الأدب والسياسة

الأدب والسياسة

ليس هدفنا هنا أن نتحدث عن طبيعة العلاقة بين الأدب والسياسة أو عن أشكال هذه العلاقة، وإنما الغرض أن نسلّط بعض الضوء على جانب من التواصل المثمر بينهما في إطار حقبة من التاريخ الإسلامي العربي، والذي يمكن إسقاط صورته على بعض جوانب الحياة الحاضرة، وتجسيده بوصفه تجربة من التجارب الغنية من حيث إيحاءاتها وانعكاساتها على الحركة الفكرية في عمومها، والنظر في إمكانية الاستفادة من هذه التجربة في إحداث تغيير إيجابي بواقعنا العربي الراهن، أو التخفيف مما يواجهه هذا الواقع من أزمات سياسية وصراعات فكرية وحضارية، حيث إن نمط العلاقة بين الأدب والسياسة في الحقبة المشار إليها كان باعثًا على النهوض بالأدب والفكر وحتى على السياسة نفسها أو على جوانب إيجابية منها على الأقل. ولاشك أن النهوض بذلك كله يمكن أن يكون طريقًا من الطرق التي تقود الأمة إلى حضارة أفضل.

 

الحقبة التاريخية التي نعنيها هنا هي الفترة التي تسلّم فيها البويهيون مقاليد الحكم في العراق وأجزاء من بلاد فارس إبان انحلال الدولة العباسية أو ضعفها وتراجع هيبتها، والتي امتدت منذ عام 320هـ حتى عام 447هـ، أي إلى ما يقرب من قرن وربع القرن، وقد تجلّى في هذه الحقبة أو خلالها نوع يمكن أن نسمّيه التكافل السياسي الأدبي، كانت له فاعليته الكبيرة في نشوء نهضة فكرية بمختلف مجالات الفكر والفن والإبداع.
لم يكن الوعي بالدور السياسي للأدب والتوجه إلى استثماره من قبل رجال السياسة والحكم جديدًا في تاريخ الدولة الإسلامية كما هو معلوم، فقد سبق إليه الخلفاء ورجال السياسة والحكم في الفترات السابقة، فكان الأمويون والعباسيون لا يدعون جانبًا من الثقافة والمعرفة أو الفن إلا استثمروه في توطيد أركان حكمهم، وكان الأدب بجانبيه الشعر والنثر في المقدمة بلا شك، إذ جرى التقليد في استقطاب الشعراء والأدباء وتقريبهم إلى بلاطات الحكم قرونًا من الزمان. غير أن الجديد في هذه المرحلة هو أن حكامًا من أصول فارسية اتخذوا من الأدب العربي ورجاله ونابغيه سندًا لدعم سياساتهم وتوطيد أسس حكمهم، ليس فقط لأصالته وشرفية لغته وصلته القوية بالدين الظافر وأهله المنتصرين، وما كان يحظى به نتيجة لهذه الأسباب كلها من قوة النفوذ والتأثير في عامة بلاد المسلمين، وإنما بدافع من الشغف به والتأثر بلغته وبلاغة أساليبه والافتخار بمعرفته أو البراعة في بعض فنونه، والناس على دين ملوكهم.
كان بين ملوك وأمراء الدويلات الإسلامية التي تكوّنت عقب انهيار الخلافة العباسية الكبرى أو ضعفها - كما يحدّثنا التاريخ - تنافس كبير على تقريب الأدباء والشعراء والمفكرين وتكريمهم وتشجيعهم على الإنتاج والعطاء، أسوة بما كان يصنعه حكّام الدولتين الأموية والعباسية في العصور الماضية، وإيمانًا منهم بما كان للأدب والشعر خاصة من دور في توطيد الحكم وتوسيع النفوذ الذي كانوا يتطلعون إليه.  وبما أن تلك الدويلات كانت كثيرة وموزعة على معظم مناطق البلاد الإسلامية فقد كان لذلك الاهتمام والتكريم والتشجيع آثار كبيرة في انتشار هذا الأدب وتعزيز مكانته في نفوس عامة المسلمين. وقد كان لحكام دولة البويهيين النصيب الأوفر من ذلك التشجيع، لذلك كان الأدب العربي إبان فترة حكمهم في أزهى عصوره.

