معنى الشّعر في مرايا القصيدة عند الشّاعر شوقي بزيع

معنى الشّعر في مرايا القصيدة عند الشّاعر شوقي بزيع

ما الشّعر؟ وكيف يؤسّس الشّاعر للإبداع والتّجاوز في قصائده حتّى لا يقع في فخَّ التَّقليد؟ ثمَّ كيف يمكنه توسيع سماء اللّغة كي لا تصطدم بجدار الصَّمت أو الألفة؟ في الحقيقة، تكثر إجابات النّقّاد عن هذه الأسئلة وغيرها، ولكن ما يهمّنا في هذا المقال هو مقاربتها من لدن الشّعراء، وتحديدًا لدى الشّاعر اللّبنانيّ شوقي بزيع.

 

الشّاعر شوقي بزيع يُؤسّس رؤاه إلى الكتابة الشّعريَّة على مفاهيم الشَّكّ والنّسبيَّة والتَّجاوز والذّاتيَّة والبداهة والمتاهة والحدس وسواها من المفاهيم الَّتي تُقصي المعانيَ المعمَّمةَ الشّائعةَ واللُغةَ اليوميَّةَ النَفعيّةَ المُتاحةَ، والَّتي تخرج عن مجّانيَة التَعبير إلى كلامٍ جديدٍ ومُغايرٍ أبدًا. فليس شعرًا حقيقيًّا ما يُفضي إليه ركونُ الشّاعر إلى الماضي، حتّى لو كان هذا الماضي المنجَزُ جزءًا من تجربته الشّعريَّة الخاصَّة به، ولا ركونه إلى الاكتفاء بمقاربة الأشياء من خارجها وملامسة ظاهرها المرئيّ. لذا، يبقى الشّاعرُ مستوحِشًا دائمًا ومُتوحِّدًا، قدرُهُ الغربةُ والتَّشرُدُ في متاهات ذاته بحثًا عن مكانٍ لا ينفكُ يُسابق خطواتِهِ، ويبقى في حركة صعودٍ ونزولٍ لا تنتهي؛ يصعدُ إلى معارج المُطلق المستور ثمَ ينزل إلى ما تُريه إيَّاه الحواسّ من تعدّدٍ لمظاهر الكون المختلفة، فلا يستقرّ على حالٍ، إذ يقول بزيع: «وأشتقُ جدارًا مِنْ خيالاتي/ لِكَيْ أهدِمَ مَا يُسنِدُنِي». وليس شعرًا في جوهره أيضًا ما يُفضي إلى معانٍ يقينيَّةٍ مُفْرَغةٍ من روح التَّساؤل والمفاجأة والدّهشة والبحث عن الجديد، وهذا ما يذهب إليه بزيع بقوله: «كُلَّما آنَسْتُ من شِعْري يقينًا/ راوَدَتْنِي عن جنوني لغةٌ/ غيرُ الَّتي أعرفُها».

المرجعية الشعرية
والشّعر، حسب «بزيع»، لغةُ الخطيئة، و«عقدٌ نُوقّعُهُ مَعَ الشَّيطانِ» حسب تعبيره، شيطانِ الإبداع المُتمرِّد والمُحرِّض دومًا على معصية مرجعيَّات السّلطة المعرفيَّة المهيمنة، وعلى ضرورة تخطّيها لا سيَّما تخطّي المرجعيَّة الشّعريَّة الموروثة المعهودة؛ لأنَّ الشّاعر من منظوره يبدو: «كالسّاحرِ يُلْقِي أيْنَمَا حَلَّ/ عَصا الشَّكِّ/ لِيَمْحو بعضُهُ بعضًا».
