«الأسبوع» وكيف أصبح ينظم حياتنا؟

«الأسبوع»  وكيف أصبح ينظم حياتنا؟

تمامًا مثل السلم الموسيقي ودرجاته النغمية السبع: دو - ري - مي - فا - صول - لا - سي، التي تحدد إيقاع النغمات الموسيقية، كذلك هو الأسبوع وأيامه السبعة التي تحدد إيقاع حياتنا، فمن جميع جوانبها تنتظم حياتنا حول تصور زمني واضح لطالما شعرنا بأنه ثابت ثبات الجاذبية، ألا وهو الأسبوع الذي يتألف من سبعة أيام متتالية عادة ما تنقسم بين يومين للراحة والخمسة الباقية للعمل.

 

لكن الأسبوع، رغم ثباته التام، ليس سوى اختراع بشري، وهو متجذّر في حياتنا إلى درجة أنه يجعلنا منغمسين به، فنادرًا ما نتوقف لنتساءل حول ما إذا كان هذا الأسبوع الذي نعتمده في كل ترتيبات يومياتنا مصطنعًا أو مستمدًا من دورات الطبيعة حولنا، أو لماذا يتألف من سبعة أيام؟ وليس عشرة! مثلًا، كما كان عند المصريين القدامى أو كما بقي كذلك على مدى قرون في اليابان والصين وكوريا، أو ثمانية كما كان أيام الامبراطورية الرومانية، أو ما الذي يمثّله الأسبوع للعالم الحديث الذي نعيش فيه؟ ولماذا هو متجذّر بهذه القوة في حياتنا اليومية؟ 
بشكل عام يمكن تقسيم الوحدات الزمنية إلى فئتين، تضم الأولى الوحدات التي تقيس شيئًا موضوعيًا يمكن ملاحظته وعادةً ما يكون متعلقًا بحركة الأجسام الفلكية مثل اليوم والشهر والسنة، بحيث يساوي اليوم دورة كاملة للأرض حول محورها بينما يرتبط الشهر بأطوار القمر وتتألف السنة من 365 يومًا وهو الوقت الذي تستغرقه الأرض لتدور حول الشمس، بينما تضم الفئة الثانية تقسيمات زمنية عشوائية تمامًا لا معنى لها في الأساس تم إنشاؤها من مزيج من الخرافات والعلم الزائف والحاجة إلى مزيد من الدقة في التوقيت. 
وفي هذه الفئة الثانية يقع الأسبوع، أو«وحدة التقويم المتمردة»، كما وصفه المؤرخ «ديفيد هنكينز» في كتابه «الأسبوع: تاريخ الإيقاعات غير الطبيعية التي جعلتنا من نحن»، لتمرّده وتفلّته من كل ارتباط بدورات الطبيعة.