الشعراء والأدباء وسيلة 
اشتهر حكام البويهيين وأمراؤهم ووزراؤهم بتقريب الشعراء والأدباء العرب في مختلف المناطق التي حكموا فيها ومنحهم الجوائز السخية على ما يؤلفونه ويبدعونه من أعمال، ما جعل بلاطاتهم مقصدًا لكل شاعر وأديب مبدع، وجعل هذه البلاطات بالتالي مجالس عامرة بالعلم الأدب وحلبات واسعة للشعراء والأدباء على اختلاف مذاهبهم ومستوياتهم.
كان من الواضح أن ذلك التشجيع المتواصل للأدب وتلك العطاءات السخيّة التي كان يغدقها الحكّام البويهيون على الأدباء لم تكن لمجرد حبهم للأدب واستئناسهم بجوانب العلم والمعرفة فقط، وإنما كان مرد ذلك إلى أنهم كانوا يتخذون من الأدباء والشعراء الذين يكرمونهم وسائل لتعزيز نفوذهم ودعم أنظمتهم وتثبيت حكمهم وتأييد سلطانهم، لما كان للأدب من نفوذ واسع وتأثير كبير في النفوس، إذ كانت اللغة العربية لاتزال قوية بفضل الإسلام، معظمه بين المسلمين، معززة عند أهلها ومتمكّنة من نفوسهم، وكان الفكر المدوّن بها مزدهرًا وكان تراثها الأدبي حيًا، وعشاق الشعر كثيرون، كما كانت صلة الناس به وبمبدعيه وقائليه قريبة حميمة، لذلك كانت الكلمة الشاعرة الجميلة بما تحويه من عناصر مؤثرة تنفذ بيسر إلى أحاسيس الجماهير وتهزّها وتأخذ بنواصيها.
ومن الأدلة على ذلك عشق العديد من الحكّام البويهيين أنفسهم للأدب العربي شعره ونثره كما أسلفنا، وتوجههم الطموح للمشاركة في إنتاجه والبراعة فيه، فكان منهم شعراء وأدباء متذوّقون لجمال البلاغة العربية بمختلف فنونها، هذا على الرغم من أصولهم الفارسية وعلاقتهم التي بقيت وثيقة بالفرس وبتراثهم.
كان بعض الشعراء العرب يقومون في حضرة بني بويه بما كان يقوم به أسلافهم في جاهليتهم من نصرة القبيلة وذكر محامدها والإشادة بمكارمها أو اختلاق هذه المحامد والمكارم إن لم تكن موجودة أو ظاهرة، لم يتغير شيء هنا سوى أن القبيلة أصبحت دولة، وصارت العصبية للمال والشهرة والسلطة أو الجاه بدلاً من العصبية للدم أو الحسب والنسب، وصاروا يقومون بما تقوم به أجهزة الإعلام في حاضرنا الراهن، من دعاية لأصحابها وتمجيد المسؤولين عنها ودعوة لهذا الحاكم أو ذاك، وتزيين الواقع المطلوب بكل الطرق والوسائل، حتى وإن يكن بإظهار الباطل في صورة الحق وإلباس الحق ثوب الباطل، وإن اختلفت الأشكال والطرق والأساليب بين الماضي والحاضر. وهكذا كان الشعراء والأدباء يشاركون في دعم السياسة التي كانت تحيطهم بالرعاية والتكريم.
