ابنة الشام التي أسست مؤسسة صحفية رائدة في مصر روز اليوسف أسطورة الصحافة العربية

ابنة الشام التي أسست مؤسسة صحفية رائدة في مصر روز اليوسف أسطورة الصحافة العربية

يبزغ اسم روز اليوسف أسطورة الفن والصحافة العربية كأحد النماذج المذهلة في كفاح المرأة العربية ضد أعراف كانت كفيلة ليس بسجنها وقمعها فقط، بل بمحوها رأسًا من الوجود... هكذا يُقدّمُ المخرج محمد كامل القليوبي الفيلم التسجيلي الذي أنتجته شركة مصر للأفلام العالمية (أسطورة روز اليوسف) ويسرد فيه حياة أهم امرأة في تاريخ الصحافة العربية، ابنة الشام التي جاءت إلى مصر فقيرة يتيمة وحيدة؛ لكنها أسست قلعة مؤسسة روز اليوسف الصحفية وسط القاهرة.

 

ويصفها الكاتب مصطفى أمين بأنها: «امرأة لها شجاعة ألف رجل، إذا أقدمت لا تخاف، وإذا حاربت استمرت في المعركة، حتى ولو سقطت على الأرض، لا تعرف المُهادنة، وتكره التراجع، وتمقت الفرار، لا تحتمل أن يمسَّ أحد جريدتها أو يقف في طريقها، كانت تنفجرُ فيه كالنمرة، وكان الوزراء يحسبون حسابًا لثورتها، والصحفيون يحسبون حسابًا لغضبها، حيث جاءت كل المجلات التي أصدرتها روز اليوسف ومنها الجريدة اليومية لتكون نسخة من العناد والكبرياء والثورية».

طفولة بائسة
ولدت روز اليوسف عام 1897 في مدينة طرابلس شمال لبنان، وماتت أمها بعد مولدها بعامين، وكان والدها يعملُ بالتجارة، ويسافر كثيرًا بين إسطنبول وبيروت؛ لهذا عهد بابنته عند أسرة كانت تسكن بجوارهم في طرابلس؛ لتربيتها ورعايتها وتعليمها، مقابل مبلغ من المال يدفعه كل شهر، وسارت الأمور يسيرة لسنوات قليلة. كان الأب يزور ابنته عندما يعود من السفر، ويعطي للأسرة التي ترعى ابنته المال المتفق عليه، لكن يُسافر الأب وتنقطع أخباره، ويموت أثناء السفر، وبالتالي ينقطع المال الذي كان يدفعه، وتتبدل حال ابنته الصغيرة، وتُعاملها الأسرة بقسوة، حياتها أقرب لحياة الخادمة، في مذكراتها (ذكريات) التي صدرت عن سلسلة الكتاب الذهبي في مؤسسة روز اليوسف عام 1956، تكتب روز اليوسف عن طفولتها قائلة: أحسست أن والداي يُعاملاني بقسوة لا تصدر عن أب وأم، كانت ثيابي خرق بالية، وطعامي فضلات، لم أسمعْ منهما كلمة حلوة، ولا ابتسامة حانية، وكانت مُربيتي خديجة تأخذني في أحضانها وتحنو عليّ، وتعطيني الكثير من الطعام والحلوى في الخفاء، حتى جاء صديق للأسرة يومًا وزار البيت وطلب من أبواي اصطحابي معه؛ لأنه قرر الهجرة إلى البرازيل ويحتاجني معه، والغريب أنهما رحبا بالتفريط في بكل سهولة، وهنا صرختُ في مربيتي خديجة مُتسائلةً: كيف تفرط أم وأب في ابنتهما بهذه السهولة؟!
عندها باحت المُربية بالسر الذي أخفته عني سنوات طويلة: هذان ليسا أمك ولا أباك.
أكملت المربية خديجة:  لقد ماتت أمك السيدة (جميلة) عقب ولادتك، وسافر أبوك (محمد محيي الدين اليوسف) إلى اسطنبول لتجارته الواسعة بين لبنان وتركيا، وقد كان رجلًا ثريًا وعلى خلق كريم، وكان كثير السفر، ولم يكن في وسعه أن يأخذنا معه؛ لذلك تركك معي وديعة عند هؤلاء الجيران؛ لهذا أنا أستمر معك، وكان أبوك يُرسلُ لنا المال من وقت لآخر، حتى انقطعت أخباره، وأصبحت الحال كما وعيت عليه من القسوة، واسم روز أطلقته عليك هذه الأسرة، أما اسمك الحقيقي فهو: فاطمة.
تظاهرت روز بالموافقة على السفر للبرازيل، حتى تتخلصَ من المعاملة القاسية التي وجدتها في البيت الذي كانت تعتقدُ أنه بيتها، وعلى سطح الباخرة المُسافرة من بيروت تعرفت على المخرج إسكندر فرح وأعجب بشخصيتها وذكائها، وعندما توقفت الباخرة في ميناء الإسكندرية، كان إسكندر فرح قد أقنعها بالنزول معه في الإسكندرية والعمل بفرقته المسرحية، وفي عام 1910 عاشت روز مع أسرة إسكندر فرح الذي عاملها كبنت من بناته، ثم عملت كومبارس بفرقته المسرحية. 

