اللقطة السينمائية البؤرة الأولية في تشكيل الفيلم

اللقطة السينمائية البؤرة الأولية في تشكيل الفيلم

اللقطة من القيم الرئيسية في عالم السينما، ومن دونها لا يمكن الحصول على شريط فيلمي قائم على الوحدة والترابط بين عناصره، كما أنها تعد لب البناء الفيلمي وقاعدته الأساسية التي تكون المشهد، وهي الخلية الأصغر في التركيبة الفيلمية التي تشمل كل ما يصور على الشريط دفعة واحدة مع انطلاق تشغيل محرك آلة التصوير حتى توقفه. ويمكن تعريف هذا المصطلح بأنه «مجموع الصور المسجلة خلال عملية التقاط prise de vue واحدة. كما يشار به أيضا إلى الطريقة التي تتم بها عملية التأطير (اللقطة الكبرى، اللقطة المتوسطة، اللقطة الأمريكية...)».

 

اللقطة تبنى من خلال مجموعة من الخطوات، فتبدأ بالترسيم والتخطيط (السيناريو) ثم بالتقطيع والتشكيل الذي يبرزها، ثم بالتصوير والرصد الذي يدونها سينمائيًا، ثم بالمونتاج الذي يربطها بمثيلاتها من اللقطات حتى تخلق لنا دلالات سينمائية ذات معنى ومشاهد متجاورة، تتميز بالتماسك والانسجام، كما أنها تبدأ في التشكل منذ اللحظة الأولى لدوران الكاميرا إلى حين توقفها، وتتلون بمجموعة من التلوينات السينمائية التي يخلقها سلم اللقطات المعتمد في التقاطها، بحسب نوع المشهد المختار ونوعية اللقطة المختارة من طرف المخرج.
وتتعدد التعاريف والمصطلحات التي ارتبطت بهذه الخاصية السينمائية المركزية، حيث يطلق يوري لوتمان مجموعة من التسميات والتحديدات في تعريفه للقطة مثل: وحدة مونتاج صغرى ـ وحدة تكوين أساسية في القصة السينمائية ـ مجموعة العناصر الداخلية للقطة ـ وحدة الدلالة السينمائية ـ أحد المفاهيم الجوهرية في اللغة السينمائية ـ كونها حاملة للدلالة... أما ج. ميتري فيعرفها حسب مصطلحاته السينمائية: حدث، وزاوية، وحقل. حدث لمضمونه، زاوية لتموضع الكاميرا، وحقل للمساحة المؤطرة. بينما يذهب سيرجي ايزنشتاين إلى أن اللقطة هي خلية للمونتاج. من جهة أخرى، يرى فران فينتورا، أن اللقطة هي البصمة، بمعنى مقاطع من محيط ووقت ينتجان واقعًا خياليًا.  في حين يرى كل من جون بيساليل وأندريه غاردي، أن اللقطة تشير - باعتبارها وحدة فضائية - إلى التنظيم الداخلي للمعطيات البصرية المدرجة داخل الإطار. وأخيرًا، نقدم تعريف الباحث المغربي عبد الرزاق الزاهير الذي يرى أن هذه الخاصية تعني متوالية الفتوغرامات الموجودة بين عين الكاميرا وانغلاقها.
الخيط الرابط في كل هذه التعريفات، هو اتفاقها على ربط محتوى اللقطة بتأطير زمني ومكاني ينظم محتوياتها، فالتنظيم الزمني يتمثل في توقيت إنجاز اللقطة من لحظة البدء إلى لحظة النهاية في حركة الكاميرا. أما التنظيم المكاني فهو مرتبط بتأطير المحتويات الداخلية للقطة، من ديكور وأشخاص وأشياء وزوايا عرض... إلخ. ولا تؤدي اللقطة الدلالة التامة إلا بالتصاقها وارتباطها بباقي اللقطات الجزئية الأخرى، فاللقطة كالكلمة المفردة التي لا تكتسب قيمتها إلا بتعالقها مع باقي الكلمات الأخرى في الجملة، الشيء نفسه يصدق على اللقطة التي سيبقى معناها الحكائي ناقصًا إن هي ظلت منعزلة ومنفصلة في محتواها الفردي، حيث ستدخل اللااستمرارية والتقطيع إلى الزمان والمكان السينمائيين،  فالدلالة الحكائية للفيلم مرتبطة بتوالي اللقطات واتساقها في سلسلة متشابكة منظمة بواسطة الوصل والمونتاج، وهذا التنظيم المونتاجي يعطي الحرية للمونتير السينمائي في التغيير والاستبدال والتجزيء والخلق في لقطاته، كما يفعل الكاتب مع كلماته المختارة في نصه الأدبي، حيث تكتسب اللقطة القدر نفسه من الحرية التي تتمتع بها الكلمة: يمكن فصل لقطة عن سياقها وتسليط الضوء عليها، وتركيبها مع لقطات أخرى وفق قوانين الربط والتجاور الدلالية (السيمانتيكية) وغير العادية، واستعمالها بمعنى استعاري sens figuré، مجازي métaphorique، أو كنائي métonymique. 
تجدر الإشارة، قبل إغلاق باب التأصيل المفاهيمي لهذا المصطلح، إلى أن اللقطة ليست عنصرًا ثابتًا يطبعه السكون والجمود كالصورة الفوتوغرافية أو التشكيلية، بل هي مجال حركي يتأسس على تفاعل مختلف عناصر تشكيلها، باعتبارها ظاهرة دينامية تسمح بالحركة داخل حدودها. وهذه الدينامية تخضع لطبيعة الرؤية الفيلمية التي يختارها المخرج السينمائي، باعتباره مبدعًا يسعى لتوسيع الأفق الجمالي في لقطات فيلمه من خلال دمج الساكن بالمتحرك فيها، وتفعيل دور الحركة التي تخلق تناغمًا بين مختلف الوحدات والأجزاء المشكلة للقطة.