ينسخ الشاعرُ الأصيلُ المُبدِعُ ذاكرةَ المفردات المألوفة، لكنّه لا يمحوها محوًا تامًا، بل يُحاور ماضي معانيها ليتجاوزها إلى خلق «الذَاكرة العذراء» الَّتي يرغب في أن تتفرَّد بها لغتُهُ الشّعريَّةُ الخاصَّة. وهو لا يهدم المألوفَ الدّلاليَّ المُتوارَث فحسب، بل يُخلخل عناصر الثّبات في تجربته الإبداعيَّة الذّاتيَّة شيئًا فشيئًا كي لا يُماثلها مجدّدًا، فيقع في الخواء؛ ولا يستقرّ على صورةٍ نمطيَّة كي لا تتحجَّر القصيدةُ وتسقط في «صنميَّة» تبجيل النَّموذج الشّعريّ المكتمل والمُكرَّر؛ فهو يهدمها ليملك جوهرها إلى الأبد ومضةً مُشِعَّةً عصيَّةً على الخمود والسّقوط، ويسعى إلى ألَّا يُكرّر الخَطْوَ على آثاره الكتابيَّة الماضية ليصونَها من شبهة التَّشويه والجمود والاجترار. لذلك يرفض الإذعانَ للتَّماثل مع المُنْجَز والمُحقَّق ولو كان تماثلًا مع كينونته الشّعريَّة الَّتي ابتكرها هو في لحظاته الغابرة؛ لأنَّ ذلك التَّماثل يطمس روحَ التَّجديد والابتكار ويُعطّل صيرورةَ تحوُّل التَّجربة الشّعريَّة ونموَّها، ويُوقعها في نفق النّسيان والأفول، فهو يقول: «أنتحلُ البرقَ الَّذي يُومِضُ/ في رأسي/ لَأَمْحوَ خطواتي».
والشاعر، لدى بزيع، شكَاكٌ دائمٌ بماضيه وخوّانٌ له خياناتٍ متواليةً ومستمرّةً؛ يخون ما أبدعه ليربح دروبَ الكتابة المتوالِدة والمُتكاثِرة، يخونُ المحطَّة المؤقَّتة ليفوز بسيرورة المُغامرة وصيرورتها، وهذا ما يتَّضح في قول بزيع: «وَما في قبضتي إلّا عَصًا/ ينخرُها الشَّكُّ الَّذي يقطعُني».
لذا، يُراود الشّاعرُ كتابةَ القصيدة في ميدان النّسيان والغياب، ويُداري جهلَهُ بالكتابة؛ فهو يكتب لأنَّه يجهل لا لأنَّه يعلم، يكتب الشّعرَ الَّذي يتغذّى من بلاغة النُّقصان والحيرة والمغامرة لا من بلاغة الكمال والطّمأنينة والاكتفاء، ومن بلاغة رفض المُسلَّمات المعرفيَّة النّهائيَة نظرًا إلى ما يقوم به الشّعر من خلخلة للُغة؛ لأنَّ الشّعر تفتيقٌ لهشاشة اليقين المعرفيِّ، وتمرُدٌ على البديهيَّات المكتملة، وسفرٌ محفوفٌ بالشَّكّ والعثرات، وسبيلٌ إلى الكشف والمعرفة المُوارِبة باستمرارٍ، إذ يقول بزيع: «كُلّ زيتٍ يُضِيءُ يُطفِئُهُ الشَكُ/ فَمَا يُهتَكُ الحجابُ»، فالشّعر تساؤلٌ مُقْلِقٌ ورؤيا نافذةٌ وبحثٌ مُضْنٍ عن جوابٍ ضائع ومُتعذِّر؛ لأنَّ الشّعراء: «صَنَعُوا مِنْ أسئلةِ الكلمات/ بيوتًا خاطفةَ الإيناعِ/ لنسكنَها مُغْتبطينَ/ وأسئلةً ماكِرَةً ما زلْنا نترنَّحُ/ مِثْلَ قواربَ كاملةِ الهَذَيانِ/ على إيقاعِ شظاياها».

مُغامرةٌ مفتوحةٌ
إِذ لمّا يصل الشّاعرُ إلى جوابٍ مفترَضٍ عن سؤاله المقلِق، يُدرك أنَّه جوابٌ آنيٌّ مرحليٌّ، ولا يغيب عن باله أنَّ ما أدركه ليس إلّا عتبةً تُفضي إلى مجهولٍ آخر أعمقَ وأشدَّ غموضًا؛ وما ذلك بعامل إحباط له، بل هو منشأ نشوته في بحثه المتواصل؛ لأنَّ الشّاعر الأصيل جوّابٌ أبديٌ يبحث عن الدّلالات المُتكاثرة والمُتوالِدة التَّي يُضاعفها حيرتُهُ وقلقُهُ المتواصلان، بل إنَّ تطوُّر تجربته الشّعريَّة يلزمه التّيهُ والبلبلةُ؛ فكلّما كشف عن وجهٍ من وجوه المعنى احتُجِب آخرُ إلى ما لا نهاية بفعل ديمومة الشَّكّ والمُغامرة، وهذا ما يُعبّر عنه بزيع بقوله: «لَمْ أجترحْ سفنًا لِأَنْجو/ بَلْ لِأَبْحَثَ عن سماواتٍ جديدَة».