كان كل حاكم أو أمير أو وزير في تلك العهود يسعى إلى أن يجمع حوله أكبر بطانة من مشاهير الشعراء والكتّاب يشيدون بذكره، ويظهرون فضائله، ويدعون الناس إلى تأييده والخضوع لسلطانه، بما كانوا يجيدونه من أساليب مؤثرة، كما كان ينتقي من الكتّاب أكثرهم حصافة وحكمة وبلاغة وبراعة في فنون الإنشاء، فيجعله كاتمًا لأسراره ناطقًا بلسانه، معبّرًا عن إرادته، بغض النظر عمّا تكون أصول هذا الكتاب أو ديانته وعقيدته، لذلك كان الكتاب آنذاك - كما يقول أبو منصور الثعالبي -: «السنة الملوك، إنما يتراسلون في جباية خراج أو سد ثغر أو عمارة بلاد أو إصلاح فساد أو تحريض على جهاد أو اجتماع على فئة أو دعاء إلى ألفة أو نهي عن فرقة أو تهنئة بعطية برزية أو ما شاكلها من جلائل الخطوب ومعاظم الشؤون، وقد وسمتهم خدمة الملوك بشرفها وبوأتهم منازل رياستها».
وقد عبّر أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابئ (ت367 هـ) في قصيدة له عمّا كان يحظى به الكتاب عند الحكام ورجال السياسة في عصره، وعن تلك الحفاوة البالغة التي كانوا يلقونها منهم، والأدوار السياسية المهمة التي يوكلونها إليهم أحيانًا، حيث كان الصابئ نفسه كاتبًا وشاعرًا، وكاتبًا رسميًا مقرّبًا للخليفة الطائع العباسي، ثم لعز الدولة الملك بختيار البويهي، على الرغم من كونه صابئيًا. يقول الصابئ في قصيدته:
وقد علم السلطان أني لسانه
                          وكاتبه الكافي السديد الموفق
أؤازره فيما عرا وأمده
                        برأي يريه الشمس والبدر أغسق
يحدد بي نهج الهدى وهو دارس
                       ويفتح لي باب النهى وهو مغلق
فيمناي يمناه ولفظي لفظه
                          وعيني له عين بها الدهر يرمق

وقد بلغت مكانة الأدباء عند أولئك الحكّام والأمراء إلى درجة أنهم كانوا يستوزرونهم، يوم كان الوزير رجل دولة، يشارك الملك أو السلطان في إدارة شؤون حكمه، فكان الحسن بن محمد المهلبي - على سبيل المثال - وزيرًا لمعز الدولة (ت356هـ)، ومحمد بن الحسن المعروف بابن العميد (ت367هـ) وزيرًا لركن الدولة (ت366هـ)، بينما كان الصاحب إسماعيل بن عباد (ت385هـ) وزيرًا لمؤيد الدولة (ت584هـ)، ثم لفخر الدولة من بعده. وقد كان هؤلاء الوزراء الثلاثة من أقطاب الأدب والشعر والفكر في عصرهم، بل كانوا من أقطاب النهضة الأدبية والعلمية التي علت وازدهرت في ذلك العصر.

الأدب في بلاط الحكم
شاركت السلطات السياسية العليا بلا شك - في إعطاء هؤلاء هذا الزخم الكبير وإيصالهم إلى هذه المكانة الشامخة، لكنهم كانوا سندًا قويًا لها بعلمهم وأدبهم الجمّ، وبما كانوا يقومون به من نشاطات فكرية تصب في صالحها وترتقي بثقافة المجتمع وآدابه في الوقت نفسه.
كان هؤلاء الوزراء الثلاثة الذين سبق ذكرهم يتنافسون على اجتذاب الشعراء والأدباء والعلماء، يختارونهم بفهم وبصيرة، ويبالغون في إكرامهم وإعلاء مكاناتهم، ويجزلون لهم العطاء على ما ينظمونه من قصائد أو يضعونه من الكتب والرسائل في مختلف فنون الأدب والمعرفة.  وكان هذا يعد لاريب حافزًا قويًا لهؤلاء الشعراء والأدباء على الارتباط بهم وبالدولة التي هم أركان فيها، كما كان في الوقت نفسه باعثًا قويًا لهم على شحذ قدراتهم وصقل مواهبهم والنهوض بمهاراتهم وإثبات جدارتهم في مجلس الوزير وبلاط الأمير على حد سواء.
