جان باتيست كامي كورو «فيل - دافري»

جان باتيست كامي كورو «فيل - دافري»

في عام1897م، وفي معرض حديثه عن الرسم في الهواء الطلق الذي مارسه الانطباعيون، قال كلود مونيه: «هناك أستاذ واحد في هذا المجال، هو كورو. نحن لا شيء بالمقارنة معه. لا شيء».
يحتل كورو مكانة خاصة في تاريخ الرسم خلال القرن التاسع عشر، فهو أول فنان خرج من الاستديو ليرسم مباشرة في الطبيعة، كما أنه أطلق مفهومًا جديدًا للواقعية كان وراء ظهور الانطباعية.
وُلد كورو عام 1796م، لأسرة برجوازية مرتاحة ماديًا. وخلافًا لما هو شائع عن كبار الفنانين، لم تظهر على كورو أية موهبة خاصة في سن مبكرة. 
وبعد أن تعثر في الدراسة العامة عمل بمصنع للمفروشات كان يملكه والده إلى أن بلغ الخامسة والعشرين من العمر، وقرر آنذاك ترك التجارة لينصرف إلى دراسة الفن. وبعد وفاة شقيقته عام 1822م صار يتلقى مخصصات من عائلته تبلغ 1500 فرنك ذهب سنويًا، ما أتاح له أن يسافر أكثر من مرة إلى إيطاليا، وأن ينصرف إلى الرسم على هواه من دون أي ضغط خارجي.
عندما بدأ كورو يرسم بشكل محترف كان رسم المناظر الطبيعية في أوربا موزعًا على اتجاهين مختلفين:  النيوكلاسيكي الذي يرسم طبيعة مثالية تسكنها شخصيات من التاريخ والأساطير الأدبية، واتجاه آخر أقرب إلى الواقعية وينتصر للغنائية وجمال الطبيعة الحقيقية بحد ذاتها. ورغم براعة كورو في الاتجاه الأول، فإنه بتقدمه في العمر راح يميل أكثر وأكثر إلى الاتجاه الثاني، ولوحته «فيل - دافري» التي رسمها عام 1865م، ونراها هنا، هي خير معبّر عن الاتجاه الذي رسا عليه الفنان.
في عام1817م كان والد الفنان قد اشترى بيتًا ريفيًا في بلدة «فيل - دافري» القريبة من باريس، وأصبحت هذه البلدة لاحقًا بالنسبة لكورو بمثابة ما كانت عليه وقتها غابة فونتينبلو بالنسبة لرسامي الطبيعة، فرسم نواحيها في لوحات عديدة.
نرى في هذه اللوحة بحيرة صغيرة ذات صفحة ساكنة، تتقدمها شجرتان (على الأرجح صفصافتان) أورقتا منذ أيام قليلة، وبقربهما مزارعان يزاولان عملًا عاديًا. وفي البعيد نرى بعض البيوت وقد انعكست صورتها على صفحة الماء.
جوانب الابتكار في هذه اللوحة كثيرة، فعلى مستوى الموضوع نحن أمام طبيعة «حقيقية» غير متخيلة، يسكنها أناس عاديون، وأشجارها تشبه ما نراه من أشجار أينما كانت، وليست باهرة بضخامتها كما حالها عند النيوكلاسيكيين. وعلى مستوى التقنية، لم يسبق لفنان أن رسم أوراق الشجر بالخفة الهوائية والشفافية التي رسم بها كورو هنا الوريقات الخضراء الفاتحة، لأنها نبتت للتو على أغصانها.  أما الضوء الذي نجهل مصدره ومن أي اتجاه أتى كما الحال في كثير من أعمال هذا الفنان، فهو يبدو صباحيًا، يوحد البحيرة والسماء في لون فضي واحد.
هذا التناغم اللوني وتحقيق الكثير بضربات صغيرة وسريعة من الفرشاة هو ما أبهر جيلًا كاملًا من الرسامين، وفي طليعتهم الانطباعيون، حتى إن هناك عددًا منهم أطلقوا على أنفسهم لقب «تلامذة كورو»، وضمت هذه المجموعة كلًا من أوجين بودان، بيرت موريزو، كامي بيسارو، ألكسندر دوفو، ستانيسلاس ليبين، أنطوان شانتروي وغيرهم... مع فارق يستحق الذكر، ألا وهو أن الانطباعيين كثيرًا ما عمدوا إلى استخدام «ألوان الأنابيب»، أي من دون خلطها ببعضها للإسراع في التقاط المشهد، فإن كورو كان يخلط الألوان الأولية، ويأخذ كل وقته في ذلك.
رسم كورو نحو ثلاثة آلاف لوحة في حياته، ومنذ منتصف مسيرته بلغ متوسط ثمن اللوحة الواحدة من أعماله أربعة آلاف فرنك ذهب، الأمر الذي سمح له بمد يد العون لكثير من الفنانين وأسرهم، وذاع عنه صيت كرم أسطوري، لكن ذلك أدى إلى كثرة المستغلين لمكانته، فتعرضت لوحاته للنسخ والتقليد، حتى بتساهل منه وصل إلى حد وضع اللمسات التصحيحية الأخيرة على نسخ رسمها آخرون وتوقيعها ليتمكنوا من بيعها، الأمر الذي جعل فرز اللوحات الأصلية التي رسمها هو عن النسخ المقلدة واحدة من أكبر مهمات الخبراء في القرن العشرين ■