أثر الترجمة في عالمية اللغة العربية

أثر الترجمة  في عالمية اللغة العربية

  في إطار دعم وتعزيز تعدد اللغات والثقافات في الأمم المتحدة، اعتمدت إدارة الأمم المتحدة للتواصل العالمي عام 2012 قرارًا عشية الاحتفال باليوم الدولي للغة الأم بالاحتفال بكل لغة من اللغات الرسمية الست للأمم المتحدة. وبناء عليه، تقرر الاحتفال باللغة العربية في 18 ديسمبر كونه اليوم الذي صدر فيه (عام 1973) القرار القاضي بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة.

 

 هكذا أصبحنا نشهد سنويًا انعقاد ندوات ومؤتمرات في مختلف أرجاء العالم العربي للاحتفاء بلغتنا الأم. لكن بعيدًا عن الطابع الاحتفالي، حين يلتقي أكاديميون عرب للاحتفال بلغتهم، فالهدف يجب ألا ينحو للتمجيد والتفاخر، ولا للانزلاق كذلك نحو التباكي والتشارك مع أولئك الذين يُمضون الوقت في النُواح وترداد المقولة السقيمة بأن اللغة العربية تندثر، وتُشوَّه عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتضعف على ألسنة الشباب، وبالتالي هي لغة لا مستقبل لها. في الواقع، يجب أن ينصب الجهد في مختلف هذه اللقاءات على التباحث في السبل التي تجعل لغتنا، بما تزخر به من إمكانيات وفيرة، تواكب العصر والانفجار المعرفي المخوّل لأن تزداد وتيرته في العقود القادمة. من هنا، سأتناول الموضوع من زاوية أثر الترجمة في عالمية اللغة العربية.
لا بد من التأكيد بداية أن اللغة العربية ليست في خطر، ولا هي لغة إلى أفول. وهنا، لا بد من التذكير سريعًا بأن اللغة العربية تحتل المركز الرابع عالميًا من حيث عدد الناطقين بها، الذين هم بحدود أربعمائة مليون شخص؛ وهي اللغة الرسمية في 22 دولة عربية؛ وهي إحدى اللغات الست المعتمدة كلغة رسمية ولغة عمل في الأمم المتحدة (في العالم 7000 لغة، بينها 10 لغات مسيطرة)؛ وفيها تُنشر سنويًا آلاف الكتب والمجلات والصحف في مختلف البلدان العربية؛ كما تحتل في الوقت الحاضر المركز السادس كلغة اختيارية في الجامعات والمعاهد على صعيد العالم.
إلا أن كل ذلك لا يعني أن اللغة العربية لا تواجه تحدّيات خطيرة، فقد أدّت التطورات التكنولوجية والاستخدام المكثف للغات العالمية مثل الإنجليزية والفرنسية إلى تغييرات عديدة في استخدام اللغة العربية. فعلى نحو متزايد تحل هذه اللغات الأجنبية محل اللغة العربية في التواصل اليومي وفي المجال الأكاديمي. كما أن الانفجار المعرفي يحتّم سد الفجوة الهائلة بين اللغة العربية والمعارف والعلوم والتقنيات في جميع المجالات، وربط اللغة العربية بجميع معطيات العصر وتطوراته في الميادين كافة. هذه الحركة السريعة تدعونا للاقتباس والنقل والاستفادة الواسعة من نتائج هذه العلوم جميعًا في إغناء اللغة العربية وربطها بحركة الفكر الإنساني، فهل يمكن لحركة الترجمة أن تكون عنصرًا يُسهم في عالمية اللغة العربية ونهضة الفكر العربي؟ سأحاول أن أُجيب عن هذا السؤال بعد تجربة طويلة في مجال الترجمة قادتني إلى التعامل مع مؤسسات كبرى ودور نشر عديدة في لبنان والعالم العربي، وأستطيع القول إنها في معظم محطاتها كانت إيجابية، إلا أن الواقعية تقتضي منا أن نعترف بأن ما تحقّق حتى الآن لا يرقى إلى المستوى النهضوي الذي نصبو إليه والذي يجعل من اللغة العربية لغةً منافِسةً فعليًا على الصعيد العالمي. 
 
