الأمير منتومحات أسطورة الدهاء وخبير البقاء

الأمير منتومحات أسطورة الدهاء وخبير البقاء

عانت مصر القديمة خلال فترات أسراتها التاريخية المتأخرة، من كبوات وفترات ضعف أدت إلى تدخل وسيطرة غير المصريين في الحكم... وكان التطاحن على العرش الهش وقتها قد وصل إلى جلوس الملك مدة وجيزة ليخلفه آخر بالقوة وليس بالوراثة، كما أعلن كبار الكهنة وحكام المقاطعات أنفسهم ملوكًا، لتصبح البلاد تحت سلطة عدد من أشباه الملوك في الوقت نفسه، ومع تفاقم الأزمات وتعاظم الفواجع بزغ من وسط الظلمات والمحن شخصيات استثنائية، خرجت من رحم الرخاء والجفاء على السواء، وصقلتها الحياة بوجهيها الرغد والمتقشف معًا، لتحمل أمانة الحفاظ على البلاد قدر الإمكان والخروج بها من الأنفاق المظلمة بأقل الخسائر.

 

بعد أن اعتاد المصري القديم طوال عهد الدولة الحديثة أرقى معاني التحضّر والقوة، وأقصى مقومات الرفاهية ورغد الحياة في ذلك الوقت، كما وصل سلطان الملك المصري لأعلى درجات السيطرة والحزم... وبعد أن تحولت المملكة المصرية إلى إمبراطورية لأول مرة في تاريخها عهد التحامسة والرعامسة، وهم ملوك تسمّوا بالاسمين الشهيرين «تحتمس» و«رعمسيس» حكموا خلال الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة من أبرزهم «تحتمس الثالث» و«رعمسيس الثاني»، وبعد أن أصبح المصري القديم يشار إليه بالبنان، ومليكه فاتح بجيشه يقهر ما حوله من بلدان، تداعى مجتمعه في سرعة لافتة، وانهارت ركائز الامبراطورية المصرية وتحكم فيها الغرباء... وسقطت عروش الفراعنة وتهدّمت منشآتهم وتبخّرت رهبتهم، وتم وضع الحاميات الأجنبية وسط المنازل والمعابد، لتتم مراقبة أهل وادي النيل ومنعهم من الدفاع عن مملكتهم الحاضرة وعتبات عالمهم الآخر بصورة لم تشهدها مصر القديمة من قبل.

مسبّبات الدهاء 
كان «منتومحات» عمدة مدينة طيبة (الأقصر حاليًا) وحاكم جنوب البلاد، نموذجًا شديد الخصوصية والتميز في سيرة رجال مصر القديمة وقت المحن، في الثلث الأخير من عهد الأسرات التاريخية وبدايات العصر المتأخر، حيث لعب دورًا مهمًا في فترة عصيبة من تاريخ وادي النيل خلال النصف الأول من القرن السابع قبل الميلاد، حينما كانت البلاد تتنازعها ثلاث سلطات: المصريون الذين أرادوا أن تبقى بلادهم حرة، والكوشيون (حكام من النوبة وجنوب مصر) الذين أرادوا السيطرة مرة أخرى على البلاد بعدما أسسوا فيها الأسرة الخامسة والعشرين، والآشوريون الذين كانوا في عز مجدهم الامبراطوري وأرادوا طرد الكوشيين وضم مصر لهم... وقد قام «منتومحات» بكل قوة ودهاء بإرضاء القوى الثلاث حسب الأحوال للخروج بمدينته سالمة، وتحقق له ذلك في شيخوخته بمعاصرته للأسرة السادسة والعشرين واستقلال البلاد على يد الملك «بسمتيك الأول» في النصف الثاني من القرن السابع قبل الميلاد.
لقد كانت المهمة الملقاة على عاتق «منتومحات» لمواجهة كل طرف صعبة ومتغيرة، فالكوشيون القادمون من الجنوب بهم خصال التحضر واحترام الآخر، لكن لم يكن باليسير اكتساب ثقتهم والدخول في زمرتهم، في حين أتى الآشوريون من الشرق بنيّة الغزو والتدمير وطمس الهوية، أما المصريون فقد كانت القوة في يد أهل الدلتا بشمال البلاد، وكان على «منتومحات» التعامل بحذر من سيطرة الوجه البحري على الوجه القبلي المنتمي إليه، لذا فمَن يقف مكان «منتومحات» ويرى من مدينته المخاطر تأتيه من الجنوب والشرق والشمال فلا بد أن يتحلى بشجاعة الأسد ومكر الثعلب وثبات الفيل، ويجب أن يعلم أن القرار الخاطئ قد لا يكلفه منصبه وحياته فقط، بل قد يؤدي إلى دمار بلاده بالكامل ومحو تاريخها.