لقد أصبح الشعراء والأدباء وكل أهل العلم والمعرفة يتنافسون بدورهم على كسب رضا الوزير العالم الأديب، بالإضافة إلى تنافسهم على التقرّب من بلاط الحاكم والأمير، يتوافدون من كل حدب وصوب إلى بغداد ليحضروا مجالس أولئك الوزراء وليتباروا في هذه المجالس بمؤلفاتهم وقصائدهم ورسائلهم ليحظوا بجوائزهم وينالوا عطاياهم السخيّة ويفوزوا بالقرب منهم.
وقد عد الثعالبي مجموعة كبيرة من مشاهير الشعراء والكتّاب والخطباء الذين وفدوا على الصاحب بن عباد، أما ابن خلكان فقد صرّح بقوله: «وقد اجتمع عند الصاحب ابن عباد من الشعراء ما لم يجتمع لغيره، ومدحوه بغرر المدائح، ولو عد جميع الشعراء والكتّاب الذين وفدوا على ابن عباد وحده ممن ذكرهم المؤرخون لزادوا على المائة. أما الوزير ابن عباد نفسه فقد كان قمة الأدب في عصره، بحيث يقول عنه الثعالبي: «ليست تحضرني عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب».
إن تلك المكانة العالية التي كان يحظى بها الأدباء عند رجال السياسة والسلطة في تلك العصور كانت - كما سبق القول - تبعث في نفوسهم الطموح والحماسة إلى ممارسة النشاطات الأدبية والتفوّق فيها، وتحثّهم على العطاء والإنتاج، فالكتّاب يسعون إلى تنمية قدراتهم اللغوية والبلاغية ويتفنّنون في أساليب الكتابة والإنشاء. والشعراء يتسابقون إلى كل ما يشحذ قرائحهم ويصقل أذواقهم وينمّي ملكاتهم ويضاعف من قدراتهم على العطاء الجيد في فنهم، وكانت الفرص لكل ذلك متاحة، والظروف مهيّأة للتوسّع في تنمية الأساليب النثرية والشعرية أو إجادتها وفق ما يتطلّبه العصر وتفرضه متطلّبات الحياة، يسهم في تهيئتها أو تسهيل إنجازها أو الحصول عليها رجال السياسة والسلطة، بنو بويه أنفسهم بطرقهم وأساليبهم المختلفة.
أنشأ الصاحب ابن عباد - كما ينقل المؤرخون- أكاديمية ضخمة في بغداد، كما أنشأ عضد الدولة البويهي هو الآخر مكتبة عظيمة في بغداد نفسها، جمعت - كما يقول المقدسي - كل ما أُلّف من الكتب إلى عصره، وكان لعضد الدولة هذا مجلس حافل برجال الفكر والعلم والمعرفة تناقش فيه كثير من المسائل والموضوعات في مختلف العلوم والفنون.
وقد عرف عن عدد من حكّام بني بويه، أنهم كانوا يطلبون ممن يحسّون فيهم الكفاءات العلمية العالية من أفراد حواشيهم وغيرهم، أن يقوموا بمشاريع أو يؤلفوا في موضوعات تقضى بها حاجات المبدعين في كل صنف من العلوم والآداب، ويجزلوا لهم العطاء على ذلك، مما دفع عددًا من الكتّاب إلى أن يؤلفوا الكتب العلمية والمعاجم والرسائل في الموضوعات والمسائل المختلفة ويهدوها إلى الحاكم، كما فعل أبو علي الفارسي (ت377هـ) حين ألّف كتابَيه (الإيضاح) و(التكملة) في النحو وأهداهما إلى عضد الدولة، وكان الشعراء ينظّمون القصائد المطوّلة، ليس في المديح والإطراء أو الاستعطاف أو التهنئة أو العزاء فقط، وإنما في موضوعات شتى تطرح أو تقترح من قبل ولي الأمر نفسه.
