زفة الكيذا فن المرأة العمانية

زفة الكيذا فن المرأة العمانية

 تُعبر الفنون التراثية عن ثقافة المجتمعات البشرية في جميع أنحاء العالم. وتتمتع دول الخليج العربية بخصائص ثقافية وتراثية تجعلها تشترك في الأسس الحضارية والتاريخية، مع اختلاف التفاصيل والرؤى الاجتماعية التي تميز كل دولة على حدة. تعد سلطنة عمان إحدى الدول الثرية بمفردات التراث الشعبي الناتج عن تباين البيئة الجغرافية في محافظات وولايات سلطنة عمان. 

 

هذا التنوع أوجد نوعًا من الثراء والتناغم الجمالي والحضاري حيث تتصف الولايات البحرية بفنون شعبية مختلفة عن المناطق الخضراء البعيدة عن السواحل. وتتميز المناطق البدوية عن الحضرية، بأن مركز الولاية (الحضرية) عبارة عن خليط من السكان يتسمون بتقبل الآخر نتيجة الهجرات بدافع العمل أو الاستقرار، لذلك نجد أن هذه الفنون تتسم برؤى تراثية ولغوية فريدة نتيجة تلون ألسنة البشر القاطنين فيها، أما المناطق البدوية فإن لها أنماطًا وأشكالًا غنائية تراثية تتناسب مع حياة البادية والصحراء.

فن تراثي نسوي
تُعد شجرة (الكيذا) من الأشجار النادرة التي تنمو في الريف العماني، والتي ظلت مصدرًا ملهمًا للكثير من الفنون التقليدية المرتبطة بالمناسبات الاجتماعية. وتبحث هذه الدراسة في طبيعة العلاقة الرمزية بين هذه الشجرة العطرية التراثية والفنون المتصلة بها. حيث ظل المجتمع العماني الزراعي يحتفل بها كرمز من رموز الخصوبة والجمال، ونسجت حولها القصص والأساطير والطقوس القديمة. 
ويعبر فن (زفة الكيذا) عن روح الأنثى ونضالها وعطائها كونها رمزًا للخصوبة كما هي الحال في التراث الفرعوني والروماني وغيرها من الحضارات الإنسانية التي عاشت على ضفاف الأنهار ومارست فيها مهنة الزراعة كمصدر للعيش والنماء. 
وانعكس التنوع الجغرافي لسلطنة عمان على الفنون الشعبية برؤى جمالية متعددة، فهناك الأهازيج التي تؤدى على السواحل حيث البحر والصيد والسفر والربان وطيور النورس والسهول والجبال و الصحراء، هذا التنوع الفريد جعل منها قبلة للسائحين، والباحثين في مجالات أنثروبولوجيا الفنون المتصلة بالإنسان العماني.

شجرة (الكيذا)
عرف العمانيون الأوائل هذه الشجرة العطرية منذ القدم، والتي تنمو في محافظتي الباطنة والداخلية من سلطنة عمان. ويقوم المزارعون باقتلاع شتلة (الكيذا) عن شجرة الأم تمهيدًا لبيعها وزراعتها في حقول أخرى. 
ونظرًا لأهمية شجرة الكيذا العلاجية والعطرية فقد احتفى بها الأهالي، وأقاموا لها طقوسًا راقصة وغنائية تؤديها النساء والفتيات فقط. وهناك ارتباط رمزي بين الفتيات والنسوة وشجرة الكيذا، حيث يعتبرها البعض من فصيلة (الأنثى) حيث نجدها تنبت حولها شجيرات صغيرة، وهي تتشابه في ذلك مع شجرة النخيل عندما تنمو حولها شجيرات صغرى (الفسائل) وتكون ملتصقة بالشجرة الأم.
وهناك فوائد عديدة لشجرة الكيذا حيث يستفيد البعض من ثمارها، وكما تستخدم كعلاج لبعض الأمراض الجلدية. أما النساء فإنهن يستخدمنها للعناية بالبشرة والشعر عندما تضعه النساء في فروة الرأس والشعر. ولهذه الشجرة رائحة عطرية نفاذة تستخدمها النساء عند التحضير للأعراس والأفراح، كما تصنع منها العطور ذات الرائحة الشذية. 

