بين المحاكم البابوية والملكية محاكم التفتيش في أوربا العصور الوسطى

بين المحاكم البابوية والملكية محاكم التفتيش  في أوربا العصور الوسطى

ولدت محاكم التفتيش التي عرفتها أوربا خلال العصور الوسطى عقب ظهور طبقة من المثقفين الذين خرجوا على معايير الكنيسة وعصر الظلمات كما يسميه البعض، هذا العصر الذي تحكمت في حياته اليومية كنيسة روما والقبائل الجرمانية والإقطاع، فطوال الفترة الممتدة من القرن الرابع للميلاد وعلى إثر سقوط روما بأيدي القوط عام 476م ونهاية الإمبراطورية الغربية استفرد أسقف روما بحكم الغرب الأوربي مدعومًا من حلف أقامه مع الفرنجة وعلى رأسهم شارلمان الذي توّج امبراطورًا بكنيسة القديس بطرس في روما عام 800م، ليحمل لقب الامبراطور، وهو من أصول جرمانية، ولتحمل امبراطوريته اسم: الامبراطورية الرومانية المقدسة، كون البابا، نائب القديس بطرس والسيد المسيح قد أعطى لهذه الشخصية الحق في تبوؤ الكرسي الامبراطوري مكان الامبراطور الروماني الغائب.

 

طوال ثلاثة قرون تحكم هذا الثنائي بالغرب الأوربي حتى خرجت جحافل الصليبيين باتجاه الشرق وأسست الإمارات الصليبية ومملكة القدس، وهناك في هذا الشرق تفتحت العقول الأوربية على حضارة عريقة هي مزيج من حضارات حكمت وسادت وأسست لمستقبل البشرية.
ساهمت الحروب الصليبية والاحتكاك مع مملكة صقلية، جنوب إيطاليا، وحضارة الأندلس على حدود مملكة الفرنجة الغربية، في بدايات النهضة الأوربية، هذه النهضة التي بدأت معالمها في القرن الثاني عشر للميلاد، والتي توّجت بدانتي وبترارك وبوكاتشيو، والتي دفعت ثمنًا باهظًا حتى استطاعت أن تنقل أوربا من عالم العصور الوسطى نحو العصر الحديث، فبياتريس دانتي التي كانت في الجنة، حسب الكوميديا الإلهية، هي التي أعلنت ولادة أوربا ونهاية تسلّط أسقف روما السياسي على الغرب بكامله.
إلا أن هذه الولادة الجديدة قد أتت بعد أن أُحرق العديد من المثقفين والأحرار على الأعواد الخشبية، لا لشيء سوى لأنهم خرجوا على تفكير الكنيسة، فخلال خمسة قرون متتالية أرسل عشرات الآلاف إلى المحارق، وإن صدّقنا الفيلسوف الفرنسي فولتير، فإن أعداد مَن سقطوا ضحية محاكم التفتيش بلغت عشرة ملايين، بين حرق وتعذيب وسجن...
تلك المحاكم التي أمرت بحرق العالم الأوربي جيوردانو برونو، لا لشيء سوى لتأثره بفلسفة ابن رشد وابن سينا والفلسفة اليونانية، اعتبر مهرطقًا: جرّد من ثيابه وربط لسانه وشدّ وثاقه إلى خازوق من حديد فوق ركام من الحطب وأحرق حيًا أمام الجماهير التي احتشدت لرؤية اللحظات الأخيرة لمفكر... (ول ديورانت) كان ذلك عام 1600م.
لم تتوقف محاكم التفتيش عن ملاحقة المفكرين، فها هو المصلح الديني جان هوس يُحرق حيًا عام 1411، والطبيب ميشيل سرفيتوس، مكتشف الدورة الدموية الصغرى، يحرق أيضًا عام 1553. والمصلح الديني توماس كرامر يحرق أيضًا عام 1556، وهو أول مترجم للإنجيل إلى اللغة الإنجليزية.
