التراث العربي الإسلامي وأفق القراءة الممكنة

التراث العربي الإسلامي وأفق القراءة الممكنة

  يفرض الاهتمام بالتراث العربي الإسلامي اليوم قراءة جديدة، لا مفر من ذلك، بالنظر لسياق العصر الذي نعيشه، هذه القراءة لكي تكون سديدة ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار التحديات التي تعيشها الأمة الإسلامية، خاصة كل ما له صلة بالهجمات الثقافية التي تؤثر في الهوية، فالتراث ليس مجرد أحداث مضت وانتهت ولم يعد لها وجود، بل دروس وعبر.
أحيانًا لا تقطف بعض المجتمعات ثمار جهدها إلا بعد مرور عدة عقود من الكفاح والصبر، فتنعم الأجيال الجديدة بالأمن والسِّلم بما أسّسه السّلف من منجزات، حتى بعض الأحداث الغامضة قد لا يفهمها الناس إلا بعد مرور سنوات طويلة، فاليوم بدأت الاكتشافات العلمية تقف على أسرار عيش الكثير من الأمم السابقة، وتصف أسباب زوال تلك الأمم، وكيف كانت تعيش نوعًا من الاستقرار والرخاء قبل طمس وجودها ومحو حضارتها، إذ لم يتبق إلا ذكرها في بعض القصص التي يتداولها الناس ويظنون أحيانًا أنها من وحي الخيال، وتبقى التفاصيل في طي النسيان، يبتلعها بحر الغموض. 

 

تؤدي إعادة قراءة التراث برؤية جديدة وبأدوات العصر، إلى اكتشاف بعض السُّنن الكونية ومعرفة تعامل الإنسان مع قضايا البيئة والمناخ والهجرة والعنصرية، وغير ذلك من القضايا التي لا يخلو منها عصر من العصور، بل إنها في عصرنا تزداد أهميتها وتحتاج المجتمعات الحالية إلى بناء رؤية متكاملة للحياة على الأرض تكون آمنة وبعيدة عن المخاطر المحتملة، لذلك بدأ الإنسان يغزو الفضاء مستكشفًا في البداية ثم متطلّعًا للبحث عن إمكانية الحياة في عوالم أخرى.
في التراث العربي الإسلامي الكثير من قصص النجاح والفشل أيضًا، والكثير من الأعمال التي استفادت منها البشرية عقودًا، بل قرونًا، غير أن الاهتمام بهذا التراث ينبغي ألا يقع في فخ التمجيد المبالغ فيه، أو التقديس المتأثر بالمشاعر الدينية، وإنما يجب أن يبتعد عن أيّ حماس زائد أو دفاع غير موضوعي عن تراث كامل دون تمحيص ودون غربلة وتنقية من الشوائب، وكذلك يجب أن يبتعد هذا الاهتمام بالتراث، عن أيّ تبخيس زاهد يرى التراث ترفًا زائدًا لا حاجة إليه، ولا نفع فيه، بل قد يعدّه مضيعة للجهد وإلهاء عن واجب الوقت وانشغالًا بما لا يفيد، وبالطبع في هذا التصوّر ازدراء للتراث ومن ورائه إنكار للسلف وانسلاخ عن الانتماء وابتعاد عن روافد الهوية.
 