فالشّاعر يخوض تجربةَ الكتابة الشّعريَّة مُدْرِكًا أنَّها مُغامرةٌ مفتوحةٌ على احتمالات مُتعدّدة وإمكاناتٍ مُتنوّعةٍ، وهو لا يَقْدِم إلى الكتابة لأنَّه أنجز القصيدةَ ذهنيًا من قبلُ، ثُمَّ أقبل يخطّها كتابةً على ورقةٍ تصونُها من النّسيان والغفلة اللَّذين قد ينتجان من عدم تدوينها؛ بل إنَّه يخلقها حين يكتبها وهو يعي أنَّه يجهل تفاصيل قوامها النّهائيّ الَّذي سيُنجزه؛ لأنَّ القصيدة مغامرةٌ توالديَّةٌ تبقى ملامحُها الفنّيَّةُ والدّلاليَّةُ مُرْجَأَةً إلى حين أن يضع الشّاعر قلمه؛ ولأنَّه هو نفسه لا يكتب لكونه يعرف، بل لكونه يجهل، فربَّما يُدْهَش هو نفسه بما كتبه؛ إذ الشّعر استدرارٌ للنّسيان ولما يُخبّئه من طبقاتٍ ثقافيَّةٍ ومعرفيَّةٍ كامنةٍ في باطن الكلمات غير المدرَك تمامًا، فربَّما استدعت كلمةٌ كلماتٍ أخرى وتداعياتٍ بعيدةً كانت غائرةً في النّسيان وظلمة الإهمال والغفلة، أو ربَّما كان الشّاعرُ غافلًا عنها أصلًا في لحظة البدء بالكتابة، إذ يقول بزيع: «فَقَدْ تبدأُ الشِّعْرَ مِنْ فكرةٍ مُسْبَقَهْ/ ثُمَّ تفقدُهَا/ أَوْ يقودُكَ مَعْنًى/ إلى غَيْرِ مَا كُنْتَ تَقْصدُ».
لذلك يبدو النّسيان طاقةً إيجابيَّةً حينَ يُخفي الماضيَ ويمنعُهُ من التَّدفُّق وفق الشّكل الدّلاليّ والمعرفيّ الَّذي استقرَّ عليه في حقيقته السّالفة المتوارثة، بل نراه يُحوّله رموزًا وأسرارًا توقظها حساسيةُ رؤياه الشّعريّة وموقفُهُ من حاضره وواقعه المتغيّرين؛ لذا يُمكن القول إنَّ الشّاعر يغدو مُنقّبًا عن الآثار الَّتي يكاد يطويها النّسيان؛ إذ إنَّه «يتكلّم كما لو كان يتذكَّر، لكن إنْ كان يتذكَّر فبفعل النّسيان» حسب تعبير الفرنسيّ موريس بلانشو. وإلى ذلك المعنى يُشير بزيع: «دائمًا يكتبُ مَا يجهلُهُ/ دائمًا يتَّبعُ سَهْمًا غيرَ مرئيٍّ».

شغوف بالإبداع
والشَّاعر بزيع خبيرٌ بالكلمة وبناء القصيدة، وشغوفٌ بالإبداع والابتكار لا يرتضي ما هو مُقرَّرٌ سلفًا من هُويَّة المُفردات ومضامينها القارَّة، أو من الأشكال النَّصّيَّة الَّتي تُماثل التّجارب الشّعريَّة لسواه؛ فهو من يخلق الدّلالة كأنَّها بِكْرٌ، يخلقها بخيانة المعنى الأوَّل المُكرَّر، وبتخطّي الشَّكل الصَّدِئ المُعتاد؛ لأنَّ كلَّ دفقٍ شعريّ جديدٍ يُناسبه شكلٌ مغايرٌ، فهو شبيه بالموجة الَتي لا تُخلّف أثرًا أو شكلًا تركته موجةٌ سواها، بل يبقى في تغيّر توالديّ خلّاق باستمرارٍ. لذلك لا يولد الشَّكل مُنفصلًا عن لحظة كتابة القصيدة قبلًا، بل يولد معها وبِها، ولا يُمْليه مرجعٌ خارجيٌّ؛ لأنَّه هو فيض الذّات ورؤاها المُتحوِّلة، وهو ليس قالبًا جامدًا، بل دالّ ذو إشعاعٍ دلاليّ مفتوحٍ على مستوياتٍ مختلفةٍ من التَّلقّي والتَّأويل.
