عرفت باسم السيناريو، كما أوضحنا من قبل، وكان من المعتاد في وقت من الأوقات -  ربما حتى الآن لكن بنسبة أقل - أن تحوَّل بعض الروايات العالمية أو العربية إلى سيناريوهات وحوارات لأفلام درامية، مثل رواية «ذهب مع الريح» للكاتبة الأمريكية مارغريت ميتشل، التي صدرت عام 1936، ثم تحولت إلى فيلم سينمائي عام 1939، أو رواية «القاهرة الجديدة» لنجيب محفوظ التي صدرت عام 1945 ثم تحولت إلى فيلم سينمائي عام 1966 بعنوان «القاهرة 30»، أو رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني التي صدرت عام 1963 ثم تحولت إلى فيلم سينمائي بين عامي 1972 و1973 من إنتاج المؤسسة العامة للسينما بدمشق، بعنوان «المخدوعون».
وهكذا ظل الإنتاج السينمائي يعتمد على الروايات المكتوبة التي ذاع صيتها، إلى أن وصلنا إلى الكتابة المباشرة للسينما عن طريق السيناريو والحوار، والذي تُقام ورش الآن له يشارك فيها أكثر من كاتب للعمل الواحد.

الأدب السينمائي
وتلفتنا تجربة الكاتب المصري إحسان عبدالقدوس (1919 - 1990) في روايته «بعيدًا عن الأرض» في بداية السبعينيات، وأُنتجت سينمائيًا عام 1976، حيث كتب عبدالقدوس أن روايته هذه من الأدب السينمائي. ويضيف: «لقد سبق أن أطلقت هذا التعبير (الأدب السينمائي) لأرتقي بما يكتب لتصويره في فيلم سينمائي إلى مستوى ما يكتب لإخراجه على خشبة المسرح، أي أن أضع الأدب السينمائي الذي لم يُعترف به بعد بين الفنون العربية في مستوى الأدب المسرحي الذي كان هو الآخر أدبًا غير معترف به، ولم يعترف به كفن أدبي كامل إلا أوائل هذا القرن، نقلًا عن اعتراف الأدب الأوربي به».
وهو يعترف بأن الأدب السينمائي المكتوب في روايته هو أدب لم ينقل بعد إلى مرحلة الإنتاج السينمائي.
لم يكرر عبدالقدوس التجربة مرة أخرى، لكن ظل مصطلح «الأدب السينمائي» مطروحًا، لدرجة أن الناقد الدكتور عبدالقادر القط بدأ يتحدث عن الأدب التلفزيوني وأهمية توجيه نقدنا إلى الأعمال السينمائية والتلفزيونية وليس فقط الأعمال الأدبية.
لقد أراد عبدالقدوس أن يوفر بعض الخطوات أو المراحل ما بين النص الروائي والعمل الدرامي السينمائي أو التلفزيوني، فبدأ يكتب أعماله من خلال شكل السيناريو والحوار، أو في شكل مَشاهد، فيكون جاهزًا للإخراج السينمائي مباشرة دون تدخل كتاب السيناريو، على الرغم من وجود حلقات أخرى تسهم في خروج العمل إلى الشاشة، مثل التصوير والإضاءة والديكور والمونتاج والإنتاج والإخراج، إلى جانب الممثلين... إلخ.
وعلى الرغم من أن كاتب سيناريو كبيرًا هو أسامة أنور عكاشة (1941 - 2010) قد بدأ حياته الأدبية بكتابة القصة، فأصدر مجموعته الأولى «خارج الدنيا» عام1967، فإنه حقق شهرة واسعة من خلال مسلسلاته التلفزيونية مثل «ليالي الحلمية»، و«الشهد والدموع» و«الراية البيضا» وغيرها.
كان عكاشة يكتب مباشرة مسلسلاته وأفلامه، وغيره من كتاب السيناريو في مصر من أمثال وحيد حامد، ومحمد جلال عبدالقوي، ومصطفى محرم، وعبدالحي أديب، ويوسف معاطي، ومحمد السيد عيد وغيرهم. وخارج مصر نجد كتَّاب سيناريو من أمثال: عباس فاضل، وقيس الزبيدي، ومهدي الصايغ وغيرهم في العراق، وسعد عبدالله دهش وغيره في الكويت.

الأكثر تأثيرًا
ويظل اسم نجيب محفوظ، الذي أصرَّ على كتابة السيناريو دون الحوار لعدد من الأفلام، هو الأكثر تأثيرًا في عالم السيناريو، حيث تعلم كتابة السيناريو على يد المخرج السينمائي صلاح أبوسيف، ويقال: «إذا كان صلاح أبوسيف قد علَّم نجيب محفوظ الصنعة، فقد منحه نجيب محفوظ الشخصية، وبمعنى أدق كان نجيب محفوظ هو الجانب الأدبي من صلاح أبوسيف الذي ينقصه لتكتمل به شخصيته الفنية».
لقد لعبت كتابة السيناريو دورًا كبيرًا في حياة كثير من المبدعين، وتحول عدد منهم من كتابة القصة والرواية إلى كتابة السيناريو والحوار، في الوقت الذي قلَّ فيه عدد الكتاب المسرحيين، ويبدو أن طغيان عصر الصورة أسهم في ذلك مساهمة فعالة.
ومع توارد الأخبار عن تنظيم ورش متعاقبة مدفوعة الأجر لتدريس السيناريو والحوار، ثم إشراك عدد من الشباب الجدد - من الجنسين - في كتابة سيناريو وحوار بعض الأفلام السينمائية والمسلسلات الدرامية، وتلقيهم مكافآت نقدية عالية مقارنة بالعائد المادي لطباعة ونشر الرواية في كتاب ورقي، نجد أن الشباب يندفعون الآن إلى تعلم كتابة السيناريو والحوار، كما أن الكتب - الورقية أو الرقمية - التي تقوم بهذا الدور تحقق رواجًا كبيرًا، وسرعان ما تنفد في السوق، لذا نرى أن عددًا كبيرًا من شباب الأدباء يسألون الآن عن كتاب قديم لصلاح أبوسيف يشرح فيه كيفية كتابة السيناريو، أو عن كتب مترجمة في هذا الاتجاه مثل كتاب «فن كتابة السيناريو» تأليف فرانك هارو وترجمة رانيا قرداحي وغيرها.
بل إن بعضهم يسارع بطباعة السيناريو والحوار في كتاب ليضمن حقوق تأليفه لعمله، عن طريق رقم الإيداع والترقيم الدولي، ومع ذلك فمن الوارد أن تُسرق الفكرة أو التيمة، فلا يستطيع أن يفعل شيئًا، أو يثبت حقًّا.
لذا أتوقع أن تشهد السنوات القليلة القادمة نمو هذا النوع من الكتابة السردية، مع الخفوت القليل لحدة تأليف الروايات وطباعتها التي بلا شك كان لها أكبر الأثر وراء خفوت صوت الشعر - خاصة شعر الفصحى - طباعةً وتوزيعًا، للدرجة التي جعلت الكثير من الناشرين يحجمون عن طباعته ونشره.
إذن، نحن أمام مشهد أدبي قادم، تتغير فيه التراتبات، لصالح فن كتابة السيناريو والحوار، بعد أن كانت الرواية هي التي تتسيَّد هذا المشهد ■