الكاتب الفرنسي إريك فويار: حقيقة التاريخ في تفاصيله الصغيرة والخيال الملجأ الأخير

الكاتب الفرنسي إريك فويار: حقيقة التاريخ في تفاصيله الصغيرة والخيال الملجأ الأخير

رغم حصوله على جائزة جونكور عام 2017 إلا أنني لم أسمع بالكاتب الفرنسي إريك فويار إلا عندما أرسل إليّ الدكتور أيمن منير نسخة من ترجمته لروايته التي فازت بالجونكور (جدول أعمال). أدهشني بناؤه الروائي المختلف، وتناوله الفني الحيادي للتاريخ، وتواصلت معه للتحاور حول الرواية وعلاقته بالكتابة عمومًا، فوجدت ترحيبًا كبيرًا. لكن الحوار مع إريك فويار زاد مساحة الدهشة لديّ، إذ وجدته محبًا للقاهرة، عاشقًا للآثار المصرية، وفي إجابات بعض أسئلتي نجده يستشهد بابن عربي، وحافظ الشيرازي، ومحمود درويش، ويشيد برواية «الأيام» لطه حسين؛ ما جعل الحوار أكثر ثراءً وحميمية بالنسبة لي. وما زاد من مساحة الود في هذا الحوار تعاون كل من د. أيمن منير والأكاديمية المغربية د. كريمة بوحسون معي في تصحيح ترجمة حواري مع إريك فويار، فلهما مني جزيل الشكر والامتنان.

 

● من بين عشرات المجالات التي تكون متاحة أمام الشباب اخترت أنت الكتابة، ومن بين أشكال الكتابة المختلفة اخترت كتابة السرد رواية وسيناريو، فما الدافع وراء ذلك؟ وما علاقتك بالكتابة منذ بداياتك؟
- حوالي عام 2008 انهار الإجماع الليبرالي. لقد طالب السياق الاجتماعي فجأة بمزيد من الوضوح والتوجيه، باتخاذ موقف. فجأة بدا لي السرد والنثر ضروريين. الكتابة، والاستسلام للكلمات، وحقيقة ترك اللغة تجرفنا بعيدًا، تضفي على الحبكة، وعلى تسلسل الوقائع، عمقًا ذاتيًا. الكتابة هي الربط بين المعرفة الواعية والمدروسة والمنظمة وعنصر أكثر لاإرادية وتهورًا.

الرواية التاريخية
● نلاحظ إقبالًا كبيرًا من الكتاب والقراء على الرواية التاريخية؛ فلماذا يلجأ الكتاب إلى التاريخ؟ ولماذا اخترت أنت تلك الفترة التاريخية قبيل الحرب العالمية الثانية واستيلاء ألمانيا الهتلرية على النمسا؟
- ماذا لو، على عكس ما يعلموننا عمومًا، لم يكن الأدب موجهًا للخيال؟ إذا كان الخيال، أو التعبير عن حقيقة عميقة لا يمكن الوصول إليها والتي هي في الأساس الشيء نفسه، لم تكن ضمن السجلات المختارة للأدب؟ إذا كان الخيال، أو الانصباب الشعري، شكلًا من أشكال الحكمة، فهو ملجأ أخير.
خذ شعر «حافظ»، الشاعر الفارسي العظيم، عندما يرتب ببراعة رموزًا مختلفة، عاطفية، دينية، تفصل جسد المرأة الحبيبة؛ مثل العديد من الإشارات التصويرية إلى الأساليب الدقيقة للتجلي الإلهي، الطبقات الدلالية المتراكبة هي في آن واحد علامة على درجة عالية جدًا من التطور الأدبي، لكن قبل كل شيء هي مؤشر مجتمع سلطوي هرمي، حيث تسود رقابة صارمة.