يأتي الشّاعر إلى فضاء الكتابة وليس في كيانه غيرُ أصداء أصواتٍ جيّاشةٍ، أصوات كائناتٍ يجهلها هو نفسُهُ، يتداخل فيها الذّاتيُّ والواقعيُّ والحلميُ والأسطوريّ... فالشّعر سَفَرٌ يجهل الشّاعرُ مرفأَ وصوله، سَفَرٌ قد يجمع المتناقضات الظّاهرة رغبةً في الابتكار والتَّخليق المجازيّ؛ وهو جمعٌ لا يُعبّر عن فذلكةٍ لغويَّةٍ دلاليَّةٍ بقدر ما يُفصِح عن رؤية شعريَّةٍ تُلغي العلاماتِ الفارقةَ ما بين أشياء الوجود في استلهام حقيقيّ لبعض روافد التَّجربة الصّوفيَة؛ لذا يبقى النَّصّ الشّعريُ قادرًا على مُراوغة أفق انتظار القارئ ومباغتة ما يتوقَّعه بمعنى جديدٍ طازج؛ لأنَّ كُلَّ قراءةٍ هي مُغامرةٌ جديدةٌ، ومشروع خيانةٍ للقراءات السّالفة، إذ تحتفي القصيدة لدى بزيع بالمرواغة دائمًا، فهو يقول: «ومِنْ فَرْطِ إمعانِهَا في التَّخفِّي/ تُؤرجِحُ قرَّاءَهَا/ مِثْلَمَا يفعلُ البهلواناتُ فوقَ/ حبالِ الخداعِ». والحديث عن الرّوافد الصّوفيَّة ينقلنا إلى ثالوث الرُّؤية الشّعريَّة وهتك الحجب وبلاغة الصَّمت لدى بزيع. فإِذا كان التَّصوُّف الدّينيّ يعكس طموحَ الإنسان ورغبتَهُ في امتلاك القدرة التَّأويليَّة على تجاوز ظاهر النَّصّ (النَّصّ = الوجود) وصولًا إلى أعماقه المُستترة الأكثر اتّساعًا وشمولًا لاكتناه أصل الوجود الأصليّ، فإنَّ الشّعر لا يقلّ عنه كفاءةً، بل يتخطّاه في شقّ الحُجُب الكونيَّة عن الوجود الحقيقيّ العصيّ على الامتلاك النّهائيّ، ويفوقه إمكاناتٍ في تحقيق اندماج الإنسان بالكون والاتّحاد بإيقاعه الكيانيّ الخفيّ؛ فالشعر ليس مُجرَّد بنيةٍ لغويةٍ انفعاليَّةٍ أو وصفيَّةٍ تُستولَد في أفق المحاكاة سواء أكانت محاكاةً لعالم الواقع الخارجيّ أم محاكاةً لعالم الدّاخل الانفعاليّ، بل هو بنيةٌ معرفيَّةٌ كشفيَّةٌ حدسيَّةٌ، وبحثٌ مُقلِق عن إمكانٍ لاستكشاف العالم من داخله، بل عن إعادة خلقه واستيلاده من جديدٍ، إذ يقول بزيع: «هُمْ شعراءُ الأرضِ الموتى/ بأقلِّ الشُّبهاتِ وضوحًا/ سبروا أغوارَ المعنى/ وافتضُّوا مَا استُغلِقَ/ في أحشاءِ/ مجاهلِهِ العذراءِ/ مِنَ الشَّبقِ المُلغِزِ/ وافتتحُوا لبناتِ الأفكارِ/ مسالكَ شتَّى».