حكاية غرس «شجرة الكيذا» 
يسود اعتقاد قديم أن شجرة (الكيذا) تشيع السعادة والتفاؤل في المكان الذي تزرع فيه، وينسحب ذلك على المرأة في المجتمعات الريفية والتي تعتبر رمزًا للخصوبة والنماء والتكاثر، لذا اقترنت بالمرأة في الريف، وحسب المعتقد فإن هذه الشجرة لا تنمو إلا إذا قامت الفتيات - غير المتزوجات - بزراعتها. وتطور ذلك الاعتقاد إلى مراسم الاحتفال وتقديم الطقوس التراثية الغنائية التي تؤديها النساء؛ احتفاء بهذه الشجرة وظلت الأجيال تتوارثها ويحتفل الناس بعملية الغرس التي سنتحدث عنها لاحقًا. وتحتاج لعام كامل حتى تنمو وتزهر في منتصف الشهر الهجري؛ بالتحديد عندما يكتمل القمر ويصبح بدرًا، فإن زهرة (الكيذا) تفوح بشذى عطري ينتشر في أرجاء المكان. 

طقوس (زفة الكيذا)
إن علاقة الإنسان العماني بشجرة الكيذا ارتبطت بحياة الفلاحين الاجتماعية منذ القدم، وساكني الأرياف خاصة النساء انطلاقًا من كون المرأة (الأنثى) المستفيد الأول من هذه الشجرة العطرية الفواحة، التي يستخرج من أوراقها وزهورها مادة عطرية تدهنها النسوة على شعرهن وأجسادهن كنوع من الزينة. 
ومن منطلق ذلك نشأ فن «زفة الكيذا» الاحتفالي الذي تحييه النساء في الليالي القمرية في الشهر الهجري. وتقوم الفتيات بالتحلّق حول شجرة (الكيذا) الصغيرة، استعدادًا لغرسها وسط أجواء بهيجة ممزوجة برائحة العود والبخور. وتوزع مهام الاحتفال بالعروس (شتلة الكيذا) بين النسوة المشاركات، فهناك من تحمل مقتنيات العروس (أدوات التجميل) كدهان العنبرية والعطور والحناء، وهناك من تحمل الشال الأخضر الذي ستغطى به لاحقًا شتلة الكيذا قبيل غرسها. 
ويسير موكب الفتيات - غير المتزوجات - بألق جمالي غنائي راقص رشيق، برفقة ضاربي الطبول في الخلف من الرجال حتى يصلوا إلى موقع الغرس. تقوم الفتيات بغرس شتلة الكيذا وهن يتراقصن ويرددن الأغاني والأهازيج الخاصة بهذا الفن.
وعند وصول الموكب الغنائي إلى موضع غرس الشتلة تبدأ مراسم الاحتفال، ثم تقوم الفتيات بتزيين هذه الشجرة بدهان عطري ورش العطور عليها، كما تخضب النساء أطراف الكيذا بالحناء كما هي الحال لدى العروس ليلة زفافها.
ويستمر الجميع في الغناء والابتهاج والأداء الراقص التقليدي الخاص بـ(زفة الكيذا) وسط التصفيق والغناء، وتغطي الفتيات الشتلة بالشال الأخضر الجميل، ثم تتقدم فتيات أربع لتزف الشتلة إلى مكان غرسها، وتحيط بهن النساء الأخريات وهن يرتدين الملابس الجديدة الزاهية.
وفي المرحلة الأخيرة تقوم النساء بنثر الورد والريحان على الشتلة، وبعد الغرس تسقى شتلة الكيذا بالماء مع التهليل والزغاريد والأجواء الاحتفالية الراقصة... وأخيرًا يزال الشال الأخضر لتظهر نبتة الكيذا، إيذانًا ببداية الحياة لدى شجرة الكيذا الجديدة. 