سلم اللقطات
في البدايات الأولى لظهور السينما غابت التنظيرات التي تخص معايير تحديد سلم اللقطات الفيلمية، نظرًا لكون السينما كانت تركز في تلك الفترة على محاولة استنساخ الواقع ونقله بتقنيات تقليدية في المراحل الأولى،  لكن مع تطور التقنيات التكنولوجية والسينمائية بصفة خاصة أصبح المخرج السينمائي يستثمر هذه الوسائل في توجيه لقطاته وفق رؤاه ومواقفه، وتنظيمها وفق تصوراته وانطباعاته الفنية من أجل التعبير عن الواقع لا استنساخه، وذلك بتأطير الصورة عبر أحجام ومسافات متنوعة تنسجم مع طول ومقاسات الأشياء والأشخاص والعناصر المكونة للقطة السينمائية. 
ويقصد بسلم اللقطات التغييرات التي تطرأ على حجم اللقطات، وهذا السلم يفيدنا كثيرًا في المعرفة الشاملة التأطيرية لمجموعة من المساحات المتفاوتة والمختلفة الحجم، سواء كانت صغيرة الحجم كالخلية البشرية أو ضخمة كالمجرات الفضائية مثلًا، ولا تخضع هذه الكتل والأحجام المتفاوتة لنوعية معينة من القوانين السينمائية في التصوير والنقل، بل إنها تظل مرتبطة بالتصور الجمالي والرؤية السينمائية التي يختارها المخرج السينمائي، وكل حجم يقوم بتوصيل معلومات تختلف عن الآخر وتحقيق أثر مختلف لدى المشاهد، ونقصد بحجم اللقطة مستوى تأطيرها للموضوع وعلاقتها به، من حيث مسافة العرض ونوع العدسة المصورة وكتلة الشيء المعروض (صغيرة أو كبيرة). واختيار حجم اللقطة ونوعيتها مرتبط أشد الارتباط، كما قلنا، بطبيعة الرؤية الفيلمية الجمالية للمخرج السينمائي، لكن هذا مشروط بقاعدة أساسية مفادها أن تكون هناك معادلة بين حجم اللقطة ومحتواها المادي من جهة، وبعدها الدلالي من جهة ثانية، الشيء الذي يدفعنا إلى القول بأن كبر حجم اللقطة يحدد بشكل عام مدتها، ويحتم بالضرورة على المرسل أن يعطي للمتلقي فرصة زمنية لتفحص محتوى هذه اللقطة. ويتميز سلم اللقطات السينمائية بالتنوع في درجاته وأبعاده الفنية والجمالية، وهذا ما ينتج عنه تعدد أنواع اللقطات الفيلمية المعتمدة، ومن أهمها:
● اللقطة العامة plan géneral: وهي لقطة تأسيسية تظهر في بداية الفيلم، وتهدف إلى وضع المشاهد للسياق العام للقصة الفيلمية، من خلال تأطير شمولي يشمل منظرًا عامًا أو مكانًا من مسافة بعيدة أو ديكورًا واسع المساحة يمكن للشخصيات أن تتحرك داخله. إنها لقطة تشمل مجموع المشهد... وصفية صرفة، حيث تستخدم لجعل المتفرج يستوعب التتالي الجغرافي، أو لعرض ديكور جديد. 

