«لورنس العرب» بعيون فرنسية

«لورنس العرب» بعيون فرنسية

يعود موضوع «لورنس العرب» إلى الواجهة التاريخية، من حين إلى آخر، من باب الاهتمام بحقبة مرت على الجزيرة العربية وبلاد العرب، وحملت في طياتها بذور التغيير منذ زمن الامبراطوريات إلى ما بعد سقوطها، فظهور الدول الحديثة على مساحة المشرق العربي. فمن زاوية تراثية، تهتم وزارة السياحة السعودية منذ عام 2020 بترميم منزل قديم في ينبع، وهي إحدى محافظات المدينة المنورة، وتقع على ساحل البحر الأحمر غرب البلاد حيث عاش ضابط المخابرات البريطانية والمستشار العسكري «توماس إدوارد لورنس»، لفترة زمنية أثناء إعلان الشريف حسين الثورة العربية الكبرى عام 1916 . 

 

لا يزال يحيط الكثير من الغموض والتناقضات بدور هذا الضابط خلف خطوط عدو الإنجليز حينها، أي السلطنة العثمانية، والإسهام في إطلاق الثورة العربية الكبرى عام1916. وتحاك حول الموقع الخفي الذي احتله كضابط استخبارات بريطاني إلى جانب الشريف حسين ثم ولده فيصل الكثير من الروايات الممزوجة بالأساطير ربما.  لقد حملت هذه الشخصية منذ البداية الكثير من المواصفات غير العادية لضابط نشأ في بريطانيا، ثم تجوّل كعالم آثار في المشرق العربي منذ عام 1909، ليتحول من موقعه كعقيد في سلاح الجو بالمملكة البريطانية إلى مستشار في وزارة الحرب البريطانية، ثم كضابط استخبارات موفد إلى قلب الجزيرة العربية بحكم اطلاعه على أوضاع المنطقة وخبرته العميقة بها. غير أن هذا الترقي من دور إلى آخر حمل معه الكثير من التوصيفات المبالغ فيها غالبًا، والتي أسهمت في تغذيتها ونموها مذكراته الشخصية، ثم الأفلام التي أنتجت عنه، وعن تواجده بين صفوف العرب الثائرين، المنتظمين تحت راية جيش عربي يسعى لاستقلال الحجاز وبلاد الشام من السيطرة العثمانية، ومن ضنك حركة التتريك.

صورة متأرجحة
وما عزّز هذه الصورة المتأرجحة اهتمامه الشخصي باستقلال دولة عربية كبرى في المشرق العربي ولو شكليًا، وربما وعوده الشخصية أيضًا التي قطعها للشريف حسين بما يتنافى مع المؤامرة التي حاكها الإنجليز آنذاك عبر تقديم مروحة وعود شملت بلاد الحجاز ككل، بل محاولة العمل على إقناع الحكومة البريطانية ببعض المقترحات التي حملها لتوحيد أو تقسيم المشرق العربي. وما دفع هذا التناقض إلى الواجهة التاريخية كتابه الذي ألّفه عن الثورة العربية، ودوره القيادي فيها، متنكرًا بالزي العربي، ومحاطًا بمجموعة من الرجال الأشداء الذين يطيعون أوامره، على الرغم من أنه فعليًا لم يكن يتمتع بأية مهارة قيادية عسكرية، نتيجة سرعة تجنيده وغلبة خبرته المكتبية والاستخباراتية والاستشارية على ما سواها. لكن يبدو أن الصورة الفوتو-تاريخية التي عُرفت عنه، كانت تلك التي رسمها من خلال كتابه «أعمدة الحكمة السبعة»، فكان هذا المؤلف جواز سفره إلى شهرة غير مسبوقة، في فترة زمنية حساسة من تحولات المشرق، لدرجة أن ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطانية آنذاك قال عنه:  «لن يظهر له مثيل مهما كانت الحاجة ماسة له».