واقع الترجمة المجمّل
من ينظر من بعيد إلى عالم الترجمة في العالم العربي، لا بد أن تلفتَه جوانب مضيئة:
- وجود مؤسسات جادة تُعنى بالترجمة: المركز القومي للترجمة (مصر)، المنظمة العربية للترجمة (لبنان)، المعهد العربي العالي للترجمة (الجزائر)، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة «كلمة» (أبو ظبي)، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم «ترجم» (دبي)، المركز الوطني للترجمة وبيت الحكمة (تونس)؛ هذا بالإضافة إلى الجهود الترجمية التي تمت بإشراف وزارات الثقافة في الكويت (عالم المعرفة/ من المسرح العالمي) وسورية والعراق وغيرها من البلدان، والإصدارات التي تولّتها دور النشر، لاسيما في مصر ولبنان.
- تنامي مدارس الترجمة في الوطن العربي، وتكاد لا تخلو أية جامعة من كلية أو معهد أو قسم للترجمة، هذا بالإضافة إلى برامج للتدريب على الترجمة في أجزاء مختلفة من العالم العربي، ما أنتج زيادة ملحوظة في عدد المؤهّلين العاملين في مهنة الترجمة. 
- انعقاد مؤتمرات عديدة حول واقع الترجمة وسبل النهوض بها ضمّت عددًا كبيرًا من الاختصاصيين، وقد أصدرت الكثير من التوصيات ووضعت الكثير من الخطط. في بعض هذه المؤتمرات كانت هناك محاولات ودعوات لرسم استراتيجية قومية للترجمة (أهم هذه المحاولات جرت في تونس عام 1979 برعاية المنظمة العربية للتعليم والثقافة والعلوم)، إلا أن عوامل مختلفة عطلت هذه المشاريع أو جعلتها تبقى أسيرة المؤتمرات والندوات المغلقة ولم تؤسس فعلًا ثقافيًا قوميًا تراكميًا يمكن البناء عليه وتطويره.
- صدور عدد كبير من المعاجم الثنائية العامة أو المتخصصة، والتي سعت إلى إدخال أكبر عدد ممكن من المصطلحات العلمية، مع بعض الشروح والتفسير، علمًا بأن ترجمة المصطلح أمر بغاية الصعوبة، ولا تكمن المشكلة فقط في ابتكار المصطلح أو توليده أو ترجمته أو نسخه وإنما كذلك في تعدده واختلافه من معجم إلى آخر. وينتظرنا في هذا المجال عمل كثير يجب أن يكون حصرًا عملًا مؤسساتيًا.
- قيام مؤسسات بمنح جوائز تشجيعية، وهذا الأمر يُسهم في النهوض بمستوى الترجمة ويسلّط الضوء على أشخاص قاموا بجهود بارزة من خلال إنجازهم أعمالًا مميّزة في مجال الترجمة.