مؤثر دلالي
توظف اللقطة العامة كثيرًا في الأفلام التاريخية، والأفلام الدرامية، والأفلام الحربية، وأفلام الغرب الأمريكي (الويسترن سباغيتي)، نظرًا لكون هذه الأفلام تصور في فضاءات طبيعية واسعة (الصحاري ـ السهول ـ الجبال...). وتسعى هذه اللقطة إلى تحقيق رصد وصفي للديكور والحركة بشكل كلي وشامل، كما أنها تهدف إلى نقل حركات الممثلين الجسدية عن بعد، مادام تصوير تعبيرات الوجه وإيماءاته متعذرة في هذا النوع. وتواجد الأشخاص في الفضاء العام هو مؤشر دلالي يبرز قيمة هذا الفضاء وأهميته داخل السياق الفيلمي.
● اللقطة الكلية (الشاملة) plan d’ensemble: وهي لقطة سينمائية تحاول الإحاطة بمساحة واسعة من الديكور، حيث تظهر الشخصية بين محيطها المؤطر من طرف المخرج، وكذا بعض عناصر الفضاء والديكور وأحيانًا مجموعة من الشخصيات الثانوية الحاضرة في الفيلم، كما يمكن إظهار مساحة كبيرة لمنظر طبيعي من مسافة بعيدة، أو إظهار جزء كبير من مدينة، أو مزرعة، أو مجموعة حقول، أو مجاميع بشرية بأعداد كبيرة كالجيوش في حالة الحرب. وبخلاف اللقطة العامة التي ترصد العموميات في عدسة الكاميرا، فإن اللقطة الكلية تبرز بعض معالم الشخصيات في الصورة، وتعكس جزءًا من أفعالها وتصرفاتها، وبالتالي فإن هذه اللقطة تقترب مما هو خصوصي.
● اللقطة المتوسطة plan moyen: وهي اللقطة التي تحاول تأطير جسد الممثل كاملًا من الأعلى (الرأس) إلى الأسفل (القدمين)، إضافة إلى بعض عناصر الديكور. وهذا النوع من اللقطات يوظّف لوصف أفعال وحركات الممثل، ولتبيان العمل اليدوي الذي ينوي الشخص القيام به. إنها مغلقة بما يكفي لالتقاط تعابير وجوه الممثلين، وبما يكفي أيضًا لتقييم تعبيراتهم الجسدية، كما أنها مرتبطة بما هو وصفي وسردي.
● اللقطة الأمريكية: هي لقطة تحاول تأطير جسد الممثل من الرأس إلى منتصف الفخذ وأعلى الركبة، وهذا النوع من اللقطات راج كثيرًا في سينما الغرب الأمريكي (الويسترن)، حيث كان المخرج يركز- أثناء تصويره لمشهد
المبارزة - على الشخصيات وهي تتناول المسدس من فخذها، مترصدة ومركزة على السلوك العكسي للعدو. كما يستعملها المخرج أحيانًا للإيحاء بمبدأ التكافؤ في حوار ثنائي بين شخصين، أو في حوار فردي بين الشخصية والجمهور حينما ينفرد الممثل بإطار الكاميرا.
● اللقطة الإيطالية: وهي لقطة ترصد الشخصية من الأعلى (الرأس) إلى نصف الساق تحت الركبتين، وهذا النوع من اللقطات يستعمل في أفلام المغامرات، ولم يهتم به المخرجون السينمائيون كثيرًا نظرًا لغياب اللمحة الجمالية والإبداعية في طريقة عرضه.