وكانت قصة لورنس عادت أيضًا للظهور عام 2014 عندما عثر فريق أثري بريطاني على المعسكر الصحراوي السري بكامل محتوياته، بعد نحو قرن تقريبًا من مغادرة ضابط الاستخبارات البريطاني «توماس إدوارد لورنس». من ذلك المكان أشرف هذا الأخير على شن «حرب عصابات» على قوات السلطنة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى. وعثر الأثري البريطاني في جامعة برستول «جون ونتربيرن» عليه مصادفة بفضل خريطة طيار حربي بريطاني مخطوطة بقلم رصاص عام1918؛ وتطلب العثور على المعسكر 10 أعوام. يذكر لورنس في كتابه، أنه أنشأه خلف جبل يواجه محطة تل شحم؛ وأنه كان يأكل الفاصوليا هناك، ويشرب الشاي بالحليب وقطع البسكويت، واصفًا أدق التفاصيل حين كان يتسلى بالنظر إلى النار التي يوقدها مساعدوه قرب المعسكر. 
ويُذكر تاريخيًا أن «لورنس» استخدم ذلك المعسكر قاعدة، استُخدمت لشن عدد من الهجمات على خط سكك حديد الحجاز، حيث مكث فيه يراقب اندحار العثمانيين نتيجة ما لحق بهم من الخسائر بين عامي (1917 و1918). ويبدو أن هذه التجربة تركت أثرًا عميقًا في حياة «لورنس»، فمن شظف العيش في صحراء الأردن، ومن وادي رام تحديدًا، استمد لورنس تاريخه وراكم مذكراته وربطها في سياق متصل، من تجواله مع الثوار العرب إلى حيث بنى له الثوار العرب منزلًا حجريًا شيدوه على واجهة أحد الجدران الصخرية، إلى دخول دمشق مرافقًا لفيصل ابن الحسين. وكان هذا المكان التاريخي يضم أعمدة طبيعية عملاقة ترنو إلى السماء الزرقاء بارتفاع عدة أمتار، وقد أطلق لورنس العرب عليها اسم «أعمدة الحكمة السبعة»، وهو العنوان نفسه الذي حملته سيرته الذاتية فيما بعد، جامعًا بين سيرته كبطل مقاتل غيّر وجه التاريخ من جهة، وبين تاريخ المنطقة المتحول من عصر الولاء للسلطنة العثمانية، إلى عصر السقوط تحت مقصلة الاستعمار بتسمية ملطّفة، ألا وهي الانتداب، من جهة أخرى.
لكن يبدو أيضًا أنه كان للفرنسيين رأي تاريخي آخر، فيما يخص «أعمدة الحكمة السبعة» وفي دور «لورنس»، حيث قال أحد ضباطهم إنه لم يكن مقدّرًا له أن يكتب هذه المذكرات، ليستطرد في سردية بطولاته مع العرب، لولا الدور الفرنسي العسكري الحاسم على الأرض، ولولا القرار الجدي برفد الثورة العربية حينها بما هو ضروري لانتصارها. فاستنادًا إلى الوثائق الفرنسية التي نشرت مؤخرًا حول حقبة الحرب العالمية الأولى، وسقوط الدولة العثمانية، والتي أصبحت في متناول الباحثين والعموم، حملت العديد من المراسلات العسكرية بين البعثة الفرنسية في الحجاز ووزارة الحرب الفرنسية تقييمًا جديدًا حول الدور الفعلي للإنجليز وللورنس العرب، بل كشفت عن أدوار حاسمة للقائد الفرنسي روزاريو بيزاني إضافة إلى قيادات مسلمة أخرى من شمالي أفريقيا، حيث كانت هذه الوجوه البارزة في استقلال الحجاز عام 1918 .  

فرنسا تدعم ثورة الشريف حسين
في 5 أغسطس 1916اتخذت وزارة الحرب الفرنسية قرارًا بتشكيل «بعثة مصر العسكرية» لدعم ثورة الشريف حسين، وكان من المقرر أن ترافق هذه البعثة حملة الحج، ومعها بعض الضباط العرب المحليين، كانت تطلب وزارة الحرب اختيارهم ووجودهم من قياداتها في تونس والجزائر . وأوكلت وزارة الحرب قيادة وتنسيق هذه البعثة المجزأة لفريق سياسي وآخر عسكري إلى الكولونيل بريمون.