جذور الأسبوع التاريخية
 هكذا، بعيدًا عن الطبيعة، نجد جذور مفهوم الأسبوع، بالكامل، في التاريخ بحيث نشأ أول ما نشأ مع الحضارة البابلية حيث قام علماء الفلك البابليون بربط حركة القمر والأجسام السماوية بالوقت، لا سيما من أجل دوافع دينية، فعمدوا إلى إقامة طقوس دينية معيَّنة على مدار سبعة أيام حسب حركة الكواكب والأجرام السماوية، فأطلقوا على كل يوم اسمًا من أسماء الكواكب المعروفة لديهم فكان السبت يسمى زحل، والأحد الشمس، والإثنين القمر، والثلاثاء المريخ، والأربعاء عطارد، والخميس المشتري، والجمعة الزهرة. وهذا التقسيم البابلي هو الذي ورثه الرومان من البابليين، بحيث اعتمدوا التسميات نفسها المرتبطة بالكواكب والأفلاك على الرغم من أنهم لم يبدأوا في استخدامه حتى إنشاء التقويم اليولياني (وهو تقويم فرضه يوليوس قيصر عام 46 ق.م في القرن الأول قبل الميلاد). وحتى يومنا هذا لا تزال اللغة الإنجليزية ومعظم اللغات الهندية - الأوربية تستمد أسماء بعض الأيام، وإن لم يكن جميعها، من تسميات الكواكب والأفلاك التي اعتمدها الرومان والبابليون من قبلهم. 
أما فيما يختص بالحضارة العربية فلم يكن للعرب القدامى أسماء منفصلة لكل يوم لكنهم كانوا يقسمون أيام الشهر وفقا لمراحل القمر حسب مقدار الضوء الذي ينبعث منه، فكانوا يستخدمون كلمة واحدة لوصف كل ثلاثة أيام أو ليال. فعلى سبيل المثال كانت الأيام الثلاثة الأولى من الشهر تسمى «غُرر» وهي جمع «غــُـــرَّة» والتي بدورها تعني «بداية».  ثم في مرحلة لاحقة سار العرب على خطى الدول الأخرى واعتمدوا نظام الأيام السبعة من الأسبوع، ورغم ذلك، فقد اعتادوا أن تكون لديهم أسماؤهم الخاصة للأيام بحيث لم تكن أسماء الأيام في زمن الجاهلية كما نعرفها اليوم أي:  «السبت، الأحد، الإثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس والجمعة»، بل كانت لها أسماء أخرى، كل واحد منها له علاقة متينة بحالته ووضعه بشكل عام وكيف يراه ويعيشه الناس بشكل يتعدى مجرد ترتيبه العددي بين أيام الأسبوع. وكان الشاعر الجاهلي أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قد ذكر أيام الأسبوع بتسمياتها القديمة في بيتي الشعر التاليين:
أؤمّل أن أعيش وأنّ يومي
بأوّل أو بأَهْوَن أو جُبَار
أوالتإلي دُبَار أو فيومي
بمُؤْنِس أو عَرُوبَة أو شِيَار
فكان يوم الأحد «الأول» لأنه يفتتح أيام الأسبوع ويوم الإثنين «الأهون» أو «الأوهد» للدلالة على سهولة مروره، ويوم الثلاثاء «الجُبار» لأنه «جُبر فيه باقي أيام الأسبوع» وذلك لانتصافه ترتيب الأيام، ويوم الأربعاء «الدُبار» لأنه جاء بعد اليوم الذي تم من خلاله «جَبر» أيام الأسبوع، ويوم الخميس «المؤنس» لأنه اليوم الذي يأتي قبل نهاية الأسبوع والذي يميل فيه الناس إلى الاستمتاع ببعض الملذات والفرح، ويوم الجمعة «عروبة» وهو مُشتق من كلمة «الإعراب» بمعنى «الإفصاح»، ويرى عدد من المؤرخين، أنه كان قد تم اشتقاق اسمه من كلمة «العرب» وذلك تمجيدًا واحترامًا لهذا اليوم الذي لطالما كان يومًا له أهمية وقدسية كبيرة عند العرب، ويوم السبت «شِيار» وهي تسمية مستمدة من لفظ شرت أي بمعنى الشيء الذي تم أخذه من مكانه وإظهاره في مكان آخر.