● اللقطة المقربة plan rapproché: هي لقطة تهتم بالتفاصيل العلوية للشخصية، وتهدف إلى رسم المعالم السيكولوجية للشخصيات من خلال ردود أفعالهم وتصرفاتهم وأحاسيسهم التي ترتسم على وجوههم القريبة من عدسة الكاميرا، فهي من جهة توضح بعضًا من انفعالات الشخص النفسية، ومن جهة أخرى توضح بعضًا من انفعالاته الجسدية. واللقطة المقربة تساعدنا على التواصل أكثر مع الشخصية والتقرب من همومها وأفكارها وأفعالها، وتنقسم إلى قسمين:
● اللقطة المقربة الواسعة p.r. large: تؤطر الشخص إلى حد الحزام.
● اللقطة المقربة الضيقة p.r. serré: تؤطر الشخص من الأعلى إلى الكتف.
● اللقطة الكبرى gros plan: هي اللقطة التي ترصد الشيء بطريقة مكبرة لاغية المكان والحركة والمساحة، حيت تعزل الممثل عن الفضاء مركزة على تفاصيله الدقيقة. هذه التفاصيل التي تعكس انفعالاته النفسية المختلفة والتي تظهر على تقاسيم وجهه: الفرح، الحزن، الخوف... يقول مارسل مارتن في هذا الصدد: من المؤكد أنه في اللقطة المكبرة للوجه البشري تظهر قوة الدلالة السيكولوجية والدرامية للفيلم، وأن استعمال هذا النوع من اللقطات يؤسس بوضوح لما يسمى (العوالم النفسية).
● اللقطة الكبيرة جدًا très gros plan: هي لقطة تفصيلية للشيء، ترصده بطريقة مكبرة جدًا بغاية إظهار جزئياته وتفاصيله، فتارة تظهر جزءًا من الجسد كالعين أو الفم أو اليد أو القدم، وتارة تظهر جزءًا من الديكور كالتركيز على مسدس مثلًا أو قلم أو مفتاح أو مزلاج الباب... وغاية هذه اللقطة درامية وسيكولوجية، حيث تسهم في خلق التوتر وتصاعد حبكة الفيلم من خلال التدقيق في الجزئيات التي تلعب هي الأخرى دورًا جماليًا مكملًا للعناصر الأخرى، فالمخرج لا يعرضها للتصوير عشوائيًا وتلقائيًا، بل لكونها تؤدي دلالة فنية مرتبطة بالسياق الدرامي والحكائي للفيلم، ولكونها تستخدم في حدود الممكن بطريقة منطقية ذات تأثير.

الرؤية الفنية
ختامًا، نخلص إلى أن أحجام اللقطات الموظفة في الفيلم السينمائي عديدة ومتنوعة، وتخضع لطبيعة الرؤية الفنية والذوق الجمالي لصاحب الفيلم الذي ينتقي ما يناسب قصته الفيلمية من لقطات تختلف أحجامها بحسب اختلاف الوضعيات والمواقع، وبحسب الغاية الفنية المبتغاة من كل مشهد ولقطة. كما أن هذه اللقطات تسهم في توالي الأحداث ونمو مسارها من خلال ترابطها وتوحدها بواسطة المونتاج، وهذا ما ينتج الدلالة الفيلمية أو القصة الفيلمية. وقد اكتسبت بعض اللقطات السينمائية شهرة واسعة حين جسدها بعض المخرجين الكبار في أفلامهم، في حين ارتبطت لقطات أخرى بشخصيات محددة تعمد المخرج رصد خصوصياتها، بطرق سينمائية اختارها المخرج وفق فلسفته الفكرية والفنية، ويكوّن مجموع هذه الأصناف من الأحجام أوركسترا حقيقية للواقع ■