وقد أعطيت للأدباء والشعراء في تلك العهود حرية لابأس بها للتعبير عن أفكارهم وعواطفهم، وعلى الرغم من نسبية هذه الحرية واختلاف مداها بين عهد سياسي وآخر، فقد كان لها دور مهم في دعم النشاط الأدبي وتجديد نهضته بالطرق المباشرة وغير المباشرة. وتجلى ذلك بنحو بارز في نظم ذلك الكمّ الهائل من القصائد الشعرية المطوّلة التي تنتصر لهذا المذهب أو ذاك، وتشجب هذه السياسة أو تلك، وتهجو الحكّام وتحلّل شخصيات وتصف سلوكياتهم وتفضح أسرارهم وتنبّه إلى عيوبهم وخطل سياساتهم، كما تجلّى من جانب آخر في تلك الكتب والرسائل التي وضعت في مختلف المسائل الدينية والفلسفية، ثم في تلك الأقلام التي كانت تعلن بمختلف وسائل التعبير عن أهواء أصحابها وتوجهاتهم الفكرية وانتماءاتهم العقائدية والسياسية، من دون مواربة أو خوف من حسيب سياسي أو رقيب إعلامي في الغالب، وبالتالي لم تكن قصائد المديح على كثرتها هي الناتج الوحيد أو الأكبر لتلك السياسات.
وقد امتدت الحرية والمساندة من قبل الحكام في الفترة التي نحن بصددها، إلى اللغويين وصنّاع المعاجم، فصاروا يتابعون بحيوية وحضور وانفتاح مستمر حركة الأدب، ويتحرّون القضايا والظواهر المثيرة على الساحة الأدبية وما يحتاجه الأدباء من موضوعات وأدوات، ويصنّفون فيها الكتب والرسائل بمختلف قضايا اللغة وموضوعاتها، كما يتتبّعون بجرأة وتحرّ صادق أمين أخطاء اللغة وهفوات الألسنة وسقطات التعبير لإصلاحها، ليس لدى عامة المجتمع وخاصته من الأدباء والكتّاب فحسب، وإنما لدى كبار الحكّام والسلاطين ورجال السياسة والقيادة أيضًا، لا يهابونهم ولا يحشمون أحدًا منهم، وهكذا سموا بهيبة العربية وأعلوا مقامها وأكبروا شأنها.
ولقد كانت محصلة تلك الحركة اللغوية، أن ازدهرت الكتابة النثرية في الفترات التاريخية المشار إليها ازدهارًا لم تعرفه الفترات التي سبقتها وتركت لنا ذخيرة هائلة من النتاج النثري الفني الذي تمثّل بصورة أساسية في الرسائل الديوانية والسلطانية التي كان ينشئها كتاب الملوك والخلفاء والأمراء والرسائل الإخوانية التي يتبادلها الأدباء فيما بينهم والرسائل الوجدانية والحب وغير ذلك من نماذج النثر الفني، ونبغ في ذلك عدد كبير من الأدباء أمثال: عبدالواحد بن نصر المخزومي (ت398هـ) المعروف بالببغاء، وأبوبكر الخوارزمي (ت383هـ)، والشريف الرضي وأبو إسحاق الصابي، وأبوحيان التوحيدي (ت414هـ)، وبديع الزمان الهمداني (ت398هـ)، وعشرات غيرهم، هذا بالإضافة إلى الوزراء الأدباء الذين سبق ذكرهم.
وهكذا كان لتلك العلاقة الوثيقة بين السياسة والأدب بمختلف فنونه وارتباطاته أثرها الكبير في تطوير الأدب وتنشيط حركاته وتعزيز مكانة اللغة وتقوية شوكتها من جانب، كما كان لها أثرها في توطيد أركان السياسات التي حمتهما ورعتهما وتسبّبت في إعلاء شأنهما من جانب آخر، هذا بغض النظر بطبيعة الحال، عن قيمة تلك السياسات من الناحية المعيارية للسياسة، وعن أثرها في النهوض الشامل بالمجتمع.