وبناءً عليه، يضطلع «بزيع»، من خلال بعض قصائده، بمهمَّةٍ شعريَّة وجوديَّةٍ متطلِّعًا عبرها إلى فضّ بكارة عالم الغيب وتمزيق الحجب عن الحقيقة الكامنة الخصبة خارج دائرة المرئيّ ومظاهره المُتباينة، حيث تكمن الحقيقة الجوهريَّة الواحدة، وإلى ذلك المعنى يُشير بقوله: «حجابًا حجابًا/ تُمِيطُ القصيدةُ عَنْ أعينِ الشُّعراءِ/ اللِّثامْ»، إذ يُعاين الشَّاعرُ الرُؤيويُ «عماءَ الوجود» على شكل إشاراتٍ ورُؤًى قبل تجزئته وانقسامه في صورٍ وأشكالٍ مُتعدّدةٍ، إذ يقول بزيع: «الوجوهُ مُغيَّبَةٌ في اختلاطِ الرُّؤى/ والإشاراتُ لا تستطيعُ الرُّكونَ/ إلى صورةٍ أَوْ مكانٍ/ ليسَ ثمَّةَ إلَّا عماءٌ/ يُهيِّئ للشِّعرِ شكلًا وينفيهِ،/ حيثُ البداياتُ ممحوَّةٌ». فهو يرميِ إلى مُعاينة الجانب المُعتِم غير المرئيّ من الوجود أو الحقيقية قبل تشكّله في أنماطٍ مُتخلفةٍ ومُتعدّدة من الظّهور الصّوريّ، فدائمًا يكتب ما يجهله، ويتبع سهمًا غيرَ مرئيّ، ونهرًا لا يرى أوَّلَه؛ لأنَّه: «وَبِمُستطاعِ الشِّعرِ/ أَنْ يتناولَ الشُّبهاتِ طازجةً/ كَمَا وُلِدَتْ لأوَّلِ مرَةٍ»، ولأنَّ الشّاعر حسب قول بزيع في موردٍ آخر: «يُصغِي إلى الأمطارِ قبلَ هطولِهَا/ وإلى الكواكبِ/ وَهِيَ تهرمُ فجأةً/ وإلى القصيدةِ وَهِيَ تنبضُ في المَسَامْ/ ويبحثُ عَنْ بلادٍ لَمْ تَلِدْهُ،/ وَعَنْ ظهورٍ آخرٍ/ لخفاءِ صورتِهِ،/ فينكشفُ الغطاءُ لَهُ/ وتختلطُ الحقيقةُ بالمنامْ/ وَقَدْ يَرَى مَا لَيْسَ نُبصِرُهُ».

الخلق الشّعريّ
لم تعد القصيدة خطابًا قائمًا على التّأثُر والانفعال، بل صارت، في حقيقتها الجوهريَّة، خطابَ الكشف عن السّرّ، خطابَ التَّساؤل والتَّعدُّد الدّلاليّ، خطابَ القراءة المفتوحة الآفاق والمُتعدِّدة الأبعاد. فانتقل دورُ اللّغة من النَّقل الوصفيّ الانفعاليّ إلى الخلق الشّعريّ التأسيسيّ الكيانيّ عبر إنصات الشّاعر إلى أصداء باطنه وأحلامه وإلى خلجات الكون الكبير. ونظرًا إلى اتّكائه على الرُّؤيا والحدس في اكتناه سرّ الحقيقة العصيّ، فإنَّه يظلّ مُتأرجحًا بين انفتاح الرّؤيا ومحدوديَّة اللُّغة في صرامتها وسننها الإبلاغيَّة؛ ذلك أنَّ الرُّؤيا غير المحدودة تتَّصل بعوالم الغيب، وأنَّ الحلم والحدس يكسران أنماط الكلام المعتادة دائمًا، ويُصيبان عصب التَّواصل بالشَّلل والعطب، ويُخلخلان بنية الانسجام بين اللُّغة والأشياء، فتبدو الرُّؤية الشّعريَّة آنذاك في اتّساعٍ قادرةً على تصيّد المجهول الغامض الَّذي لا تُبصره العينُ الباصرةُ، حيث يقول بزيع: «شاخصًا مِنْ سفحِ نفسي/ نَحْوَ مَا لَيْسَ يُرَى/ مِنْ كلماتي/ ذلكَ البرقُ الَّذي أُبصِرُهُ لَمْحًا/ يُرائِي حُجُبًا أخرى/ ولا أملكُ مِنْ رأسي/ سوى أخيلةٍ عمياءَ/ تمحوهَا غيومُ الشُّبُهاتِ».