وفي مراسلة مؤرخة في 15 أغسطس1916، تمّ تنظيم هذه البعثة العسكرية حيث حرص الفرنسيون على أن تكون القيادات مسلمة حيث هناك تماس مع الشريف حسين وأولاده. وتحت تسمية «بعثة مصر العسكرية» تمّ تقسيمها إلى قسمين: 
بعثة مصر وقائدها العام أيضًا «بريمون» مع عدد من المساعدين. وبعثة الحجاز المكونة حصريًا من المسلمين ويقودها قائد السرب شريف القاضي، من فوج المدفعية الثقيلة113، وهو جزائري آخر يتمتع بخصوصية كونه أول من تمّ استقباله في مدرسة البوليتكنيك (دفعة 1887). ويساعده ثلاثة ضباط هم: النقيب ولد محمد علي راحو، والنقيب سعد رقيج، من فوج السباهيين الثاني، والملازم لحلوح، من القوات المساعدة المغربية.
وفي مراسلة عسكرية سرية، صادرة من الإسماعيلية في 17 سبتمبر 1916، رقم399، يشير الضابط المسؤول عن البعثة إلى أن وزارة الحرب البريطانية ترفض السماح باستخدام القوى العسكرية في الحجاز، أو إيلاء كتيبة جديدة إلى قيادتها في مصر، مما يعيق إرسال ثلاثة أفواج سودانية إلى «رابغ» (Rabegh) بدل الوحدات الإنجليزية، فيما توافق هذه الوزارة على الدور الفرنسي الداعم في الحجاز. ويؤكد أن المندوب السامي الفرنسي والمكتب العربي قلقان من تضرر قضية الشريف حسين نتيجة الموقف الإنجليزي، ويعولان على السفن الحربية لإيقاف التقدم التركي، لأن مرحلة السيطرة على «رابغ» أساسية لا سيما أن الآبار بعيدة 4 كم عن الشاطئ . وتشير هذه المراسلات إلى تلكؤ ما في الدور الإنجليزي ومحاولة إلقاء الحمل على الوجود الفرنسي بقرب الثورة.
وفي مراسلة أخرى بتاريخ 22 سبتمبر 1916 يطلب العقيد «بريمون» لائحة بالدعم المطلوب بصورة عاجلة ومن ضمنها:  ضباط من القناصة ومن السباهيين لتدريب البدو، إضافة إلى العتاد ومن ضمنها 2000 بندقية مع الذخيرة، وإنشاء قاعدة عسكرية في بورسودان بناءً على طلب الإنجليز، إضافة إلى الدعم بالمؤون والطبابة الحربية وغيرها، وهذا يدل على أن التشجيع الإنجليزي للشريف حسين كي يثور على الهيمنة العثمانية، ساعيًا إلى استقلال الحجاز، لم يكن مترافقًا حتمًا مع الدعم العسكري المطلوب لإنجاح هذه الثورة بالمعنى العسكري.
ولم تشارك البحرية الإنجليزية في المعارك إلا في 24 يناير1917، حيث جاءت بوارجها إلى سواحل الحجاز، وأنزلت 250 من جنود البحرية الإنجليزية، و500 جندي عربي، وبدأت في إطلاق قذائف مدفعيتها على القوات التركية، مما اضطر الترك إلى الانسحاب من العديد من المواقع، مخلفين وراءهم الأسلحة والعتاد.
والواقع أن المشاركة الفرنسية تم تحضيرها مبكرًا، حتى إنه بلغ حجم التدخل العسكري الفرنسي وفق مراسلة عسكرية فرنسية رسمية في 17 يناير عام 1918 : 17 ضابطًا، 356 جنديًا، 10 مدافع، 6 مدافع رشاشة، و47 بندقية رشاشة. وتوزع هؤلاء، إضافة إلى مركز جدة، ومكة، على ثلاث فرق عربية مقاتلة، بقيادة أبناء الشريف حسين: فرقة الأمير علي في منطقة المدينة ومقره رابغ، وسمّي جيش الجنوب، وكانت مهمته منازلة الترك ومنعهم من الزحف نحو مكة؛ ورافقه النقيب دوبوي. فرقة بقيادة الأمير عبد الله في منطقة المدينة أيضًا، ودعي جيش الشرق، وكانت مهمته منازلة العدو وتخريب السكة الحديد بين الشام ومكة؛ ورافقه النقيب الجزائري محمد ولد علي راهو. وفرقة بقيادة الأمير فيصل في منطقة العقبة، دعي جيش الشمال، ومهمته الرئيسية إعاقة تقدم جيش فخري باشا ومنعه من بلوغ ينبع ورافقه النقيب (بيزاني).