عزيز عيد وحنان الأبوة المفقود
وفي عام 1912 تعرفت على الفنان عزيز عيد الذي كان يعملُ ممثلًا ومُخرجًا، ثم أسس فرقته المسرحية - فرقة الفودفيل عام 1915 ولاقت نجاحًا كبيرًا بسبب ممثلتها الأولى روز اليوسف، وغناء المطربة منيرة المهدية.
في مذكراتها تؤكد روز اليوسف أنها كانت تترددُ على المسارح وتشاهد المسرحيات إلى أن اكتشفها المخرج عزيز عيد، الذي أسند إليها دورًا في مسرحية عواطف البنين، وعلى الرغم من أنها كانت فتاة صغيرة - عُمرها 14 عامًا - إلا أن دورها في المسرحية كان دور جدة عجوز، ونجحت فيه نجاحًا هائلًا، ولم يكن هذا النجاح هو كل ما أثمرته في هذه المسرحية، بل كان مكسبها الأكبر هو المخرج عزيز عيد نفسه، فحتى ذلك الوقت لم تكن باعترافها عرفت حنان الأبوة، فعوضها عن ذلك، عَلَّمَهَا القراءة والكتابة واشترى لها الكتب لتقرأ، وأحضر لها شيخًا يُلقنها دروسًا في اللغة العربية نظير خمسين قرشًا في الشهر يدفعها من جيبه، وأخذ يُحدثها بالفرنسية حتى تعلمتها، وتدريجيًا تمكنت من الحديث بالفرنسية، ثم انتقلت إلى فرقة عكاشة، وأدت بعض المونولوجات الفنية مع الفنان محمد عبد القدوس، الذي عمل معها في فرقة عكاشة. 
كانت هذه المونولوجات تُلقى بين فصول المسرحية على أنغام الموسيقي. 
وفي يونيو عام 1917 تزوجت روز بالفنان محمد عبد القدوس، إلا أن والده الشيخ رضوان - أحد مشايخ الأزهر - غضبَ غضبًا شديدًا، إذ كيف يتزوج ابنه وهو الشيخ الأزهري من فنانة تقف لتغني وتمثل أمام المشاهدين؟ وخيره بين أن يطلقها أو يطرد من البيت، وطلق محمد عبدالقدوس زوجته، وهي حامل في ابنهما إحسان عبد القدوس، وبعد الولادة انتقل الطفل إحسان ليعيش في بيت جده الشيخ رضوان بحي العباسية، وتقوم عمته بتربيته، وخلال الإجازة الصيفية كان يزور إحسان والدته، ثم التحقت روز اليوسف بفرقة جورج أبيض المسرحية، ومثلت روز مع فرقة جورج أبيض على مسرح الأوبرا رواية الشعلة، ونجحت هذه الفرقة نجاحًا مُبهرًا، وحققت مكانة رفيعة بين الفرق المسرحية.