المعوّقات والتحدّيات
أ‌- على صعيد اللغة: قضية المصطلحات: إنها مشكلة حقيقية يعاني منها واضعو المعاجم والمترجمون، فهناك كمّ متراكم ومتزايد يوميًا في مختلف ميادين المعرفة من المصطلحات الأجنبية التي تنتظر التأصيل. ومن ناحية ثانية، هناك تعدّد الجهات العربية المعنية بالوضع المصطلحي، والتي تفتقر إلى منهجية موحّدة للتعامل مع المصطلح الوافد، فيجد الباحث نفسه أحيانًا أمام تعدّد المرجعية اللغوية للمصطلح ما بين معرّب وموروث ومشتق ومنحوت... إلخ،  بالإضافة إلى انعدام صفة الإلزام لدى الهيئات المتخصّصة بالوضع المصطلحي. في هذا المجال أيضًا لا نجد أية دراسة جدية تقارن بين قواعد التوليد المعتمدة. نجم عن هذا الواقع أحيانًا وضع إشكالي، إذ نجد في بعض الحالات عدم فهم دقيق للمفهوم الذي يرمز إليه المصطلح الأجنبي، مما يُنتج مقابلات ليست ذات قيمة، أو اشتقاقات تستغلق على الفهم، أو ترجمة مصطلح يحتمل دلالات عديدة بمصطلح عربي واحد، أو اللجوء إلى أسهل الطرق عن طريق استنساخ الكلمة الأجنبية، مما يُفضي إلى تراكم الدخيل.
قضية المصطلحات تطرح بشكل مباشر مسألة المجامع اللغوية:
المجامع اللغوية هي المؤسسات المنوط بها العمل على تطوير اللغة ومحاولة تجديدها بما يناسب العصر الحديث، لكن المجامع اللغوية العربية في الواقع تمر بأزمة حقيقية، فعلى كثرة انتشار مجامع اللغة في الوطن العربي، بدءًا من مجمع دمشق الذي أُنشئ عام 1916، ومجمع القاهرة (1932)، مرورًا بالمجمع العلمي العراقي (1947)، والمجمع الأردني (1961)، والمجمع التونسي (1983)، والمجمع السوداني (1993)، وأخيرًا مجمع اللغة بالشارقة (2016)، ومركز أبو ظبي للغة العربية (2020) فضلًا عن كثير من المؤسسات والمراكز المعنية باللغة، إلا أنه على الرغم من الجهود التي بذلتها للمساهمة في تطوير ونشر اللغة العربية، ظلت هذه المجامع والمراكز غير مؤثّرة فعليًا في إثراء اللغة وتنمية طاقاتها التعبيرية، ولا في توحيد المصطلحات العلمية. 
في عام 1971 تم تأسيس اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، والغاية منه تنظيم وسائل الاتصال بين المجامع المختلفة وتنسيق جهودها، لكن هذا الاتحاد بدوره لم يحقّق قفزة نوعية (في مايو 2017 دشّن الاتحاد مشروع المعجم التاريخي للغة العربية).
خلاصة القول، إن اللغة العربية لا تزال تواجه تحديات جمة تحول دون تمكُّنِها من مسايرة الحداثة والطفرات العلمية والتقنية الهائلة التي يشهدها العالم اليوم في ظل العولمة. بالطبع إن هذا العجز ليس بنيويًا، واللغة العربية لغة حية وغنية، وتمتاز بقدرتها على التكيّف والإبداع، وإنما يرتبط بشكل أساسي بحالة التشرذم السياسي والعلمي والتكنولوجي المهيمنة في الدول العربية.
 لا بد إذًا من وجود هيئة فاعلة ذات تطلّعات رؤيوية وتمتلك سلطة القرار، لديها إمكانيات بشرية ومادية هائلة، تعمل بالتعاون مع الجامعات العربية ومراكز البحث ذات الاختصاص، على أمل التمكن من سدّ الفجوة التي تزداد عمقًا يومًا بعد يوم.
ب‌- على صعيد الفكر: الترجمة عنصر من العناصر المهمة في تجديد الفكر العربي وإثرائه. فهي تسهم في صناعة وإنتاج المعرفة بكل أشكالها. فمع إقرارنا بالجهود الكبرى التي تبذلها مؤسسات كبرى تعنى بالترجمة، وما تتمتع به من جِدّية في اختيارات موضوعاتها وأسماء مترجميها، فإنّ نقصًا لا يزال يعتري الواقع العام للترجمة، فلا أعداد الكتب المترجمة مخوّلة لأن تُحدث الفرق، سيما وأن ما تترجمه الدول العربية مجتمعة يكاد لا يوازي ما تترجمه دولة أجنبية واحدة كاليابان أو ألمانيا مثلًا، ولا تراكم الترجمات يشكّل مشروعًا نهضويًا مدروسًا وموجّهًا يذكّرنا بعصر المأمون. هذه المجهودات إذًا لم ترقَ بعد إلى مستوى المشروع الحضاري المتكامل الذي يستوجب استراتيجية كاملة وتخطيطًا بعيد المدى يتيح المجال للبناء عليه، فما نحتاج إليه فعليًا هو خطة قومية ذات منهجية علمية مدروسة:
- خطة قومية: الترجمة ليست مسألة أو قضية قائمة بذاتها، ولا يمكن فصلها عن أزمة الثقافة العربية ككل، كما أنها لا تقتصر على جهود فردية يقوم بها أفراد أو مؤسسات، على الرغم من التقدير الكبير لما تمّ إنجازه. الترجمة هي خطة مجتمع ودولة وخطة قومية وثقافية، كما أنها حاجة ثقافية وحضارية، من هنا تحتاج البلدان العربية لعملية ترجمة مؤسسية وممنهجة ترتبط باستراتيجية ثقافية قومية، فهناك فجوة كبيرة بين ما تنتجه ثقافتنا العربية وثقافة الغرب، وهذا يتطلّب ترجمة آلاف الكتب في مجالات المعرفة المختلفة حتى تتسنّى لنا مواكبة العصر وإشكالياته. وهنا تُطرح مسألة أساسية، وهي الترجمة المتكافئة: كم هو عدد الكتب التي تترجم من العربية إلى اللغات الأخرى. في الواقع إن وجود النتاج الفكري العربي لا يزال ضئيلًا في الأسواق الغربية، ولم يصل إلى الشهرة العالمية إلا عدد قليل من الكتّاب (نجيب محفوظ -جائزة نوبل عام 1988). كلنا يذكر الثغرة المهمة في معرض فرانكفورت عام 2004 الذي شارك فيه العالم العربي كضيف شرف، والتي تمثّلت في ضآلة عدد الكتب العربية المترجَمة إلى الألمانية أو الإنجليزية أو الفرنسية، وقد تمكّن القائمون على المشاركة العربية بشق الأنفس من تأمين ترجمة 50 كتابًا جديدًا لعرضها في المعرض.
إن لدينا في هذا المجال عملًا ضخمًا، فلا بد أولًا من هيئة تتولّى اختيار الكتب المهمة التي تعطي صورة واضحة عن الفكر والمجتمع العربي، ومن ثم السعي للتعريف بها وإبراز أهميتها لدى دور نشر أجنبية واسعة الانتشار، يترافق ذلك مع تأمين الدعم لترجمتها (دور نشر أجنبية تفتّش عن «إكزوتية» جديدة، خاصة في موضوع المرأة والعنف والشهوانية). بذلك تكون الترجمة في الاتجاهين عاملًا للحوار مع الآخر وللتفاعل بين الثقافات، وسبيلًا لإزالة سوء الفهم والقوالب الجامدة.