فما قصة محاكم التفتيش هذه؟ وما أهدافها؟ 
يعتقد، حسب المؤرخين، أن هذه المحاكم وُلدت في القرن الحادي عشر للميلاد، عقب قيام الكنيسة الكاثوليكية بملاحقة من عرفوا باسم المهرطقين، هؤلاء المهرطقون كان تعريفهم واضحًا، حسب رسالة البابا: «هم كل مَن حاول ويحاول الإضرار بالدين المسيحي، وأن مهمة المحاكم ليست معاقبة الناس بل إصلاح الإيمان المسيحي وإعادة التائه إلى الإيمان الصحيح».(Howell،1850،P.30).
لجأت الكنيسة إلى المحاكم التي يجب على المتهم أن يعبر من خلالها سلسلة من المحن والاختبارات الصعبة المستوردة من العالم الجرماني (قبل دخولهم في المسيحية)، فظهرت في كل أسقفية واتسع نطاق عملها وصلاحياتها مع الزمن، وتحولت من محاكم كنسية إلى محاكم مدنية.
مع انتشار هذه المحاكم في القارة الأوربية اختلفت أنظمتها وقوانينها بين مملكة وأخرى، ما دفع الباباوات إلى التدخل لتوحيد نظامها الداخلي.
ويعتبر البابا غريغوري التاسع أول من شكل اللجنة التي كانت أساس عمل محاكم التفتيش، والتي كان يرأسها الأساقفة الذين يكلفهم البابا حتى عام 1233م عندما جرى تدوين القوانين الخاصة بمدينة فلورنسا، بموافقة غريغوري التاسع، والتي هدفت إلى ملاحقة المتهمين بالهرطقة ومحاكمتهم.
وفي عام 1235 عيّن البابا غريغوري أحد الرهبان الدومينيكان مفتشًا لمحاكم التفتيش في كل من روما وتوسكانا وصقلية، بعدها تولى الأب راجيري كالكاجين أسقفية فلورنسا عام 1240، وأطلق على نفسه (المحقق الدومينيكي للبابا) وهو أول مفتش افتتح محاكم التفتيش في فلورنسا التي سارت على نهجها باقي محاكم التفتيش في كل من فرنسا وألمانيا (رمسيس عوض، محاكم التفتيش).
الجدير ذكره، أن هذه المحاكم امتدت إلى خارج حدود أوربا، حيث يذكر أن الراهب الدومينيكاني سانت بانتاليون أسس محكمة تفتيش في الحبشة (إثيوبيا)، كما تولى الراهب بارتو لوميودي محكمة تفتيش في بلاد النوبة، وظهرت في سورية حيث كان المحققون يعينون بعد استشارة بطريرك أورشليم، كما أعطى البابا غريغوري الحادي عشر عام 1375 للرهبان في كل من مصر وسورية وفلسطين سلطة التحقيق مع المتهمين، إلا أن هذه المحاكم في المشرق لم تكن أحكامها بوحشية تلك التي كانت في أوربا، وبالتالي كانت هذه المحاكم ترجع إلى البابا في كيفية تشكيلها وعملها، فهو المُشرّع الأول لها وتعود إليه سلطة الإفراج عن المتهم أو العفو عن المهرطقين إذا أعلنوا التوبة النصوح، وكثيرًا ما كان يتدخل ليضع حدًا لتضارب الصلاحيات بين المحققين المدنيين وأساقفة الأقاليم، كما أنه كان الوحيد القادر على إجراء التعديلات على قوانين هذه المحاكم حسب الظروف وحسب المنطقة.
إلا أن نفوذ البابا كان يتوقف على حدود إيطاليا، فالباباوات أخفقوا في إدارة أو إقامة الأنظمة نفسها خارج حدود نفوذ البابا الإيطالية، حيث كثيرًا ما كان الملوك والأمراء يتدخلون لصالح رعاياهم، بل تدخلوا في إنشاء هذه المحاكم وإصدار القرارات، ومن هذه الممالك كانت إسبانيا التي حكمها الزوج الملكي فرديناند وإيزابيلا، واللذان تمكنا من توحيد الممالك الإسبانية الأربعة بعد حروب طويلة مع الحكم العربي.
وعندما طرحت مسألة محاكم التفتيش أمام فرديناند لم يتأخر بالموافقة عليها، لا للخلفيات نفسها التي أسست لأجلها تلك المحاكم في إيطاليا، أي ملاحقة الهراطقة، بل بخلفية مادية بحتة، فهو بحاجة إلى المال، ويدرك تمامًا مقدار الثروات التي يملكها كل من المسلمين واليهود والمارون، فكان شرطه أن جميع ما ستتم مصادرته من أموال وأملاك من خلال المحاكم يجب أن يذهب إلى خزينة الدولة.