أمّا اللّغة المألوفة حينئذٍ، فتبدو على علاقةٍ عكسيَّةٍ اطّراديَّةٍ بالرّؤية الشّعريَّة؛ إذ كلَّما اتَّسعت منافذُ الرُّؤية ضاقت العبارةُ، واستفحل عجزُ اللُّغة وأنماطها التَّعبيريَّة المعهودة إلى حدود الصَّمت عن تظهير تلك العوالم الوجوديَّة المحجوبة المتعالية، ليطرح بزيع سؤاله المأزقيّ: «إذنْ كيفَ تنصبُ فَخَّا/ لِمَا لا يُرَى،/أَوْ لِمَا لا يُقِيمُ على صورةٍ/ أَوْ مثالْ؟»، إذ يترحّج الخطابُ الشّعريُّ الإبداعيُّ بين الرّؤيا واللُّغة؛ بين ما هو غير قابلٍ للقول وما يُقال، بين ما هو غير مُتناهٍ وما هو محدودٌ مُتناهٍ بحدود الوضع الإنسانيّ المنطقيّ، إذ تتجلّى تلك الإشكاليَّةُ المأزقيَّة في محاولة الشّاعر مُقاربة ما لا يُقال بما يُقال، ومُقاربة الصَّمْت بالنّطق، والأحوال بالكلام، والغياب بالحضور. لذلكَ تُحوَّل اللُّغةُ الاعتياديَّةُ حجابًا آخر يمنع الاتّصالَ بالحقيقة الشّاملة المُطلقة؛ إذ إنَّها - بكونها حجابًا - تعزل المعرفةَ بدلًا من مقاربتها بالألفاظ الَّتي تُحاول استيعاب تلك المعاني الهلاميَّة الغيبيَّة الَّتي تأبى الاستيعاب.
ومع ذلك، لا تجد تلك الإشكاليَّةُ حلًّا لها إلّا في داخل اللغة نفسِها ارتكازًا على طبيعتها الدّيناميَّة المُتغيّرة الخلّاقة، وذلك بممارسة نوعٍ من الإرغام والضَّغط القسريّ عليها لإنتاج لغةٍ ثانيةٍ في باطن اللُّغة الأولى، لقول الممتنع الصّامت من خلال الانزياح بالكلام عن مستوى الإحالة المرجعيَّة إلى لغةٍ إشاريَّةٍ مُواربةٍ تتقنَّع بالرَّمز لتتَّسع باستمرارٍ اتّساعًا غير محدودٍ يجعل النَّصَّ مفتوحًا لفضاءات التَّأويل المُتواصلة، لكون الشَّاعر «يُومِئُ للمعنى ولا يُقرِّبُهُ»، وعليه، يبدو الشّاعر كأنَّه يستهلّ الأبجديَّة باقتفاء دهشة الحروف الأولى، وبانتشالها من زحمة اليوميّ الآسن لتنطق بأبجديَّتها الشّعريَّة المُغايرة، وإلى ذلك يُشير بزيع بقوله: «لِكَيْ أقْتَفِي ببداهةِ طفلٍ/ طزاجةَ تلكَ الحروفِ/ الَّتي تتفتَّحُ أكمامُهَا عندَ مَسْقطِ/ رَأْسِ اللُّغَهْ». لذلكَ كانت لغة الشّعر حدث انبثاقٍ وتولُدٍ؛ فحيثما ينبعِ الكلامُ يتولَّدِ العالمُ وينبثقْ. ففي الكلام الشّعريّ يتبدّى العالمُ أو الوجودُ في كامل إهابه مُعلِنًا عن نفسه جديدًا، ومُسفِرًا عن وجهه وظهوره بشكلٍ مغايرٍ لما يظهر عليه ويتبدّى به في رتابة اللّغة اليوميَّة وعلاقاتها التَّعيينيَّة.
نستنتج إذًا أنَّ الشّاعر شوقي بزيع قد قارب مفهوم الشّعر في قصائده منطلقًا من روافد متنوّعةٍ، بعضها يتَّصل بالحداثة وتيّاراتها المستمدّة من الغرب، وبعضها متأصّل في حقيقة التّراث العربيّ وجوهره، لاسيّما ما يتَّصل منه بالرّوافد الصّوفيَّة. وقد بدا الشّعر لديه حدسًا وكشفًا وبحثًا مُضْنيًا عن الجوهر الإنسانيّ المُتعالي على الرّاهن والآنيّ، كما بدا نتاجًا للحضور لا للغياب، ورهنًا للتَّجربة المعيشة وللحاضر (الآن) لا للماضي وتجاربه الغابرة (الأمس)؛ ومن ثمَّ كان نبضَ الذّات وفيضَها، وإملاءَ الدّاخل لا الخارج، وكانت لغته انزياحيَّةً مغايرةً، على خشبتها يتأسَّس حضورُ العالم وتتشكَّل صورتُهُ الرّاهنةُ ■