 فرقة رمسيس وسارة برنار الشرق 
أسس الفنان يوسف وهبي فرقة رمسيس، وأصبحت روز بطلة مسرحيات وهبي، ونجحت نجاحًا رائعًا، وبلغت ذروة المجد فيها، خاصة عندما مثلت دور مارجريت جوتييه برواية غادة الكاميليا، وأشاد النقاد بصدر الصفحات الفنية بموهبتها المُتوهجة، وأطلقوا على روز اليوسف الاسم الخالد: سارة برنار الشرق، لبلوغها المجد الذي وصلت إليه سارة برنار ممثلة فرنسا الأولى، وكان هذا الدورُ فاتحة خير عليها، إذ ظلت مدة ثلاث سنوات متتالية بطلة فرقة يوسف وهبي المسرحية، التي مثلت خلالها عشرات الأدوار؛ لعل أشهر الأدوار التي لعبتها روز اليوسف باقتدار كان دور: غادة الكاميليا، وأوبريت العشرة الطيبة، ودافيد كوبر فيلد، والتاج والفضيلة.
هل كانت أمينة رزق حقًا سبب القطيعة بين روز ويوسف وهبي؟!
فجأة حصل خلاف كبير بين روز اليوسف والمخرج يوسف وهبي بعد حوار ونقاش حادين مع يوسف وهبي أشعلته رواية (الذبائح) بعدما أرادت روز القيام بدور صبية يتيمة في الرواية، لكن وهبي أسند دور البطولة للفنانة الصاعدة أمينة رزق التي كانت لا تزال صغيرة السن لم تتجاوز الــ14عامًا، واشتد الخلاف وتمسك المخرج يوسف وهبي بقراره؛ لأن أمينة رزق من وجهة نظره الأنسب للدور، لكن روز تمسكت بالدور بوصفها بطلة الفرقة، فواجهها وهبي برفض شديد وأصَرَّ على اختيار أمينة رزق، وتبودلت الاتهامات، واحتدَّ وهبي في النقاش قائلا: 
سيظل التاريخ يحفظ اسم يوسف وهبي، أما اسم روز اليوسف فسيموت ويختفي ولن يتذكره الناس.
وتردُّ عليه روز مُؤكدةً: كلنا سنموت، لكن هناك فرقًا بين شخص يموت وينتهي، وشخص مثلي يموت لكن يظلُّ حيًا بسيرته وحياته، ومثل اسم روز اليوسف لن يموت أبدًا ومع الأيام سترى.
غادرت روز اليوسف مسرح رمسيس، وقررت الرحيل عن الفرقة واعتزال التمثيل نهائيًا بسبب خلافاتها الدائمة مع يوسف وهبي سنة 1923، بعد نجاحاتها الفنية على مدى أربعة عشر عامًا، وظلت تفكر طوال طريق عودتها إلى البيت كيف تجعل اسم روز اليوسف يترددُ على جميع ألسنة الناس، وكأنها تعيشُ أسطورتها الخاصة.  كانت روز اليوسف خلال سنة 1923 قد تزوجت من الفنان زكي طليمات زميلها في فرقة رمسيس، وفي يوم 20 أكتوبر 1924 ولدت ابنتها آمال زكي طليمات.

