أماديو بريزيوسي فنان مالطي في شوارع القاهرة وإسطنبول

أماديو بريزيوسي فنان مالطي في شوارع  القاهرة وإسطنبول

يخضع المرءُ منا لمصادفات تقوده إلى معرفة الجديد مما لم يخطر له على بال أو يتحسَّب وقوعه، ومن تلك المصادفات «الجمَالية» التي حدثت لي أثناء إجرائي بعض الأبحاث عن تاريخ الوجود المصري في إفريقيا بمقر الجمعية الجغرافية المصرية بشارع القصر العيني بالقاهرة، فلاحظت أن جدران مكتبتها تزدان بتسعة عشر إطارًا للوحات زيتية لبعض تفاصيل الحياة الاجتماعية في القاهرة خلال القرن التاسع عشر. كانت اللوحات مرسومة بأنامل رشيقة وذات تناسق خلاب مريحٍ للعين في اختيار الألوان وإظهار أدق تفاصيل الملابس والشوارع. 

 

في البداية ظننت أن اللوحات للفنان الفرنسي وعالم الآثار المصرية بريس داڤن، من مجموعته المعروفة باسم «الألبوم الشرقي»، لكن أمين المكتبة أفادني بأنها لفنان أوربي يُدعى «بريزيوسي» من مجموعة لوحات نشرها في ألبوم، عنوانه «ذكريات من القاهرة». 
وكم كانت دهشتي إذ لم أجد لهذا الفنان ذِكرًا في كتاب الدكتور ثروت عكاشة «مصر في عيون الغرباء» الذي تناول أعمال المستشرقين والفنانين الغربيين عن مصر، كما لم أجد في كل الكتب والمصادر المصرية المعروفة عن تاريخ الاستشراق والفنانين الذين افتتنوا بجمال مصر في القرون الثلاثة الأخيرة أيَّ إشارة له، فدفعني ذلك إلى التنقيب في المصادر الغربية للتقصّي عن هذا الفنان ومجموعته الشهيرة وكتابة هذا المقال عنه لتعريف القارئ العربي به وبمجموعته الفنية الخلابة.

نشأة بريزيوسي
وُلد الكونت أماديو بريزيوسي في ديسمبر عام 1816 بمالطة من عائلة أرستقراطية شهيرة. كان أبوه، جيوفاني بريزيوسي، صاحب منصب رفيع في الحكومة المالطية، وكانت أمه، مارجريتا رينوه، من أصول فرنسية عريقة. منذ صغره استهواه فن الرسم، فتعلَّمه على يد الفنان المالطي الشهير «هيزلر»، إلا أن والده أصر على أن يدرس القانون، فأرسله إلى مدرسة الحقوق في جامعة السوربون. 
لكن وجود بريزيوسي في عاصمة الفن والجمال زاد من إصراره على الاتجاه إلى طريق الفن، واستكمل دراساته الفنية في كلية الفنون الجميلة بباريس.
لم يجد بريزيوسي بعد عودته لمالطة أي تحفيز في بيئتها على إطلاق عنان موهبته، خاصة بعد رفض أبيه لها، فاختار بريزيوسي السفر إلى الشرق الأدنى لما ذاع في أوربا وقتها من اللوحات الفنية الخالدة التي أقبل على رسمها الفنانون والمستشرقون الأوربيون عن الشرق وسحره، وخاصة مصر، فغادر مالطة عام 1842. كانت أول زياراته إلى اسطنبول، والتي رسم بها أولى لوحاته في نوفمبر 1842. وبعدها بعامين، أكمل بريزيوسي مجموعته الفنية الشهيرة «أزياء اسطنبول»، والموجودة حاليًا في المتحف البريطاني بلندن.  
وفي عام 1858 لما رأى إقبال السياح الأوربيين على لوحاته عن تركيا، قرر إخراجها بمساعدة صديق له في فرنسا في ألبوم أسماه «إسطنبول... ذكريات من الشرق». ثم أعاد إصدارها عام 1861 بمزيد من التعديلات بيده. وفي عام 1862 نشر ألبومه الثاني الذي نحن بصدده، وأسماه «ذكريات من القاهرة» وذلك بعد زيارة له إلى القاهرة في ذلك العام. وللأسف، لم يذكر مؤرخو الفنون تفاصيل زيارته للقاهرة. 
وبعد عودته من القاهرة إلى تركيا تزوج بريزيوسي من فتاة يونانية في إسطنبول وأنجب منها أربعة أطفال، وعمل مترجمًا للغتين التركية واليونانية في السفارة الإنجليزية بها. 
كان السياح يزورون مرسمه الخاص به في إسطنبول لشراء نسخ ليتوغرافية من ألبومه الشهير عنها، ومن أشهرهم الأمير إدوارد، أمير ويلز، الذي زاره في أبريل عام 1869، وأمير رومانيا كارول الأول عام 1866، الذي دعاه لزيارة رومانيا لرسم ألبوم لها ولأهلها ومناظرها الطبيعية، فذهب إليها عام 1868، ورسم عدة مناظر طبيعية لبوخارست ومناطق أخرى عبر رومانيا بالإضافة إلى اسكتشات للأمير كارول، والتي اشتراها منه بأسعار تراوحت بين
300 و1200 فرنك، ثم عاد بريزيوسي إلى إسطنبول.  
وفي عام 1870 عاد مرة أخرى إلى رومانيا، ورسم مجموعته الشهيرة «مناظر من والاشيا»، وهي الآن معروضة بمتحف مدينة بوخارست.
لا يُعرف إلا القليل عن حياة بريزيوسي بعد عودته من رومانيا إلى تركيا، وكان إقبال الناس على الصور الفوتوغرافية التي بدأت في الانتشار وقتها سببًا في تراجع الإقبال على شراء لوحاته، مما سبب له بعض الإحباط. 

وفاته بتركيا
توفي بريزيوسي بعيار ناري طائش أثناء رحلة صيد بجبال تركيا، ودُفن بكنيسة يشيلكوي الكاثوليكية بإسطنبول يوم 17 سبتمبر 1882. طُوي اسم بريزيوسي في عالم النسيان حتى أعاد متحف «فيكتوريا أند ألبرت» بلندن استكشاف لوحاته الثمينة المنسية، وعرَضها تكريمًا له ولتعريف الناس به عام 1985. 
وكذلك احتفل به متحف بوخارست وأعاد نشر أعماله عام 2003، كما أعادت دار نشر تركية نشر ألبومه عن إسطنبول عام 2010. وكنت أتمنى أن تُنشر بمصر نسخة عربية مترجمة لألبومه «ذكريات من القاهرة». وتوجد بالجمعية الجغرافية المصرية 19 لوحة من أصل عشرين. ولا توجد في العالم نسخة متكاملة منها إلا في متجر للكتب واللوحات القديمة في فيينا بمبلغ 33 ألف دولار، وها نحن ننشر بعضًا من أجمل لوحاته، عرفانًا وتقديرًا لأنامله التي سجلت بعض أوجه الحياة في قاهرة وإسطنبول القرن التاسع عشر ■