يبدو أن حياته كانت عالقة بالكامل في مؤامرات البلاط، فهو ينتقل من مكانة الحظوة إلى المغضوب عليه، إلى المنفى، فهو تحت رحمة الحاكم، لذلك ليس من السخف الاعتقاد بأن المظهر التلميحي التصويري والدقيق للغاية لشعره هو في الواقع شكل تعبيري متخفٍ، حذر، عن الاستياء، وهكذا، ربما لا يكون هذا التصوف غير المباشر، المحجوب، التلميحي؛ كتحليل أخير، سوى نوع من الخيال، نمط تعبير موارب، في مجتمع لا يتقبل غيره.
لكن إذا كانت مهمة الأدب هي أن تخبرنا شيئًا ما عن العالم الذي نعيش فيه، وإذا كانت تنتج معرفة حقيقية عن العالم، فربما يشكل التاريخ بالنسبة لها ملاذًا، ووسيلة للاطلاع على الحقائق، وعلى الأحداث. لا تزال الحياة الاجتماعية في مجتمع أكثر حرية، لكن على الرغم من كل شيء مجزأة، وتتقاطع معها تفاوتات عميقة؛ لم نعد محكومًا علينا، مثل حافظ، أن نكتب جملًا يمكن أن تعني دائمًا شيئين مختلفين تمامًا، يمكننا أن نكون أكثر وضوحًا، أكثر تحديدًا. وكتابة التاريخ هي بلا شك تعبير قوي إلى حد ما عن هذه الحرية. عندما نقول ما حدث، فإننا لا نتحدث عن أي شيء آخر غير العالم، ولا نشتت انتباه القارئ، فنحن مضطرون إلى الانحياز إلى جانب.
تبدأ «جدول أعمال» باجتماع سري ذي أهمية قصوى. حدث هذا الاجتماع السري في الواقع في 20 فبراير 1933، عندما كان النازيون قد وصلوا للتو إلى السلطة. التقى بعد ذلك أربعة وعشرون من كبار الصناعيين الألمان غورينغ وهتلر، لذلك فهو حدث سياسي ذو أهمية حاسمة في تنصيب النازيين بالسلطة. هناك مشهد مخيف، لكن يتم عرضه بهدوء خلف الكواليس، ويمكن للأدب أن يستغله بأثر رجعي لإخبارنا به. نرى هناك كيف أن قادة الأعمال الذين يزعمون أنهم الأكثر تصلبًا يتعاملون على الفور مع النظام الأكثر إجرامًا، حيث وصلت القوة الاقتصادية في عالمنا إلى درجة غير مسبوقة من التركيز، يجدر بنا أن نذكر كيف تصرف كبار رجال الأعمال والمصرفيون أنفسهم خلال أسوأ حلقة من التاريخ.
● تعد روايتك «جدول أعمال» إشكالية؛ فرغم أن مصطلح الرواية أصبح بطبيعته مصطلحًا فضفاضًا يستطيع أن يستوعب كل الأجناس الأدبية والفنية؛ لكن روايتك القصيرة التي هي أقرب في حجمها إلى النوفيلا أثارت الكثير من الأسئلة، أنت تسميها نصًا سرديًا، وجريدة لوموند؛ التي كانت تراهن على فوز إحدى الروايات الأخرى في القائمة القصيرة، تعجبت من فوز «جدول أعمال» بجائزة جونكور 2017م، واعتبرتها قصة أو محكية. عملك؛ وفقًا لقراءتي، يقع في منطقة ما بين السرد والبحث التاريخي، فما الذي جعلك تختار هذا الأسلوب في كتابته؟
- لم أختر أي شيء، الأمر فرض نفسه. من ناحية أخرى لا أتذكر أيضًا أن «لوموند» أبدت أي تحفظات، على العكس من ذلك... لقد تحققت للتو، وأنهت Raphalle Leyris مقالتها على هذا النحو: «مع جدول أعمال... إنه كتاب رائع، بعيد المدى على الرغم من إيجازه، الذي اختاره جونكور لتتويجه».