الأداة الزمنية التنظيمية الأهم 
على الرغم من نشوئه المتجذّر في التاريخ، وعلى الرغم من أنه كان مهمًا بالنسبة للكثير من الحضارات المختلفة، إلا أن الناس في أجزاء كثيرة من العالم كانوا في غنى عن اعتماد الأسبوع كأداة تنظيمية في حياتهم أو عن أي دورات أخرى ذات مدّة مماثلة، حتى ما يقرب من 150 عامًا مضت. مع الوقت، وبفعل الفتوحات والتبادل التجاري والتفاعل الحضاري، وسع الأسبوع المكون من سبعة أيام من انتشاره الجغرافي واحتل مكان الأسبوع الذي كان يتكون من ثمانية أو عشرة أيام أو حتى خمسة أيام أو ستة في حضارات أخرى، وذلك لضرورة اعتماد وحدة زمنية ثابتة لتنسيق الأعمال والتجارة والتبادل الفكري والثقافي. لذلك نجد أنه في معظم اللغات في العالم باتت كلمة «أسبوع» مرادفة، أو مشتقة، من كلمة «سبعة» كما الحال في العربية وفي جميع اللغات التي استمدت التسمية من لفظ الأسبوع باللاتينية septimana، فكانت كلمة أسبوع تعني semaine  بالفرنسية وsettimana  بالإيطالية وsemana بالإسبانية وهكذا. ومما لا شك فيه أن قدوم الثورة الصناعية كان العامل الأهم في ترسيخ موقع الأسبوع كأداة تنظيمية مهمة في حياتنا، فمع زيادة التخصص والانتظام في العمل ساعد الأسبوع في الفصل بين أيام العمل وأيام الراحة ومع الوقت اكتسب كل يوم من الأيام أهمية بحد ذاته وأصبح أداة للمساعدة في تنظيم المهام المتكررة ووضع المخططات العملية وتنسيق الأعمال. ومع الزيادة السكانية وبفعل التحضر وانتقال المزيد من الأشخاص من القرى إلى المدن اتسعت دوائر المعارف وظهرت هناك حاجة إلى تنسيق الخطط الاجتماعية والتجارية حتى مع الغرباء، فازدادت أهمية الأسبوع كجدول يعكس ويعزز الطابع غير الشخصي للحياة الحضرية وكخريطة ذهنية زمنية تساعد على التنقل بنجاح في جميع المهمات المتنوعة. 
ظهرت الجداول في أماكن العمل وكذلك في المدارس وفي مجالات الترفيه والرياضة والطباعة، حتى في أمور التدبير المنزلي وغيرها، فمنذ القرن التاسع عشر بدأت المدارس في تخصيص تدريس المواد المختلفة على مدار أيام الأسبوع وتخطيط التعليم في الوحدات الأسبوعية وتكييفها مع إيقاعات دورة الأيام السبعة، وقد أوصى دليل للمعلمين نشر في ألمانيا عام 1860 بـ«أولًا: تكرار كل مادة على فترات زمنية معينة. 
ثانيًا: تحديد الطريقة التي يجب أن يتم بها تناول الأقسام المتعددة في الدروس المتتالية حسب أيام الأسبوع، وذلك لتجنب أسلوب التدريس العشوائي والمربك من جهة، أو إهمال أي مادة من المواد من جانب آخر». ومع ظهور الإذاعة والتلفزيون اتبعت البرامج جداول أسبوعية منتظمة وكذلك الألعاب الرياضية التي كانت أكثر ما تجري أيام العطل لتضمن حضور أكبر عدد من الجمهور. وفي المجال الثقافي، ظهرت المطبوعات والمجلات التي كانت تصدر بانتظام بشكل أسبوعي، وفي الولايات المتحدة بدأت الكتيّبات المنزلية في تحديد جداول أسبوعية لمهام التدبير المنزلي الأساسية، كان أشهرها الكتيب الذي وضعته المعلمة والناشطة الأمريكية «كاثرين بيتشر» في عام 1841 بعنوان: «أطروحة حول الاقتصاد المنزلي المتمحور حول استخدام السيدات الشابات في المنزل والمدرسة» والتي أوصت فيه بـ: الغسيل يوم الإثنين، وكي الملابس يوم الثلاثاء، والخبز يوم الأربعاء.