وبالنسبة لهذا القائد «بيزاني» الخبير في المدفعية قاد فرقة فرنسية مكونة من 146 رجلًا في الغارات العسكرية من العقبة إلى دمشق في سبتمبر وأكتوبر1918، حيث غطت عملياتها أكثر من 1000 كيلومتر من الصحراء. وكان قوامها فريقًا طبيًا، وبطاريات مدفعية، وقسم من المدافع الرشاشة، وفريق اتصالات، وقسم هندسي، وقسم من القناصة (الرقيب بلقاسم)، وفرن ميداني، 2000 طلقة لكل بندقية، 30000 خرطوشة ومخزون 3 أشهر من العلف. وضم القسم الهندسي 110 جِمال للبعثة.  وبفضل حنكته وخبرته، في 26 سبتمبر 1918، وبينما كان مع رجاله وبضع مئات من المقاتلين العرب في حراسة جناح جيش فيصل، تمكّن من تفريق 8000 تركي كانوا ينسحبون من عمان، مستخدمًا مدافع عيار 65 ملم، ما جعلهم يعتقدون أن لدى الجيش العربي قوة نيران أعلى بكثير من الواقع. 
كانت الفرق الفرنسية البعيدة عن دعم حيوي من القوات العربية، تقوم بمعظم الإغارات على سكك الحديد باتجاه دمشق. كما شاركت القوات الفرنسية المتمركزة في العقبة بدور حاسم إلى جانب الأمير فيصل ومرافقه لورنس.  وهذه العمليات يبدو أن هذا الأخير تجنب الحديث عنها وعرض نجاحاتها في كتابه الشهير، مغيبًا دور جنود شمال أفريقيا من الجزائر والمغرب، الذين قاتلوا تحت علم فرنسا إلى جانب الشريف حسين، محاولًا إبقاء صورته كبطل إنجليزي إلى جانب قوات الشريف حسين، على حساب الجهد الفرنسي، ومتغاضيًا عن أصوات المدفعية الفرنسية التي كان لها دورًا حاسمًا بفضل مهارة بيزاني القتالية والتي كان لورنس يفتقدها .
عند عرض فيلم لورنس العرب على الشاشة الكبرى عام 1962 برز الانزعاج الفرنسي من تشويه التاريخ الخاص بهم، وصدرت عدة مقالات تتحدث عن تضخيم دور الشخصية الأسطورية للورنس، حيث تم تقديم المراحل الكبرى في الثورة العربية الكبرى بقيادته القتالية وحكمته المفترضة، مقابل تهميش وتغييب الحضور العسكري الأكبر للفرنسيين: تخريب السكة الحديدية في الحجاز، والاستيلاء على العقبة في مايو 1917 ودخول دمشق في سبتمبر1918؛ علمًا أن العقيد «بيزاني» دخل أيضًا إلى العاصمة السورية إلى جانب الأمير فيصل نجل الشريف الحسين، حيث عاد اليها منتصرًا مع رجاله في دمشق في 30 أكتوبر1918 .
ولعل أفضل شهادة تاريخية يمكن أن تعيد الأحجام التاريخية إلى حقيقتها، هي من الإنجليز أنفسهم، نجدها في رسالة المندوب السامي البريطاني في القاهرة السير وينجيت، والتي تم إرسالها إلى باريس لشكر فرنسا على الدعم في الحجاز والمصحوبة بالامتنان لهؤلاء الجنود الفرنسيين، من جميع الرتب على دورهم الحاسم:  «إلى العقيد بريمون، إلى الضباط الفرنسيين والمسلمين وضباط الصف والجنود الذين يشكلون المفرزة الجزائرية الفرنسية، يجب تقديم الامتنان الأكثر حيوية لكفاءتهم وتعاونهم الودي بالإضافة إلى قدرتهم على تجاوز الصعوبات وفي أصعب ظروف الخدمة والظروف المناخية، ساهمت دائمًا إلى حد كبير في نجاح العمليات المشتركة التي قاموا فيها بدور شجاع ورائع للغاية» ■