ميلاد مجلة روز اليوسف
بداية أكتوبر عام 1925 كانت روز اليوسف تجلسُ في محل حلواني كساب وسط القاهرة - مكان سينما ديانا الآن - مع زوجها زكي طليمات والصحفي إبراهيم خليل - كان يعملُ بجريدة البلاغ - حتى أقبل عليهم الصحفي حافظ نجيب - كان يكتبُ مسرحيات لفرقة إسكندر فرح التي تجوب محافظات مصر المحروسة - وضع حافظ نجيب أمامهم مجلة كان يصدرها من بيته عام 1925، باسم (الحاوي)، وفي صدرها هجوم على الممثلات والممثلين، تصفحت المجلة سريعًا، ثم سألت روز اليوسف الأصدقاء: لماذا لا توجد مجلة فنية تُدافعُ عن هؤلاء الممثلات والممثلين؟! وَمَنْ يكتبُ فيها؟! وَمَنْ يُدافعُ عن الفنانين المظلومين الذين انهالت عليهم المجلة بالتجريح؟!
خاطر سريع يطوف بذهنها فتطرحه على الأصدقاء قائلة: لماذا لا تُصدرُ هي مجلة تُدافعُ عن هؤلاء المظلومين؟!
وتحمس زكي طليمات للفكرة قائلًا: إن الناسَ تتعطشُ إلى الأدب الرفيع، ولو صدرت مجلة لتلقفتها الأيدي بسرعة!
تُؤكدُ روز اليوسف في مذكراتها بشأن تأسيس المجلة، أنها قدرت أغلب التفاصيل بجلستها في محل حلواني كساب، وعلى الفور سألت الصحفي إبراهيم خليل عن تكلفة طباعة 3000 نسخة من عدد المجلة، فأخرج ورقة وقلمًا وراح يحسبُ، حتى قدر تكلفة طباعة العدد بـ 12 جنيهًا، واقترح الأصدقاء بعض الأسماء للمجلة، لكن روز قالت فجأة:  لقد قررت أن تحملَ المجلة اسم روز اليوسف؛ لتكونَ أول مجلة تحمل اسم سيدة. ابتسم زكي طليمات مُؤكدًا أنه اختيار شديد الذكاء؛ لأن اسم روز اليوسف معروف في الأوساط الفنية والشعبية كونها ممثلة مسرحية مشهورة، وانتهى الحوار، ورجع كل واحد إلى بيته وقد نسوا الحديث تمامًا، أما روز اليوسف فتصف في مذكراتها هذه الليلة فتقول: إنها لم تنم، وظلت تحلمُ بالمشروع، وتقلّبُ صفحات المجلة، مولودها القادم.
وفي صباح اليوم التالي كانت تجلسُ في مكتب إبراهيم خليل؛ لتكتبَ طلبًا لوزارة الداخلية لاستخراج رخصة مجلة روز اليوسف، ونصحها إبراهيم خليل بالاستعانة بالكاتب محمد التابعي، وفي اليوم التالي اجتمعت بالكاتب محمد التابعي على المقهى الذي نصحها باستكتاب كبار الأدباء مثل: عباس العقاد ودكتور طه حسين وإبراهيم المازني.
وعن فريق التحرير الذي قام بتأسيس المجلة معها، تؤكد روز اليوسف في مذكراتها: أنه يضم خمسة أشخاص هم: محمد التابعي - وكان يعملُ في مجلس النواب، ويكتبُ في الصحافة باسم (حندس) - وأحمد حسن، وسعد الكفراوي وزكي طليمات، وإبراهيم خليل، والأخير خاله عبد القادر حمزة صاحب جريدة ومطابع البلاغ الذي ساعد المجلة كثيرًا. 
كان مقر المجلة بشقتها في 10 شارع جلال عمارة بالمنيرة الدور السادس، بعمارة أمير الشعراء أحمد شوقي، وَمَنْ يريدُ الوصول للمجلة عليه أن يصعدَ 95 سلمة؛ لهذا كانت روز اليوسف تجلسُ مع الصحفي محمد التابعي رئيس تحرير المجلة على المقهى لمراجعة البروفات؛ لأنه يرفضُ الصعود للدور السادس، وهكذا صدر العدد الأول كمجلة أدبية فنية أسبوعية، وكان ثمن النسخة عشرة ملليمات، ثم أصبح خمسة ملليمات، وفي صباح يوم الإثنين 26 أكتوبر سنة 1925 انطلق بائعو الصحف في شوارع القاهرة، وهم يصيحون بصوتٍ عالٍ:
روز اليوسف، البلاغ، الأهرام.
هكذا نجحت السيدة روز اليوسف في تخليد اسمها، وتحقيق أسطورتها الخاصة.
ظلت مجلة روز اليوسف تصدر من شقة شارع جلال عمارة بحي المنيرة في السيدة زينب، وتطبع بمطابع دار البلاغ في شارع محمد سعيد، حتى استأجرت روز بيتًا من بابه، في شارع محمد سعيد، وعامًا بعد عام بدأت روز بتجهيز مطبعتها الخاصة وتستقل بالطباعة عن دار البلاغ، وظلت بهذه الدار حتى انتقلت إلى رحمة الله، ولم يمهلها القدر حتى ترى مبنى مؤسسة روز اليوسف الحالي، الذي اشترت أرضه بنفسها في شارع القصر العيني، وقام ببناء المبنى الحالي ابنها الكاتب إحسان عبدالقدوس بعد رحيلها.

رؤساء التحرير
على مقعد رئيس تحرير مجلة روز اليوسف جلس كل من: محمد التابعي، روز اليوسف، إحسان عبدالقدوس، أحمد حمروش، أحمد بهاء الدين، كامل زهيري، عبدالرحمن الشرقاوي، فتحي غانم، صلاح حافظ.
وأصدرت صحيفة روز اليوسف اليومية في 25 مارس 1935 ورئيس تحريرها الدكتور محمود عزمي. ثم أصدرت مجلة صباح الخير الأسبوعية في 17 يناير 1956م ورئيس تحريرها الكاتب أحمد بهاء الدين.
وأصدرت سلسلة الكتاب الذهبي عام 1956، وأول عدد كان كتاب (ذكريات) وهو مذكرات السيدة روز اليوسف.
لقد ساهمت روز اليوسف في حركة الأدب والثقافة بإصدار الكتاب الذهبي - سلسلة شهرية تُعْنَى بالرواية وكتب الأدب والفكر والسياسة عام 1956 - واستعانت السيدة روز اليوسف بقامات أدبية وفكرية للإشراف على سلسلة الكتاب الذهبي مثل: دكتور طه حسين، علي أحمد باكثير، عبدالرحمن الشرقاوي، نجيب محفوظ، وغيرهم. 
توفيت السيدة روز اليوسف فجر يوم عيد الفطر المبارك الموافق 10 أبريل 1958 ■