 الأسبوع والوعي ودليلنا على التحضّر
هكذا دخل الأسبوع في الوعي العام وأصبح، حسب عالم الاجتماع الروسي بيتريم سوركين «إحدى أهم النقاط التي توجهنا في الوقت والواقع الاجتماعي». وقد ترسّخ أكثر فأكثر وأخذ يدخل في تجاربنا وافتراضاتنا المسبقة، حيث إنه في الغرب، وفي كثير من بلدان العالم التي يكون فيها يوم الإثنين هو أول أيام العمل، هناك الكثير من المشاعر السلبية التي باتت تترافق مع هذا اليوم بحيث تشير الإحصاءات إلى أن حالات الانتحار والوفيات بالسكتات القلبية عادة ما تزداد يوم الإثنين. وفي مجال آخر، كانت الروائية البريطانية شارلوت برونتي قد وصفت يوم الإثنين باليوم الذي لا يصلح لشيء إلا «لإضفاء الكآبة على أسبوع سعيد»، وفي فرنسا غالبًا ما يشار إلى السيارات سيئة الصنع باسم «منتجات يوم الإثنين» بينما يرتبط يوم الثلاثاء بالإجمال بالملل. أما في العالم العربي فيعتبر يوم الخميس يومًا سعيدًا مبشرًا بقدوم يومي العطلة. ومن الدلائل على هيمنة مفهوم الأسبوع على إحساسنا بالوقت، أن الالتزام بدورة الأيام السبعة بات يعتبر جزءًا لا يتجزأ من جهود الناس للبقاء متحضّرين، وربما أكثر ما يعبّر عن ذلك ما يقوله البحار روبنسون كروزو في رواية «روبنسون كروزو» لدانييل ديفو، التي أول ما نشرت عام  1719 عندما كان منعزلًا على إحدى الجزر لمدة طويلة دون أن يقابل أحد من البشر حيث إن من بين الأمور التي كانت تثير القلق بالنسبة له الخوف من فقدانه الإحساس بالوقت، وبالتحديد معرفة توالي الأيام، وهو يقول: «بعد أن أمضيت هناك - على الجزيرة - مدة 10 أو اثني عشر يومًا شعرت بالخوف من أن أفقد حساب الوقت بسبب نقص الكتب والأقلام والحبر ومن أن أخلط بين أيام العطلة وأيام العمل، ولمنع ذلك قمت بحفر شق بسكيني على عمود كبير لكل يوم من الأيام السبعة». وليس مجرد صدفة أنه بعد فترة طويلة من العزلة عندما قابل روبنسون كروزو إنسانًا آخرًا أطلق عليه اسم يوم «الجمعة».
ولمدة طويلة من الزمن بقي مفهوم الأسبوع يستجيب بشكل أساسي وثابت لإيقاع العمل وأنشطة الأسواق في البيع والشراء وسبل الترفيه والاسترخاء، والتي بدورها كانت تستجيب للتقدم التكنولوجي، لكن مع دخول الإنترنت حصلت ثورة في كل هذه الأمور، فأصبح بإمكان الأشخاص العمل والدراسة عن بعد والمشاركة في التجارة الإلكترونية ومشاهدة البث المباشر لمختلف الأمور والتواصل مع الأصدقاء وقتما يشاؤون. 

حاجة نفسية وغريزية
في كثير من الأمور تم الابتعاد عن بعض الأعراف الاجتماعية والعملية القديمة، لكن الناس بقوا متمسّكين بمفهوم الأسبوع كأداة مهمة لتنظيم أنشطتهم المتنوعة، ولا يمكن تفسير ذلك إلا من خلال الحاجة الغريزية لإدارة الوقت من الناحية النفسية. وقد قدمت أزمة جائحة كورونا الحالية اختبارًا عفويًا في الحياة الواقعية لاستكشاف الجذور النفسية لمفهوم الأسبوع في حياتنا، حيث إنه في ظل غياب دوافع الذهاب إلى العمل أو الترفيه أو المشاركة في المناسبات الاجتماعية شعر الكثير من الأشخاص بالضياع وعدم الارتباط، ليس فقط بالوقت، لكن أيضًا بالارتباط والقدرة على التواصل مع أنفسهم أيضًا. أفاد الناس بأنهم شعروا بالذهول لأنهم لم يعودوا يعرفون ما إذا كان اليوم هو الثلاثاء أو الأربعاء، مثلًا، وكان الشعور بالصدمة أعمق من فقدان بعض التواريخ المهمة. باختصار ساهم فقدان السيطرة على الأسبوع في بروز شبح الخوف من فقدان الذاكرة وفقدان الوقت أيضًا.
في النهاية، يمكننا القول إن الأسبوع كأداة مهمة لتنظيم الوقت ليس سوى بناء عاطفي نحتاجه لتوجيه أنفسنا عبر المهمات المختلفة في حياتنا ولتجنب الفوضى في العديد من الوظائف والاحتياجات المتشابكة.  تدور العجلة ذات السبعة أيام بدقة خاصة لتنظيم الأعمال والأمور الحياتية لكننا ندور معها أيضًا، ويفرض الدافع البشري لرواية القصص قوسًا سرديًا له بداية ومنتصف ونهاية، وفي بنية الأسبوع هناك دائمًا بداية جديدة في الأفق ■