لعبة بازل
● تبدو «جدول أعمال» وكأنها لعبة بازل، فأنت اخترت لحظة زمنية محددة، وبدأت ترسم قطعًا متفرقة حول هذه اللحظة، تقدم الأشخاص والأماكن والأحداث ذات العلاقة بتلك اللحظة، وعلى القارئ أن يعيد تنظيم القطع المتفرقة في ذهنه ليكون الصورة الإجمالية التي تخص رؤيته هو، سواء تماست مع رؤية الكاتب أم لا، فهل كنت تخطط منذ البداية لهذه الطريقة في إشراك القارئ في استخلاص المعنى العام من العمل؟
- لقد تم التوثيق جيدًا، ومن الممكن إعادة بناء الأحداث خطوة خطوة ليحدث ضم النمسا، وهو أول عدوان عسكري ألماني في الحرب العالمية الثانية. إن محاكمات نورمبرغ والشهادات والوثائق المنتجة تجعل من الممكن مراقبة السلطة السياسية من الداخل.
هكذا، على سبيل المثال، يمكنني سرد مأدبة الغداء الغريبة التي أقيمت على شرف ريبنتروب في داونينغ ستريت، صباح الضم. تشامبرلين يستقبل ريبنتروب، سفير الرايخ الثالث في لندن، الذي جرى تعيينه للتو وزيرًا للخارجية. أثناء الوجبة يتم إرسال مذكرة من وزارة الخارجية إلى تشامبرلين؛ أخبرته أن الجيش الألماني يقوم بغزو النمسا. في هذه الأثناء، يتكلم ريبنتروب، حتى تدوم الوجبة لأطول فترة ممكنة ويمكن للعدوان الألماني أن يسير بسلاسة، يتجاذب أطراف حديث لا نهاية له. وبدلًا من أن يعتذر تشامبرلين، ويترك مضيفيه، ويذهب لأداء واجبه كرئيس للحكومة في مثل هذه اللحظة الحرجة، يظل على الطاولة، ويتحمل أحاديث ريبنتروب التي لا معنى لها.
هذا المشهد الرهيب، المضحك، لكن الرهيب، يمكن أن يمر دون أن يلاحظه أحد، يبدو بديهيًا غير مهم. لكن إذا أخذنا الوقت الكافي لتدوينه، لتوسيعه قليلًا، لإضفاء الحياة عليه، سنشعر حقًا كم كانت مدة الوجبة طويلة، وكم كان تأدب تشامبرلين مفرطًا وغير مناسب. يمكننا بعد ذلك فهم الرابط الموجود بين ذاتية تشامبرلين وذاتية النخبة التي ينتمي إليها، والسياسة التي قادها. سياسة التهدئة، سياسة السلام هذه بأي ثمن مع هتلر، هي بطريقة ما الترجمة السياسية للتواطؤ المفرط.
أثناء كتابة هذا المشهد، أدركت العلاقة التي يمكن أن تنشأ بين أدب تشامبرلين وسياسته المتساهلة، جاءني معنى الكتاب أثناء الكتابة، وفي الواقع المعنى العام يفرض نفسه دائمًا بعد مرحلة لاحقة، كأنه ينبثق من الكتاب.