الجدير ذكره أن المتحولين الجدد من اليهود حملوا اسمًا جديدًا أطلقه عليهم الإسبان وهو «الماررون» ويرجع المؤرخون أصل الكلمة إلى العبرية «ماراتو» (Ghotiel،1917،P.25) أي المسيح أتى وغيرهم إلى «مارنتسا» (Moccatta 1877، p.20) أي المتهمون، وهي الأصح على الأرجح، وتم إطلاق هذه التسمية عليهم لتمييزهم عن المسيحيين الإسبان.
  إلا أن إنشاء هذه المحاكم، وبقوانين تختلف عن تلك التي شرّعها البابا، خلق مشكلة مع روما التي رفضت أن تشمل هذه المحاكم اليهود والمورر والمسلمين، حيث صرّح البابا «إننا واليهود والمسلمين نتنفس الهواء نفسه ونشرب من الماء نفسه ونعيش على الأرض ذاتها وهم لهم دينهم ونحن لنا ديننا ويجب ألا نسيء لبعضنا البعض» وإن محاكم التفتيش يجب أن تشمل حصرًا المهرطقين أي المسيحيين الذين يضرون بالدين المسيحي وإنه لا مانع لديه من إضافتهم إلى صلاحيات محاكم التفتيش وإعادة إحياء دورها. 
كما أن الملكة إيزابيلا (Moccatta ،P.33) رفضت أن تعرّض مواطنيها لهذه المحاكم والمآسي التي ستنتج عنها وترددت ورفضت توقيع المرسوم القاضي بإنشائها، وقد قام وفد مؤلف من رجال الدين (Lea P.157) وبيّنوا لها أذى الماررون ومدى انتشارهم، على أثر هذا الاجتماع قبلت الملكة توقيع المرسوم بشرط أن تُعطى شرعية دينية لهذا المرسوم عبر مرسوم من بابا روما يسمح بإنشائها. 
إلا أن إيزابيلا لم تكن لتقبل تدّخل البابا في عمل هذه المحاكم، هو يعطيها شرعية عبر إنشائها فقط، أما التدخل البابوي في مملكتها فقد كان مرفوضًا ضمن حدود مملكتها،  لهذا السبب نلاحظ أن صكوك الغفران، وهي (بمختصر مفيد تعني المال مقابل المغفرة، كانت من أكثر الأمور سوداوية في تاريخ الكنيسة، وهي السبب وراء الثورات التي أدت أخيرًا إلى الإصلاحات من ويكليف في بريطانيا إلى جون هوس في بوهيميا وصولاً أخيرًا إلى مارتن لوثر ومذهب البروتستانت، لم يجد هذا المذهب موطئ قدم في إسبانيا لانتفاء الأسباب التي سبّبت هذه الثورات أهمها فساد الكنيسة وصكوك الغفران) لم تكن لها أي قيمة معنوية أو مادية في إسبانيا، فالكنيسة لم يكن يسمح لها بأي دور، خارج إطار الوعظ والترتيل داخل الكنائس، إلا إذا أرادت الملكة أن تعطي شرعية لهذا الدور، أو بهدف الحصول على شرعية دينية لقراراتها من قبل الكنيسة، وكان هذا الأمر مشروطًا بعدم التدخل في الشؤون الإسبانية الداخلية. 
إذا كان الهدف الذي عملت من أجله إيزابيلا هو الوحدة الإسبانية تحت شعار «أمة واحدة تحت دين واحد (الكاثوليكية بالطبع) (Dieulafoy  P.30)، لذا القرار يصدر من حاكم واحد لا تحد من صلاحياته أي سلطة أخرى، إلا بالمشورة طبعًا، وهذا يتوقف على مدى قبولها لهذه المشورة.
أما على أي أساس كان يتم انتقاء المتهمين، فقد اعتمدت قوانين هذه المحاكم في إسبانيا على قوانين المحاكم القديمة نفسها، وأضيفت إليها بعض القوانين الجديدة لتتلاءم مع الوضع الجديد، وسنذكر المقاييس القديمة التي بقيت معتمدة في المحاكم الجديدة والإضافات التي تمت عليها.