التراث وأفق الحوار
إن المطلوب في قراءة التراث، باعتباره إرثًا ثقافيا وحضاريًا جماعيًا يمثل ضمير الأمة الحيّ وملاذها في المحن، هو ترسيخ معاني الحوار والتفاهم والتسامح والتكامل في المجتمعات العربية، ومن أجل كشف النقاب عن مؤهلات هذا التراث في التنمية وحل بعض المشكلات، وقدرته على نسج صلات التقارب بين الأجيال، وخلق جسور التواصل بين الماضي والحاضر، تطلّعًا إلى المستقبل، وبما يمكن أن يخدم الإنسانية في مختلف تجلياتها وأبعادها، خاصة في ظل التدافع الحضاري بين الأمم والشعوب والمجتمعات في عالم الإعلام الجديد، والذي يؤثر في الخصوصيات المحلية وقد يقضي على مقومات الهوية، ولا ننسى أن ما يحدث اليوم سيكون تراثًا بالنسبة للأجيال المقبلة، لذلك لا فرق بين المستقبل والتراث إلا عامل الزمن، وكما يتغيّر العالم ينبغي أن تتغيّر رؤيتنا للتراث وأن نراه أحيانًا بعين المستقبل لنستبق الأحداث ولا نكرّر أخطاء الماضي.
يمثل الحديث عن التراث العربي الإسلامي أحد التحديات الكبرى التي تواجهها الدول العربية نظرًا لانشغال معظم الباحثين والمثقفين بقضايا الواقع وتعقيداته، دون التفات لما في التراث من مصادر الفهم ومنابع التجديد الممكن، لذلك نحتاج إلى بناء تواصل حقيقي مع الماضي لأجل استشرافٍ أفضل للمستقبل، وفي الوقت نفسه تحصين الذات من كل مسخ أو استلاب، فالتقدم لا يعني الانسلاخ عن الهوية، والتجديد لا يعني الابتعاد عن الأصالة، والإبداع لا يعني القطيعة مع الواقع، وإنما الأساس يكمن في بناء الحياة الطيبة التي لا تتحقّق إلا بالعمل الصالح، مصداقًا لقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة النحل:97).
إن الأمم اليوم تتفاضل في نصيبها من الحياة الطيبة، والتي تتجلى في توفير مقومات العيش الكريم لمواطنيها وزائريها، وتتفاخر تلك الأمم برصيدها من القيم والمبادئ التي تحترم الإنسان، وترى فيه أسمى مخلوق خلقه الله وكرّمه، فتُكرِمُ وجوده وتبذل في سبيل إسعاده كل جهد ممكن، وبذلك يُبنى المجتمع على أُسُسٍ متينة توفر الأمان والرخاء للجميع، وبيئة مثل هذه تغدو محببة للعيش فيها، جالبةً للاستثمار ومنتجة للأعمال ورائدةً في العطاء، وهو ما نلمسه حقيقةً في بعض الدول العربية والإسلامية اليوم، والتي أصبحت تضاهي الأمم المتقدمة في رغد العيش وفي امتداد الخير ليعم ربوع الوطن والمقيمين فيه بل يمتد بالنفع لعموم البشرية.

التراث مرآة صافية
إنَّ الانتقال من التراث بوصفه من الماضي الذي انتهى أثره، إلى الحوار المؤسَّس معرفيًا ومنهجيًا مع عناصر هذا التراث بوصفه فاعلًا في الواقع، يمكن أن يكون مرآة مصقولة صافية نرى من خلالها أنفسنا ونتيح للآخرين رؤيتنا، فربّما تمكّننا مرآة الحوار مع الآخر من إدراك ما نحن عليه بالفعل كأفراد وشعوب ودول، وربما يحفّزنا ذلك على أن نُحسِّن من أنفسنا حتى تتحسَّن صورتنا، فليست عيوب المرآة هي المسؤولة وحدها عن تشوّهات الصور، وليست عيون الآخرين هي دومًا الجحيم؛ فالمرآة قد تكون في بعض الأحيان مشجبًا تُعلّق عليه تبريرات الفشل في إخفاء مواطن القبح الموجودة في الأصل، وعيون الآخرين قد تكون هي التفهّم والتعاطف بعينهما، ولبلوغ هذا النمط من الحوار المتوازن لا بد من بذل المزيد من الجهد في سبيل تجديد فهم التراث وتداوله واستثماره، ومن أجل إثراء النقاش حول قضايا العصر، فالتراث أحيانًا يمدّنا بوسائل الفهم وترميم الصورة التي نكوّنها عن الذات والآخر، من أجل حوار مفعم بالحياة وبالاحترام والتفاهم والتعاون.
إن الحوار العقلاني مع التراث يمكن أن ينمّي الشخصية الفردية المتحرّرة من كل العقد المثبطة؛ نفسية كانت أم اجتماعية أم فكرية، ويخلق الحاجة إلى التعلم المستمر واستعمال العقل وتطوير الإمكانات الخاصة دون أيّ احتقار للذات أو انبهار بما عند الآخر، وإنما الحِكمة ضالّةُ المؤمن، حيث وجدها هو أحقّ بها، مع حماية نقاء العقيدة ومقاصد الشريعة وحفظ الكليات الخمس، وغيرها من الثوابت الدينية التي تشكل عمق هوية الإنسان العربي المسلم، ثم ينفتح بعد ذلك على العصر ويستفيد من كل ما يدعم وحدة الأمة وتقوية أواصر العلاقات مع الجوار عبر آليات الحوار، بما يعزّز استقرار الوطن وخدمة قضايا الإنسانية، ذلك في نظرنا أفق القراءة الممكنة والمتجدّدة لتراثنا العربي والإسلامي ■