الخلاصة 
على الرغم من ضبابية الصورة، أعتقد أن الأمور ليست على درجة من السوء الذي يتصورُه البعض، ذاك أن الخبرات التي تكتسبها المؤسسات التي تُعنى بالترجمة حاليًا والتجارب التي تقوم بها والصعوبات التي تواجهها وتسعى لتذليلها لا بد أن تقودها في النهاية إلى تنسيق الجهود فيما بينها وبلورة مشروع متكامل رغم المعوّقات السياسية والاقتصادية والفكرية التي لا مجال للخوض فيها الآن. يجب ألا يغرب عن بالنا أن اللغة العربية تغتني بتراث عريق، وهي تاريخيًا أثّرت تأثيرًا مباشرًا وغير مباشر في كثير من اللغات الأخرى، وساعدت على نقل المعارف العلمية والفلسفية إلى أوربا في عصر النهضة، كما أتاحت إقامة الحوار بين الثقافات على طول المسالك البرية والبحرية لطريق الحرير من سواحل الهند إلى القرن الإفريقي. وفي مختلف المنعطفات كانت الترجمة تلعب دورًا بارزًا في تألّق اللغة العربية والثقافة العربية. واليوم في ظل العولمة تواجه هذه الثقافة بالذات تحدّيات متعدّدة خارجية وداخلية، والانكفاء أو الانعزال يعني الموت المؤكد. لا بد إذًا أن تُسهم الترجمة - التي هي نافذة مهمة على العلم ووسيلة أساسية لنقل المعارف وأداة للتواصل -، في إثراء اللغة العربية وفي تشكيل الفكر العربي الحديث، إذا ما حصلت في إطار عملية نهضة علمية - معرفية كبرى، نأمل تحقّقَها في وقت قريب ■