● في بداية قراءتي للرواية؛ كنت أتعجّب من تركيزك على تفاصيل صغيرة تبدو غير مهمة، كأن يتم الحديث عن الطعام أو الملابس أو طريقة الأشخاص في الحديث، من دون تناول الموضوع الأهم الذي اجتمعوا من أجله، ثم استخلصت ما تؤدي إليه هذه الطريقة على المستوى الفني من سخرية لاذعة تطول الأشخاص والمواقف، كما أنها تؤكد على أن هؤلاء الذين تحكموا في لحظة تاريخية مهمة غيرت تاريخ العالم كانوا من التفاهة بقدر كبير، بحيث لا نستطيع أن نأخذهم بالجدية التي يريدوننا أن نراهم بها، سواء كانوا من الألمان أو الإنجليز أو النمساويين. فما الذي ألجأك لاستخدام هذه التقنية في الكتابة؟
- في آنا كارنينا، تحفة تولستوي، فور علم زوج آنا أن زوجته تحب شخصًا آخر غيره يقوم بتحديد موعد مع محاميه للطلاق منها. إنه لقاء نموذجي مع محامٍ، رسمي، متكلف، حيث تعمل الصيغ الرنانة للقانون على إخفاء الوضع الحقيقي، وعدم المساواة بين الزوج والزوجة. فجأة، أصبح المشهد كوميديًا تقريبًا، يرى المحامي عثة تطير حوله، يحاول سحقها بتكتّم، وبينما لا يزال يتظاهر بالاستماع إلى موكله، هو في الواقع لا يفكر إلا في سحق هذه العثة! على عكس ما نعتقد، هذه العثة عنصر واقعي قوي جدًا. يتعلق الأمر بتعكير صفو النظام الخالي من العيوب لشركة المحاماة، ويتعلق الأمر بالتشكيك في الخيال الاجتماعي، والجدية الزائفة.
وهكذا، في كتابي، من خلال وصف الملابس، وآداب المائدة، ومشهد الوجبات، فأنا أتموضع داخل تقليد ساخر طويل، يهدف إلى وصف العالم الاجتماعي بشكل أكثر دقة، من أجل إيقاظنا منه، ودفعنا إلى عدم الإيمان بجديته الظاهرة.
ومن ثم، فذلك يجعل من الممكن وصف البيئة الاجتماعية. نحن الملابس التي نرتديها، الأشياء التي نملكها. منذ زمن بعيد، كنت أعمل في السينما، كنت أقوم باستكشاف المواقع، كان يجب عليّ العثور على منزل لإحدى الشخصيات، والسيارة الخاصة لشخصية أخرى، وما إلى ذلك. حسنًا، عندما زرنا مع المصمم منزلًا اخترناه من الخارج، فوجئنا باكتشاف مدى توافق التصميم الداخلي والأثاث والحلي مع الخارج في الغالب. إنه الشيء نفسه مع أطفالنا، فنحن نبحث عن الأسماء النادرة، وفي النهاية، يعطي الجميع الأسماء نفسها!
● أثارني بشدة استخدامك ضمائر الحكي؛ فإذا كان ضمير الراوي العليم هو المهيمن على القصة، فأنت تفاجئنا من وقت لآخر أثناء السرد باستخدامك ضمير المخاطب حيث تخاطب القارئ مباشرة، والأكثر منه استخدامك لضمير المتكلم الفرد «أنا»، أو الجماعة «نحن»، فكأنك تريد أن تشرك القارئ معك؛ ليس في المعنى العام للعمل فقط، لكن حتى في كتابة العمل، وهو ما يخدم الفكرة الأساسية التي وصلتني من الرواية؛ وهي أن يكون القارئ واعيًا بمكونات اللحظة التاريخية المحكية، لأن غرض العودة للتاريخ هو الحرص على عدم تكرار حدوثه حاليًا، فهل تتفق خطتك ككاتب مع رؤيتي هذه كقارئ؟
- في كتاب «التأملات الإلهية»، عندما يكتب ابن عربي كلمة «أنا»، فإنه ليس تدخلًا شخصيًا، فهو يسمح له فقط بإجراء مقابلته الميتافيزيقية. إن كلمة «أنا» تقليدية. الاستخدام الحديث لضمير المتكلم، على سبيل المثال من قبل محمود درويش، مختلف تمامًا. إنه استخدام فعال، هو مظهر للوجود الحقيقي. عندما يكتب: «أحن لقهوة أمي، وخبز أمي، ولمسة أمي...»، حتى لو كانت الشكوى عالمية، فإنه يتحدث عن والدته هو، وهذا أيضًا سبب لمسه لنا، ولماذا نتعاطف معه. إنه يتحدث عن أم ملموسة، عن بلد حقيقي، عن حب حقيقي، إنها ليست مجرد صورة.