 لاحقت محاكم التفتيش كل من مارس:
التجديف بالله وبالقديسين، خصوصًا العذراء مريم. 
التنجيم والشعوذة وكل من انشق عن الكنيسة وسلطة بابا روما ومَن تطاول على الكنيسة الكاثوليكية ولم يعترف بسلطة البابا كرئيس للكنيسة الكاثوليكية عبر كتاباته ومواعظه، وكل مَن رفض تعاليم الكنيسة الكاثوليكية وجاهر بذلك.
عبدة الشيطان الذين يستعملون الكتب المحرّمة لاستدعاء الشيطان، كانت هذه الطائفة منتشرة بكثرة في كاتالونيا وكانت طقوسهم تستعمل كلمات غريبة.
كل من النبلاء الذين يخفون المهرطقين ولا يساعدون في القبض عليهم ويخفونهم عن أعين الكنيسة والمحاكم، الملقى عليهم الحرمان الكنسي، إذا لم يقم بأي أعمال للتوبة والتصالح مع الكنيسة في فترة سنة والسعي إلى تسوية أوضاعه للعودة إلى كنف الكنيسة.
كل من اليهود والمورر الذين يجدفون بالمسيح وبالكنيسة والقديسين خصوصًا العذراء مريم.
كل الأموات الذين يتم إعلانهم مهرطقين تسري عليهم صلاحياتها فيتم نبش القبور وإحراق الجثة، وكل مَن انتمى إلى جمعية فرسان الهيكل المحظورة، وكل مَن مارس اللواط وتعدد الزوجات خصوصًا الكهنة...إلخ. 

قوانين المحاكم الجديدة 
أما في المحاكم الجديدة التي تشكّلت في إسبانيا، فقد أضيفت القوانين التالية: 
  البروتستانت، حيث تم إعلانهم من قبل الكنيسة بالمهرطقين. 
 كل من اليهود والمورر الذين اعتنقوا المسيحية ليس عن قناعة بل كقناع استعملوه للإضرار بالدين المسيحي والاستفادة من هذا القناع لممارسة أعمالهم والعيش حسب الميزات المسيحية، في هذا الموضوع أقرت المحاكم أيضًا سلسلة من العادات التي يجب مراقبتها عند هؤلاء لمعرفة المذنبين منهم، وهي: 
 كل من تعمّد وهو ما زال ينتظر المسيح أو يقول إنه لم يأت بعد.
 كل من تقبّل العماد وما زال يمارس عادات دينه الأصلي. 
 كل من يقول إن قانون موسى  أو محمد يؤدي إلى الخلاص. 
 إذا ارتدى ثيابًا نظيفة نهار السبت أو وضع غطاء طاولة نظيفًا (يهود).
 إذا غسل الدم عن اللحم أو رمى بعض قطع اللحم غير المرغوب فيه. 
 إذا تم فحص السكين المخصصة للذبح وغطى الدم.
 إذا أكل اللحم خلال الصوم الكبير المسيحي واعتبر أنه لم يهن الله. 
 إذا صام صيام المسلمين (رمضان). 
 إذا وضع يده على رأس ابنه ليباركه دون رسم إشارة الصليب. 
 إذا صام صيام أستير (يهود).
 إذا صام في ذكرى دمار الهيكل ( يهود).
 إذا احتفل بأعياد المسلمين واليهود.
 إذا احتفل بعيد العبور بأكله أعشابًا مرة وخسًا (يهود).
 إذا أضاء مزيدًا من المصابيح في عيد التجديد (يهود).
 إذا تلا صلاة الشكر بعد الأكل مثل اليهود.
 إذا شرب من نبيذ يهودي.
 إذا استعمل اللحم الحلال في مأكله.
 إذا رتّل مزامير داود دون أن يقول في النهاية المجد للأب» (يهود). 
 إذا لم تذهب الأنثى إلى الكنيسة بعد 40 يومًا من ولادتها. 
 إذا تم ختان الذكر المولود حديثًا.
 إذا تمت تسمية المولود الجديد بالأسماء العربية أو العبرية.
 إذا تم غسل رأس المعمد حديثًا لإزالة آثار العماد.