بداية الدهاء
نشأ «منتومحات» في فترة حكم الكوشيين مصر، وكان سلطانهم مستقرًا بفضل سياستهم الهادئة والمتوازنة في حكم المصريين، فلم يثقل ملوكهم على عامة الشعب واهتموا ببناء وتوسيع المعابد وزيادة ممتلكات كهنة المعبود السائد وقتها آمون، كما سادت عبادة هذا المعبود في بلاد كوش نفسها وأقيمت له فيها معابد فخمة، ومع استبدال منصب كاهن آمون الأكبر منذ عهد الأسرة الثالثة والعشرين الليبية بمنصب أنثوي يتمثل في المتعبّدة الإلهية، والذي كان من نصيب ابنة الملك الليبي بالوراثة، لضمان الاستحواذ على الممتلكات الطائلة للمعبود آمون، وأيضًا استقرار الحكم بعدم تنصيب أي كاهن نفسه ملكًا كما كان يحدث من قبل، ومع نهاية عهد الليبيين وبداية حكم الكوشيين حدث التبني الإجباري الأول بإجبار المتعبّدة الإلهية الليبية «شبنوبت الأولى» على تبني «أمنردس» ابنة ملك كوش «كشتا»... وكانت السلطة الروحية في يد المتعبدات الإلهيات، في حين تم إسناد شؤون الإدارة الدنيوية الخاصة بأملاك المتعبّدة في طيبة إلى «المدير العظيم للبيت»، وكانت هذه الوظيفة ذات شأن في البلاط الملكي منذ الأسرة الثامنة عشرة، حيث كان صاحبها يسيطر على كل أملاك الملك وأحيانًا يطغى بسلطته على كبار موظفي الدولة... وفي العهد الكوشي أصبح كل من منصب المتعبّدة الإلهية والمدير العظيم للبيت لا يتقلّده إلا الكوشيون... وقتها فطن «منتومحات» إلى الخطوط الحمراء التي يجب عليه ألا يتجاوزها، وأدرك أقصى ما يصل إليه المصريون في ذلك الوقت من درجات ووظائف، فسعى للاحتفاظ بما ورثه من مناصب، حيث يرجع نسبه لعائلة رفيعة المستوى من الكهنة والحكّام المحليين والوزراء، كما نجح في الاستحواذ على ألقاب أخرى مهمة، فحمل لقب الأمير الوراثي، والكاهن الرابع لآمون، وحامل ختم الملك، والمشرف على الوجه القبلي، والسمير العظيم، وحاكم القصر، وعمدة مدينة طيبة، بالإضافة إلى لقب طريف هو الساكن قلب الملك، وغيرها من الألقاب المميزة، مما يدل على الرضاء التام عنه من قبل البلاط الملكي الكوشي في مصر، ولا أدل على ذلك مما نراه في تمثاله الشهير المحفوظ بالمتحف المصري بالقاهرة، والذي يظهره بملامح نوبية واضحة رغم أصله المصري الخالص، مما يكشف عن إحدى طرقه الماكرة للتقرب من الكوشيين.
 
الحد الأقصى للدهاء 
كانت أصعب الفترات التي مرت على «منتومحات» خاصة وأهل مصر عامة هي فترة الغزو الآشوري على وادي النيل، والتي تشبه في سياستها فترة احتلال الهكسوس قبل هذا العهد بما يقرب من  الألف عام، حيث طغت مسحة العنف التي تميّز بها الكثير من ملوك آشور على طريقة تعاملهم مع المصريين والكوشيين على السواء، ففي مدة جلوس الملك الكوشي «طهارقة» على العرش كانت البلاد في حال تشبه أحوال عهود أعاظم ملوك مصر القديمة، فإصلاحات هذا الملك ومبانيه سواء في مصر أو بلاد كوش تشهد له بأنه كان من خيرة الملوك الذين خلّدوا ذكراهم في وادي النيل، لكن الظروف من حوله لم تمكّنه من استكمال حلمه وبقائه على العرش حتى يخلفه أبناؤه، فقد كانت قوة مملكة آشور قد تعاظمت وتغلبت على آمال الملك الكوشي المخضرم... ففي نحو عام 667 قبل الميلاد تقريبًا فرّ الملك «طهارقة» إلى الجنوب بعد سجال مشرف انتهى بهزيمته أمام جيش جرار للملك الآشوري القوي «آشوربانيبال»، وكانت تلك الحملة الأولى الناجحة لآشور على مصر، وقد خربت مدينة طيبة في ذلك الغزو، لكن «منتومحات» كان له دور أسطوري في تحرير المدينة وعمل إصلاحات كبرى بعد الدمار الذي لحق بها... وظل الأمير حاكمًا على مدينته خلال حكم الآشوريين وإن ظلت أساليبه وقتها غير معلومة لندرة الآثار المتاحة خلال هذه الفترة الحرجة...  لكن يبدو أن «منتومحات» قام بأعمال بالغة الدهاء من أجل تجنّب العزل من قبل المحتل الذي حمل لواء السيطرة المطلقة وصبغ كل ما هو مصري أو كوشي بصبغتهم ... وفي الغزو الثاني للآشوريين - نحو عام 661 قبل الميلاد تقريبًا - كان التخريب مريعًا وكاسحًا، ولم يسمع عن أي إصلاحات قام بها «منتومحات» في طيبة، وإن ظل بصورة أو بأخرى في منصبه كحاكم للإقليم الجنوبي حتى طرد الآشوريون على يد الملك المصري «بسمتيك» مؤسس الأسرة السادسة والعشرين، والذي لم يقل في دهائه عن «منتومحات»، وكان ذلك الملك في بداية فتوته وشبابه وإشراقة طموحه، في حين كانت شمس «منتومحات» توشك على الغروب.
 