تجسّد «أنا» الحديثة كلمة، صوتًا. يوجد الآن كائن من لحم ودم خلف الصفحة المكتوبة. أصبحت الكتابة شيئًا آخر غير تفويض للسلطة، إنها شكل خاص من أشكال الحرية.
لكننا لسنا وحدات مستقلة، مجرد ذرات بسيطة، نحن نعيش في مجتمع. لهذا السبب، إذا حاول الأدب أن يكون مخلصًا لواقع حياتنا، فلا يمكن أن يرتبط بكاتب وقارئ فقط، بل يجب أن يحاول، بطريقته الخاصة، إظهار مشاركة الجميع. وهكذا، عندما أكتب في نهاية «جدول أعمال» «يكسرون أصابعنا»، «يكسرون أسناننا»، «يقضمون أعيننا»، إنها بلا شك طريقة لجعلنا نشعر بأننا كلنا مقيدون أمام الأقوياء، المحظوظين.
● الجانب الوحيد أو قطعة البازل الوحيدة التي كرّرتها في هذه الرواية هي المشهد الأول الذي استعدته لتختم به الرواية، وهو مشهد رجال الأعمال المشهورين وقتها وشركاتهم الكبيرة، وكيف كانوا يدعمون نظامًا ديكتاتوريًا ليحققوا من ورائه فائدة اقتصادية لشركاتهم، وهذه الشركات لا تزال موجودة ومؤثرة في العالم حتى الآن، فهل هذا الختام الدائري الذي تنتهي به الرواية هو إشارة إلى أن الحلقة القديمة من التاريخ قد أغلقت لكنها لم تنتهِ، وقابلة للتكرار مادامت هذه الشركات موجودة تحكمها الأفكار ذاتها، مستهدفة لخدمة أية سلطة لتحقيق مصالحها على حساب الشعوب والعاملين فيها معًا؟
- يوجد بالفعل نوعان من الروايات، نوعان من القصص. عندما تغلق رواية بوليسية لأجاثا كريستي، مهما كانت الحبكة مثيرة، بمجرد حلها، تتركنا، ننساها، ينتهي الكتاب في نفس الوقت الذي نغلقه فيه. من ناحية أخرى، عندما يقرأ المرء كتاب «الأيام» لطه حسين، بمجرد إغلاقه يستمر الكتاب في الحياة، هو لم ينتهِ ولم يتم حله. قصة هذا الطفل الكفيف، الذي أصبح طالبًا، في عالم يحل فيه الفساد، والمنافسات المهنية، والدراسة الحرفية للنصوص؛ محل النقد الحقيقي، هذه القصة لا تزال حكايتنا. بمجرد إغلاقه يستمر الكتاب.
ولنأخذ L’Assommoir للكاتب Zola، فإن تاريخها عالمي؛ ألا نزال نجد اليوم من بين عمال البناء في كل مكان تقريبًا في العالم عمالًا يكدحون، يسقطون من الأسطح، ويكسرون ساقهم، ويفقدون فجأة وظائفهم، محكومًا عليهم بحياة اجتماعية كئيبة وبائسة؟ أليست شخصيات روايات إميل زولا ما زالت هي التي تبني مبانينا وتحفر خنادقنا وتلتقط صناديق قمامتنا؟
● أرى تأثير عملك كسيناريست ومخرج واضحًا في «جدول أعمال» من خلال وصفك للمشاهد وحركة الشخصيات والملابس وقطع الديكور... إلخ، وكأنك تحدد للكاميرا ما تصوره. وما تأثير دراستك للتاريخ في اختيارك لموضوعات أعمالك الإبداعية، وفي طريقة كتابتك لها؟
- أنا لا أختار مواضيع كتبي، فهي تفرض نفسها على حسب قراءاتي. وهكذا، بالنسبة إلى «جدول أعمال»، أثناء إعادة قراءة مذكرات تشرشل، صادفت العطل المذهل للمصفحات. فأثناء ضم النمسا من قبل ألمانيا النازية، عانى البانزر بالفعل من عطل هائل. نحن هنا بعيدون عن النسخة الكاذبة التي نعرفها، بعيدون جدًا عن أفلام الدعاية النازية. تخيلوا، ازدحام مروري ضخم من البانزر!