العهد البويهي صراعات مريرة
كانت الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية مضطربة في العهد البويهي، لكن ذلك كان بسبب أطماع رجال السياسة، نتيجة تلك الصراعات المريرة المستمرة على الهيمنة والنفوذ بين السلاطين البويهيين وخلفاء بني العباس الذين كانوا يمثلون السلطة الدينية الرسمية من جهة، وبين السلاطين البويهيين أنفسهم من جهة أخرى. أما الأدب فكان في كثير من الأحيان يقترن بالسياسة في مسيرة التقدم والازدهار.
عرف عضد الدولة البويهي (ت372 هـ) بفطنته وذكائه وحنكته السياسية العالية، ومن مظاهر هذا الذكاء وهذه الحنكة أنه دأب منذ توليه الحكم على رعاية العلماء والشعراء والمفكرين وبالغ في تكريمهم وتشجيعهم على الإنتاج والعطاء، من دون تفريق بينهم في العقيدة أو الدين أو الأصل، ما زاد في تنافسهم على التقرّب من بلاطه، ليس بقصائد الثناء والمديح والوصف وغير ذلك من أغراض الشعر فحسب، وإنما بتأليف الكتب والرسائل في مختلف العلوم والفنون. ومع استمرار هذا التنافس زاد نتاج الفكر وازدهر الأدب ونبغ العديد من الشعراء والأدباء من أمثال: أبوالحسن السلامي أبرز شعراء العراق في ذلك الوقت، والمتنبي، والشريف الرضي وأخوه الشريف المرتضى والحسين بن الضحاك وابن سكرة، كما نبغ العديد من العلماء والكتّاب من أمثال أبي علي الفارسي وأبي إسحاق الصابئ.
وقد أثرى هؤلاء الشعراء والأدباء والعلماء تراث الفكر العربي بأعمالهم ومنجزاتهم، كما كانت لهم أدوارهم في دعم سلطة الدولة وتثبيت دعائمها وإبراز مكانتها والإعلاء من شأنها والإطالة من أمدها، وهكذا صار عهد عضد الدولة البويهي (الأعجمي الأصل) من أزهى العصور في الأدب العربي بشقّيه، الشعر والنثر، كما ازدهرت السياسة أيضًا.
ربما يقال إن ما قام به أولئك الحكام والأمراء والوزراء تجاه الشعراء والكتّاب قد شجّع على مهنة التكسّب بالشعر والأدب، وساعد على خلق أدب صناعي متكلّف بعيد عن الأصالة الفنية والصدق العاطفي الذي يعتبر العنصر الأساسي في كل فن أصيل، ويمكن الإجابة عن هذا السؤال بالقول: إن التكسّب بالشعر مهنة قديمة عند العرب، عُرفت منذ ما قبل الإسلام، ثم نمت وتطوّرت عندما توافرت أسبابها في بلاطات الأمويين ثم العباسيين من بعدهم، لتأخذ أبعادًا عديدة مختلفة، وهكذا برز عدد كبير من الشعراء في ظل هذا التكسّب، وظهر معظم إبداعاتهم ومهاراتهم الفنية بسببه أو من خلاله، هذا بالطبع إذا أخذنا التكسّب بمعناه الواسع الذي لا يقتصر على كسب المال، وإنما يشمل كل ما يصب في مصلحة الشاعر الدنيوية من كسب المال أو المنصب أو الجاه والأبهة أو الشهرة وذيوع الصيت، إذ لم يكن هناك شاعر في تلك العهود لم يستظل بظلّ خليفة أو وزير أو أمير أو ولي أو سري يمدحه ليكسب قربه أو عطاءه ورعايته.
غير أن معظم أولئك الشعراء الذين مدحوا أو ذمّوا لم يكونوا يقتصرون في أشعارهم على الثناء على ممدوحيهم أو هجاء أعدائهم، وإنما كانوا يعبّرون في أثناء ذلك كما سبقت الإشارة عن معاناتهم، أو عن مزيج من المشاعر والمواقف، وقد أظهروا مهاراتهم الفنية في تصوير تلك المعاناة أو تلك المشاعر والمواقف، ولا يبعد أن تكون الجهات السياسية التي دأبت على رعاية أولئك الشعراء والأدباء وتقريبهم وسماع مدائحهم وقصائدهم في تلك العهود قد قصدت التعرّف على نزعاتهم ومواقفهم ونزواتهم ومشاعرهم الخفيّة ومعاناتهم التي كانت تعكس بنحو أو بآخر معاناة المجتمع، وتعبّر عن واقع فئات منه، وذلك لتكبح ما تخشاه منها وتشجّع على ما تريده، وهذا نوع من أعمال السياسة.
وللسياسة أهدافها المختلفة في التعامل مع آداب الشعوب، منها ما يقصد الهدم والتخريب، ومنها ما يقصد به التطوير والبناء، كما أن منها ما يقصد إلى عقد صلات توافق أو إيجاد نوع من أنواع التوازن بين القوى.
ومن خصائص الأدب بوصفه فنًا رفيعًا أنه يعكس واقع المجتمع الذي ينتمي إليه، ويكشف عن الكثير من طبائع أفراده وعن عامة توجهاتهم ونزعاتهم وارتباطاتهم الوجدانية والفكرية. ومنطق السياسة الحكيم يقضي التعرّف الكامل على ذلك كله، لاسيما عندما تكون الجهة السياسية التي تحكم المجتمع أو تريد السيطرة عليه وتعمل على توجيهه لصالحها، أو تكون غريبة عن المجتمع أو آتية أو موجهة من خارجه، فهي تسعى إلى الكشف والاختراق ومعرفة مواطن النفوذ والقوة وطرق التعامل ووسائل التأثير والتغيير، لتتمكن من توجيه المجتمع على حسب ما تريد، وتحقق بغيتها منه، وربما لا يهمها أن تكون مصالح المجتمع متعارضة مع مصالحها، فهذا ما نراه لدى الدول الاستعمارية التي تسعى إلى استعمار الشعوب أو استلابها ونهب خيراتها.
ومن مهام الأدب الرفيع وأهدافه السامية أيضًا، أنه يخاطب أبناء الأمة بلغتهم المحتشمة ليعزز لديهم روح الانتماء إلى الهوية والولاء للوطن والأرض والإخلاص للمجتمع وتراثه ومبادئه وقيمه الروحية والإنسانية، كما أن من مهامه أنه يغرس في نفوس أبناء الأمة حب الحرية وكراهية الظلم والقهر والتمرّد على الطغيان والاستبداد، وهذه كلها مرفوضة من قبل المستعمر ومتعارضة مع مصالحه، لذلك لابد أن يسعى إلى محاربتها، لأن مصلحته تقتضي اقتلاع المجتمع المستعمَر (بفتح الميم)، من جذوره يفصله عن ماضيه ليتمكن من تحديد مصيره والتحكم فيه، وبالتالي فهو لابد أن يجهز على كل ما ينتمي إلى أدبه الأصيل، أو يفصل المجتمع عن هذا الأدب أو يخنقه ويحاربه ويعمل على إفشال أدواره البنّاءة، لذلك فإن الحكومات الوطنية المخلصة لمجتمعاتها الأمينة على مصالح أمتها تعمل على عكس ما يعمل المستعمر أو الأجنبي المتسلّط الطامع.

بين الاستعمار والأدب
وعبر هذه الإشارات إلى طبيعة العلاقة بين السياسات الاستعمارية والأدب، يمكن إسقاط الماضي على الحاضر والتساؤل ولو عن بُعد ونحن في العصر الكوروني: هل ما نشهده من التهافت الكبير على دراسة اللغة العربية وآدابها في الدول الاستعمارية كله يجري بدافع الحب والغرام بهذه اللغة وأدبها حقًا؟!
هل الدعوات التي أثيرت منذ بدايات هذا العصر وتبناها بعض النقّاد والمتأدّبين العرب، مثل الدعوة إلى انفصال الشاعر العربي الحديث عن تراثه الأدبي، أو الدعوة إلى التمرّد على قوانين القصيدة العربية ونظمها القديمة، والدعوة إلى تعمد الغموض والإبهام المظلم في الشعر، هل هذه الدعوات التي أثيرت بحجة التجديد في قوانين الأدب والشعر والارتقاء بمستويات الإبداع الفكري كلها جاءت اعتباطًا أو فرضتها قوانين التطور؟!
هل صحيح إن ما نراه من انصراف الإنسان العربي المعاصر عن الشعر والأدب لأمته بسبب شغفه البالغ بالعلم؟! هل إن ما نشهده من غربة الأدب بمختلف فنونه في واقعنا العربي الراهن أمر طبيعي بالفعل؟! وهل ما يظهر في بعض الجامعات الغربية من اهتمام بالشعر الغامض الأعمى ناشئ عن زيادة فهم للغته؟! هل هناك من سائل عن سبب انحسار الروح القومية لدى الإنسان العربي في عصرنا الحاضر أو عن تضاؤل روح الانتماء إلى الهوية والتراث أو الفكر القومي عامة؟ وأخيرًا هل ما نراه من تهافت الناشئة العرب على تعلّم اللغات الأجنبية والتنكّر للغة الأم وقيمها وقوانينها سمة حضارية بالفعل؟!
هذه بعض لعب السياسة مع الأدب، سياسة المستعمر مع آداب الأمم المستهدفة، أيًا كانت جهات الاستهداف، بعيدًا عن الاعتقاد بنظرية المؤامرة، فهذه من سياسات الدول الاستعمارية التي شهدناها في الماضي ولا نزال نشهدها في الحاضر.  لقد اهتمت الولايات المتحدة في حربها مع اليابان - على سبيل المثال - بدراسة الأدب الياباني، واهتمت بدراسة الأدب الروسي في حربها الباردة مع الاتحاد السوفييتي ولا تزال، ليس ذلك كله حبًا في آداب هاتين الدولتين أو من باب التبادل الحضاري الإيجابي مع شعبيهما، وإنما للكشف عن منافذ الاختراق ووسائل الهجوم وأدوات الحرب، أو وسائل الدفاع والاحتماء أو كسب الرهان في تحقيق عناصر القوة، وعلى الحكومات الوطنية المخلصة أن تعي كل ذلك.
لم يكن حكام الدولة البويهية الفرس ليقصدوا باهتمامهم بالأدب العربي والفكر العربي عامة ما قصدته أو تقصده الحكومات الاستعمارية بطبيعة الحال، لكنهم استفادوا من ذلك - لا شك - في التعرّف على طبيعة المجتمع العربي الذي جاؤوا ليحكموه ويتحكموا في مصيره، وأخيرًا استفادوا في الحفاظ على ولايتهم على الأجزاء التي سيطروا عليها في الفترة الطويلة التي حكموا فيها، لكنهم أفادوا هذا المجتمع من جانب آخر برعايتهم جانبًا كبيرًا من حضارته والسماح لهذه الحضارة بأن تواصل تطوّرها ونموّها. وهكذا حققوا بعضًا من الجوانب الإيجابية في العلاقة بين السياسة والأدب، لكنهم أساؤوا في جوانب أخرى. وليت حكوماتنا العربية تصنع ما صنعوه وتحقق بعضًا مما حققوه، ولا أقل من أن تحمي أدب الأمة وترعى حرمته وتصون لغته، وبوسعها أن تجد لذلك الأسباب والدوافع والوسائل لو أرادت ■