نهاية الدهاء
من أهم التحديات في حياة «منتومحات» - وآخرها - المواجهة الحتمية التي حدثت بينه وبين الملك «بسمتيك الأول» عندما استحوذ الأخير على الدلتا - مسقط رأسه - ومصر الوسطى، ثم الوجه القبلي وطيبة التي كانت كيانًا شبه مستقل تحت حكم مشترك: سياسي للأمير«منتومحات»، وديني لكاهنة آمون «شبنوبت الثانية» - وهي من سلالة كوش الحاكمة - وقد خاض الملك الشاب مفاوضات صعبة مع المحنك العجوز «منتومحات»، والتي يبدو أنها لم تكن سهلة على الإطلاق، فأهل طيبة انتابهم الحزن والريبة لخضوعهم لحاكم ينتمي للشمال، بخلاف تاريخ «بسمتيك» ومن قبله أبيه «نيكاو» بتحالفاتهم المتناقضة، سواء مع الآشوريين لطرد الكوشيين، ثم مع الإغريق لطرد الآشوريين بعد ذلك والاعتماد عليهم كجنود وتجار... كما أجبر «شبنوبت الثانية» على تبني ابنة «بسمتيك» لتخلفها في منصبها المهم - وهو التبني الإجباري الثاني - لتنتزع آخر سلطة للدم الكوشي في مصر... ولم يكتف الملك الجديد بذلك بل عين أحد الرجال المخلصين له في منصب حاكم الجنوب، والغرض من هذا الإجراء بالقطع كان تقليص سلطات «منتومحات» والحد من نفوذه... وقد كانت السنة التاسعة من حكم «بسمتيك» (نحو 650 قبل الميلاد تقريبًا) حاسمة في حدثين جللين، الأول: وصول «نيتوكريس» ابنة الملك إلى منصبها وعرشها الجديد كمتعبدة وكاهنة عظمى لآمون في طيبة، والحدث الثاني:  هو موت «منتومحات»... وغير معلوم هل توفي الأمير بنفس راضية عن استقلال بلاده وتوحيدها تحت سلطة ملك مصري قوي، أم إنه مات مقهورًا على خسارته للسلطة المطلقة التي لطالما حظي بها خلال حكم الكوشيين والآشوريين لمصر...  لكن المؤكد أن هذا الحاكم قد حظي بمهارة وحسن سياسة لإرضاء خصومه والاستفادة منهم، لدرجة أنه كان يعد خائنًا لبلاده في نظر البعض، لكنه في النهاية خرج بمقاطعته سالمة خلال الفترتين الكوشية والآشورية، وسار بها إلى بر الأمان عندما حملت البلاد لواء الاستقلال... وعليه فإن «منتومحات» الذي نجح في أن يظل حاكمًا خلال ثلاث فترات مختلفة ومتعاقبة ومتناحرة، قد استحق لقبًا عتيدًا يوضع إلى جانب ألقابه العديدة، وهو «رجل كل العصور»، بتنفيذه دعائم وأسس البقاء السياسي والوظيفي وسط أحلك الظروف حتى الرمق الأخير، والتي يمكن تلخيصها في المبادئ العشر التالية:
• أنا الأصلـح والأقـدر دائـمًا.
• الثعلب ليس خائنًا، بل مراوغ.
• حليفي الأقوى وخادمي الأضعف.
• متقهقر حـي أفضل من مِـقدام ميت.
• أحيانًا تـسير السـفينة بأكـثر من قــائد.
• عاجلًا أم آجلًا كل ما ومن حولي سيتغير.
• عـدوّي القريب أكثر أمانًا من صديقي البعـيد.
• المصالح المشتركة أقوى من الأعراف والقوانين.
• كـل شيء قـابل للإصـلاح ولـكن في الوقـت المناسـب.
• مقبرتي هي الأرض التي نجحت في الحفاظ عليها حيًا وميتًا.
ودفن الأمير «منتومحات» في بلدته الأثيرة طيبة (تحديدًا في منطقة «العساسيف» بالأقصر حاليًا)، في المقبرة الكبيرة الفاخرة عظيمة النقوش رقم TT34 - والتي يسمّيها بعض علماء الآثار بالقصر الجنائزي - والتي صممت ونفذت بصورة فريدة واستثنائية مقارنة بمقابر الأفراد أو الملوك على السواء، فهي مزيج من المقبرة والمعبد، ونجد أن صاحبها كان يتمثل كالملوك لكنه لم يرتدِ التاج قط، وتماثيله المكتشفة وصلت إلى قمة الإتقان في عصر نهضة جديد وأخير أتى في عهد الأسرتين الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين ■