الآلة والإنسان... فريق متعاون

الآلة والإنسان... فريق متعاون

أشارت ورقة بحثية لأستاذ بجامعة ميامي حول الذكاء الاصطناعي، إلى مسح أجري عام 2018 شارك فيه أكثر من ستة آلاف من التنفيذيين العاملين بمجال تكنولوجيا المعلومات حول العالم. وكشف المسح عن اهتمام بالغ بقضية الذكاء الاصطناعي، وضرورة أن يقوم البحث والتطوير المتعلق به على تقديم حلول مسؤولة وفعّالة للمشكلات المجتمعية، ما يعني التركيز على جوانب إنسانية واجتماعية جوهرية إضافة إلى الجانب التقني المعقد الذي يصعب فهمه وتصعب السيطرة عليه. 

 

ذكاء اصطناعي أخلاقي
يأتي هذا الاهتمام من مخاوف ولدتها نظم الذكاء الاصطناعي القائمة على تعلم الآلة المزودة ببيانات مشوهة، الأمر الذي يمكن أن يقود إلى رؤى متحيزة، وينشر إشاعات وأخبارًا مزيفة، وأحكامًا مسبقة، وقرارات خاطئة تؤثر على حياتنا. واستجابة لهذا الوضع السلبي قامت كيانات علمية كجامعة ستانفورد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بتأسيس مراكز بحثية للذكاء الاصطناعي المتمحور حول الإنسان HCAI، الذي يقدر الجوانب الإنسانية والأخلاقية ويضعها في الاعتبار بهدف أن تعكس التكنولوجيا صفات العمق في الذكاء البشري؛ وتحسن قدرات الإنسان بدلًا من أخذ مكانه، أي أن يكون لها أثر إيجابي كمخاطبة أهداف بعيدة المدى، وتعجيل الاكتشافات العلمية، ودعم الإبداع والتجديد مع مراعاة القيم الإنسانية في البرمجيات والتطبيقات. 
على الصعيد الصناعي، ناصرت كيانات تكنولوجية رائدة هذا الاتجاه، ووضعت أدلة استرشادية لمنتجات ذكية أخلاقية ومسؤولة ومفيدة وتتسم بالوضوح والشفافية، حيث ينبغي ألا تكون التكنولوجيا كالصناديق السوداء الغامضة التي لا تبين نمط التعلم العميق الذي تمارسه، في الوقت الذي ينتظر منها إجابات وافية على أسئلة مثل: لماذا تفعل هذا؟ ولماذا هذه النتيجة؟ ومتى ستنجح أو تفشل؟ ومتى يمكن الوثوق بها؟ وغيرها مما يؤثر على ثقة المستخدم، وكفاءة القرارات المتخذة،  كتلك المتعلقة بتطبيقات القرارات المالية والقانونية، والتشخيص الطبي، وعمليات المراقبة الصناعية، والتفتيش، والتوظيف، وقبول الجامعات، والبيوت الذكية، والمركبات دون سائق، وتحقيق مكاسب اقتصادية في الوقت نفسه. 

تحديات التصميم
حسبما يؤكد المهتمون، لاتزال هناك الكثير من التحديات المتعلقة بتصميم هذا النوع من الذكاء الاصطناعي المعني بالإنسان، فقد صدرت شكاوى بشأن التعامل مع عدد من المساعدين الآليين الأذكياء القادرين على إصدار أصوات تفاعلية، لفشلهم في التعامل مع مهمات المشكلات المعقدة. 
كما سبق أن تورطت مركبات أوتوماتيكية في حوادث مميتة بسبب أخطاء في التصميم. لكن الجهود مستمرة لوضع إطار عمل شامل وواضح يتضمن التصميم الأخلاقي مثل ذلك المناهض للتمييز في موقف كالتوظيف، حيث يتخذ القرار وفقًا لبيانات المرشحين دون تحيز ضد نوع، أو عرق، أو إعاقة، أو غير ذلك، هذا إلى جانب تقديم خدمات الدعم، كما يحدث في مراكز الاتصالات الذكية للاستفسارات والبحث عن حلول للمشكلات؛ أو في مجال الإعلانات الرقمية حيث يجد المستهلك المعلومات الخاصة بمنتجات العلامات التجارية المتنوعة والخيارات المتاحة مع إمكانات التسوق والشراء المباشر دون وسيط، وبأقل قدر من الجهد، وخدمات التعليم عن بعد المتاحة للجميع، وخدمات الرعاية الصحية التي تعمل على تسهيل حياة المرضى والطواقم الطبية؛ ودعم المعاقين بأجهزة مساعدة ذكية. وتقليل أعباء الحياة اليومية في شتى المجالات بدءًا من توليد طاقة مستدامة حتى تحضير الوجبات بمساعدة شيف آلي يقرأ الوصفات وينفذها بالتعاون مع الإنسان، كل ذلك مع ضمانات تمكين من السيطرة على نظم هذا الذكاء بسرعة وكفاءة، لا سيما في حالات الطوارئ.

الموجة الثالثة
يمثل الذكاء الاصطناعي المتمحور حول الإنسان الموجة الثالثة من موجات الذكاء الاصطناعي. بعد موجتي الخمسينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، واللتان فشلتا في تلبية حاجات الإنسان كما ينبغي. وتواصل الجهات البحثية في هذه الموجة الجديدة - التي بدأت في السنوات الأولى من هذا القرن - سعيها للوصول إلى نماذج أعمال وتطبيقات متنوعة وذات قيمة حقيقية، ومداخل لتطوير لوغاريتمات -خطوات رياضية ومنطقية متسلسلة لحل المشكلات - لتعلم الآلة بصورة تقبل الشرح. 
فإذا تنبأ المشخص الطبي الذكي باحتمال الإصابة بالسرطان، في ضوء بيانات الشخص المقدمة، كمثال، فلا بد من دلائل تبرر هذا التنبؤ.  
ويرى المتخصصون أن هذا التطور يشبه ما حدث في عالم الحواسيب بين الثمانينيات ووقتنا الحالي، حيث الانتقال من التركيز على التكنولوجيا إلى التركيز على المستخدم، ومقابلة حاجاته وحل مشكلاته. 
على طريق البحث تتم الاستفادة من نظريات علوم الطب والاقتصاد والإنسانيات وسواها لمساعدة المستخدم على فهم المخرجات وتحسين كفاءة اتخاذ القرار، والتغلب على تحديات المضي لأبعد من مجرد تفاعل المستخدم مع الآلة لبلوغ التكامل في فريق متعاون، فالآلة تتعلم مع الوقت وتجلب المزيد من التعقيد لتصميم حلول الذكاء الاصطناعي المتعلق بالإنسان. ويقود هذا بطبيعة الحال إلى طرح قضايا جديدة كديناميكية التخصص الوظيفي وإسناد المهمات وتقسيمها بين الآلة والإنسان، وديناميكية وضع الأهداف، وتوزيع اتخاذ القرار بين الطرفين.

تقاطع العلوم بجامعة ستانفورد
تقدم جامعة ستانفورد أمثلة لتقاطع العلوم المختلفة مع الذكاء الاصطناعي، كتقاطعه مع علم الأعصاب ودمج دراسة ذكاء الآلة مع البحث لفهم ذات الإنسان. والعمل على توظيف أفكار الذكاء الاصطناعي لعمل نماذج شبكية عصبية تسمح بفهم دماغ الإنسان وسلوكه. واستخدام استبصارات علم الأعصاب العلوم المعرفية الإدراكية لتحسين قدرة الإنسان على حل مشكلات الذكاء الاصطناعي. 
في مختبرات العلوم السياسية يركز الباحثون على تعزيز التعاون والشراكات مع وكالات حكومية، بما فيها وكالة حماية البيئة الأمريكية، من أجل مناصرة إصدار قوانين بيئية، ويؤكدون وجود إمكانات كبيرة لدور الذكاء الاصطناعي في هذا المشروع للمساعدة في تعزيز الموارد، ويدعون المهندسين لفهم القدر الكافي من القوانين التي يمكن أن تؤثر على خياراتهم الهندسية، ويستخدمون هذا الذكاء في العمل البيئي والمناخي من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
من جانب آخر، تحاول الأقسام الطبية استخدام الذكاء الاصطناعي للتغلب على عدوى سوء الفهم والمعلومات المغلوطة حول الأمراض؛ وذلك باجتماع خبراء الذكاء الاصطناعي، وهناك خبراء آخرون من خلفيات متنوعة كعلم النفس، والتواصل الاجتماعي، وعلم الأمراض، والطب والتمريض لتقديم ذكاء اصطناعي يتمحور حول الإنسان بصورة صادقة، مع توقع توسيع مشاركة أشخاص يمثلون العالم الواقعي بكل فئاته.

تعزيز القدرات الفنية 
في مجال الفن يلعب هذا الذكاء الاصطناعي المعني بالبشر دورًا في حماية حياة الإنسان من خلال مساعدته على التعبير عن نفسه، والمرور بخبرة إنسانية مؤثرة قوامها التعبير الإبداعي، كما يسعى المتخصصون إلى الاستفادة من قدرة الذكاء الاصطناعي على تحسين إبداع الأشخاص عبر تحسين حركات أدوات كالقلم، والفرشاة، والآلة الموسيقية، حيث يمكن تخطي الطرق التقليدية لممارسة الفنون، كما يمكن إتاحة أنشطة كانت مقصورة على فئة دون غيرها، كتلك التي تتطلب قوة بدنية خاصة. 
ولابد أن يحمل مؤتمر بون للذكاء الاصطناعي المستدام المقرر عقده في 2023 الكثير من الجديد المذهل، بعد نسخته الأولى التي نظمها معمل بون للذكاء الاصطناعي المستدام بمعهد جامعة بون للعلم والأخلاقيات في 2021، وركز على خلق مجتمع من الباحثين في مجال هذا النوع من الذكاء ورفع الوعي به.  ومن المتوقع أن يركز المؤتمر القادم على المنظورات الثقافية المتقاطعة لمخاطبة التنوع البيولوجي والقضايا الأخلاقية ذات العلاقة على مستوى العالم،  والدعوة للاستفادة من الذكاء الاصطناعي في حل مشكلات كإدارة المخلفات وتحقيق العدالة البيئية والاجتماعية، وتعزيز الإنتاج الزراعي المستدام. 
وفي مجال المال والأعمال، يسهم هذا الذكاء في معالجة بيانات نوعية، ويحاكي حاجات المستهلك وطموحاته ودوافعه السلوكية في الأسواق. 
ويوفر خبرات شخصية متفردة قائمة على استراتيجيات أعمال واضحة واتخاذ قرارات ذكية معززة بتكنولوجيا محسنة للقدرات البشرية. وبالجمع بين دقة تعلم الآلة والمدخلات البشرية والقيم، يسمح هذا الذكاء للأعمال بالتوصل إلى حلول يأتي بعضها من تعاون الإنسان والآلة، كأن تتولى الآلة أمر العبء الحسابي الثقيل، بينما يخاطب الإنسان المدخلات العاطفــية والإدراكية.
ولابد أن يتعزز الشعور بالتفاؤل والتطلع إلى مستقبل أفضل مع تزايد المبادرات والمواقع التي توظف الذكاء الاصطناعي لخدمة الكوكب وتدعو إلى المشاركة في الأنشطة والدعم - مثل AI for Good - والتطبيقات الذكية المتعاونة مع الإنسان كتلك التي تمكن الفقراء من الحصول على رعاية صحية، وتقلل مستوى الجوع بتكنولوجيا تختار المحصول المناسب للأرض المناسبة، وتحمي الكائنات الحية، وتحقق العدالة بإتاحة المعرفة كالتطبيقات التي تحول النصوص المكتوبة إلى مسموعة، وتمنع الأخبار المزيفة من الانتشار، هذا إلى جانب ما نتمتع به حاليًا من تطبيقات تساعدنا على أداء الكثير من المهمات بصورة أسهل من أي وقت مضى ■