في الأفلام الإخبارية، تعطي الدبابات، المقدمة في كادر مثالي، انطباعًا رائعًا عن القوة، وكأن الجيش الألماني مزود بالآليات بشكل أساسي، لكن الأمر لم يكن كذلك. وهكذا، فإن تفاصيل القراءة، هذا العطل الهائل للدبابات، تحدد رغبتي في الكتابة. فكرت على الفور في شابلن، وقلت لنفسي إن الديكتاتور أقرب إلى الواقع من الأخبار المصورة. هذه حقيقة مزعجة، خيال أكثر صحة من الوثائق.
● أنت لا تكتفي بكونك مبدعًا؛ ككاتب وسيناريست ومخرج، لكنك صاحب رؤية تطبقها من خلال نشاطك ومواقفك السياسية، فهل ترى أن هذا أمر يخصك ويتسق مع طبيعتك، أم ترى أن هذا «واجب» على كل مبدع أن يكون له دور في المجتمع؟
- أصبح من الشائع اليوم أن يدعي الكاتب عدم الرغبة في الانحياز إلى جانب واحد، كأن عمله يمكن أن يمتد خارج العالم، دون أي تعليق. يترك للقارئ الحرية في الحكم بنفسه، انطلاقا من الحقائق التي يقدمها له، كل واحد سيشكل رأيه الخاص. هذا يعني حيادية الكاتب وموضوعيته المنحازة. على أي حال الأدب يستحق أفضل من ذلك، وإلا فإلى أي صمت ستبقى أسماؤنا معلقة؟
● حصلت على العديد من الجوائز، فما الذي تعنيه الجوائز بالنسبة لك كمبدع؟
- في السابق، خلال القرن التاسع عشر، كان الكتاب يلتقون في الصالونات، أمضى بلزاك بعض الوقت هناك، هذا كان يسمح للمرء أن يعرَّف نفسه، كان ذلك ملزمًا تمامًا. أنا ممتن للجوائز التي جعلت كتبي معروفة بشكل أفضل دون أن تشترط عليّ مقابلًا على ذلك.
● في مراسلاتنا عبر الإيميل؛ أخبرتني أنك أمضيت شهرين في القاهرة بحي الحسين، وأسبوعًا بالإسكندرية، وذلك منذ نحو 20 عامًا، فمتى كان ذلك بالضبط؟ وما سبب هذه الزيارة؟ وانطباعك عنها؟ وما تذكره عن هذه الرحلة من مواقف وأحداث؟ وهل ساعدت هذه الإقامة القصيرة على أن تتعرف بشكل ما على الأدب العربي؟ (أرجو أن ترسل إليّ بعض صورك في الإسكندرية والقاهرة). 
- كان ذلك عام 2001. أمضيت شهرين في القاهرة. كتبت هناك أحد كتبي، Bois Vert، مجموعة شعرية قصيرة. أتذكر جيدًا المقاهي الصغيرة التي قرأت فيها طه حسين، على بعد خطوات قليلة من منزله.
لقد طلبت مني صورة من إقامتي في مصر. هذه صورة لمعبد الأقصر. هذه الصورة السياحية لها خاصية خاصة للغاية، فليس ما تظهره هو المهم، وليس ما نراه هو ذكرياتي الحقيقية، بل ما هو غير موجود. في الواقع، هناك شيء مفقود في هذه الصورة. بالمعنى الدقيق للكلمة، إنها حتى صورة نقص. تفصيل ضخم مفقود، مسلة. التفصيل العملاق موجود في باريس، ساحة الكونكورد ■