 إذا تم اتباع مراسم شريعة موسى والمسلمين بعد الزواج.
 إذا تمت دعوة الأصدقاء والعائلة إلى مأدبة قبل السفر (يهود).
 إذا تم حرق قطعة من الخبز كتقدمة قربان عند إعداد الخبز (يهود).
 إذا تم وضع الميت مقابل الجدار (يهود).
 إذا تم غسل الميت بواسطة مياه ساخنة قبل الدفن.
 إذا تمت تلاوة صلوات مسلمة أو يهودية قبل الدفن.
 إذا تناول السمك والزيتون بدل اللحم كعلامة حزن (يهود).
 إذا أفرغ الأواني من البيت وبيوت الجيران في حالة الوفاة.
 إذا تم الدفن في أراضٍ يهودية غير مستعملة. 
 إذا تمت دعوته إلى مأدبة مسيحية ولم يتناول اللحم ولحم الخنزير.
 إذا طبخ يوم الجمعة حتى لا يأتي بعمل نهار السبت (يهود).
 إذا أضاء منزله نهار الجمعة أكثر من العادة استقبالًا لنهار السبت (يهود).
 إذا تم تكفين الميت وغسله قبل دفنه (مسلمين).
 وتبقى العلامة الأكثر استعمالًا عند الاثنين ألا وهي الختان أول ما كان يفحصه المفتشون عند الذكور كبارًا وصغارًا. 
هذه المعايير التي على أساسها كان يتم اختيار المتهمين، وكما لاحظنا فقد وضعت هذه القوانين للتخلص من كل المسلمين واليهود داخل إسبانيا، ومَن يرغب من هؤلاء في البقاء عليه اعتناق الديانة المسيحية على المذهب الكاثوليكي.
وقد استطاعت الملكية الإسبانية من خلال هذه المحاكم تثبيت سلطتها على البلاد والتخلص من الخطر اليهودي والمسلم، بنظرهم، وتحويل الصراع من صراع ديني «مسيحي - يهودي - مسلم» إلى صراع عرقي «إسباني - إسرائيلي - عربي» (Lea،1906،P126).
فالمسيحيون الذين أسقطوا الحكم العربي في الأندلس لم يتقبّلوا فكرة بقاء طائفة كبيرة من العرب واليهود من أصحاب المال والأملاك الواسعة، هؤلاء الذين بنوا أمجادهم أثناء الحكم العربي اعتبروا من قبل الحكّام الجدد، أصحاب نعمة مسلوبة من أصحاب الأرض الأصليين ألا وهم القوط، وأن هذه الأملاك والأموال يجب أن تعود إلى أصحابها، هذا بالنسبة إلى العامة، أما الحكام فكان هدفهم - كما لاحظنا - دعم خزينة الدولة.
بذلك نلاحظ أن محاكم التفتيش التي ظهرت في أوربا بالعصور الوسطى كان إنشاؤها لأهداف خاصة وليس بهدف ديني، فالبابا كان يسعى إلى تأكيد سلطته وترسيخها ومنع خروج أوربا من نفوذه، لذا حوّل كل من تجرأ على معارضته إلى تلك المحاكم تحت عنوان ديني، والملكية التي تحصنّت بهذه المحاكم أيضًا لهدف واحد وهو حماية أملاكها وزيادة نفوذها والتخلص من المعارضين، وأفضل مثال على خلفية هذه المحاكم هو ما نطق به المفكر العقلاني برونو أمام مجلس الكرادلة الذي تلا عليه الحكم: «ربما كنتم من نطقتم الحكم بإعدامي أشد جزعًا وخشية مني أنا الذي تلقيته». 
ومن خلال أعواد النيران هذه تشكل الجسر الذي أوصل أوربا إلى عصر الانفتاح العلمي والمنهج العقلي النقدي، إنها الحرب على الأسباب الأربعة للجهل - حسب بيكون -: «احترام السلطة، والعُرف والعادة، وروح الجمهور الجاهل، وما عليه ميولنا من عدم قابلية للتعلم تتسم بالغرور والكبرياء، فلو تغلّب الناس على هذه وحدها لانفتح أمامهم عالم من القوة» (ويلز، معالم تاريخ الإنسانية) ■