ويستمر الطقس الاحتفالي وسط الأجواء الراقصة والغناء والفرح. وتحمل بعض النساء (الخراخيش) التي تصدر ألحانًا راقصة على الإيقاعات التراثية. وترصد كتب التراث الشعبي العماني بعض المقاطع الغنائية التي ترددها النساء أثناء الاحتفال بزفة الكيذا، وسط تلاحم جمالي وغنائي شعبي أصيل. ومن هذه الأبيات الغنائية الشائعة:
يو دان دان... يو داني يو الكيذا... يالله يو عين
يو دان دان... يو داني يو الكيذا... يالله يو عين
وعبارة «دان دان» من الكلمات الشائعة في الفنون العمانية التقليدية وكذلك دول الخليج العربي. وفي سلطنة عمان تتكرر كلمتا (الدان دان) في الفنون التقليدية الخاصة بالمرأة تحديدًا، وهذا ما يبرر وجودها في الطقس الاحتفالي لزفة شجرة الكيذا.
«هبت هبوب الغريبي وقلتلها زيدي
يا مصفية عيش زبدة وبر لوليدي
يو الكيذا يالله يا عين
يتضح من المقطع الغنائي السالف الذكر ارتباط الإنسان القديم بقوى وعناصر الطبيعة في البيئة التي يعيش فيها المزارعون. ويؤكد ذلك ذكر كلمات، مثل: الشجر، والهبوب: الرياح، الليل، الغذاء (عيش وزبدة)... فضلًا عن ذلك فإننا نستشعر من مقطع: 
«هبت هبوب الضحى وزاد الوجع فيي
وأصبحت من الليل لا ميت ولا حيي»
يحمل المقطع أعلاه دلالة رمزية لطبيعة العلاقة بين شجرة الكيذا ومعاناة المرأة سواء أكانت زوجة أم حبيبة أثناء مشاركتها في الاحتفال بزفة الكيذا.
«وايه على من قتلني وما يخاف الله... حدشي في قلبه رحم يقول: هل ها لله... يو الكيذا يا الله يو عين»
يعكس المقطع الشعري التراثي أعلاه الحالة النفسية التي تعيشها (المرأة) التي تفجع برحيل الحبيب، دون الاكتراث لمشاعرها ووجعها...وينتهي المقطع بقول: «يو الكيذا يا الله يو عين»، لعل وعسى الحبيب يلتفت إليها، وتثمر وتخضرّ أوراقها وتزهر. 
 ويختتم «الغناء» بالتأكيد على أجواء الاحتفالية وانسجامها مع الطبيعة باعتبارها ملهمة للجميع، وتقديم طقس احتفالي يتلاءم مع جمال الطبيعة وحقولها الخضراء: «قدام بيتكم فلج يسقى البساتين، يسقى السفرجل ويسقى الموز والتيني... يو الكيذا يا الله يو عين».
 بشكل عام، فإن المجتمعات الزراعية عادة ما تحتفل بليالي الحصاد ودخول الربيع. وبعض المناسبات الاجتماعية تقترن بنضال الإنسان ورغبته في البقاء وتأمين الغذاء والتكاثر والخصوبة. ويمكن اعتبار «المرأة» عنصرًا مهمًا في حياة أهل الريف، كونها السند التي تقف إلى جانب الرجل، بالإضافة إلى رعايتها أسرتها وتربية الأبناء.
ختامًا، الجدير بالذكر أن فن «زفة الكيذا» يؤدى في الولايات العمانية التي تمتهن حرفة الزراعة بالحقول الخضراء اليانعة بأشجار النخيل والليمون وغيرها. ويحتفي بهذا الفن الأهالي كطقس غنائي، نسائي، تمارسه المرأة وتتراقص على ألحانه وإيقاعاته التراثية، إضافة إلى اقترانه بصناعة العطور المستخرجة من زهرة الكيذا. وتطورت هذه الصناعة في عصرنا الحالي، حيث تتوفر أنواع كثيرة من العطور المستخلصة من هذه الزهرة. 
فضلًا عن ذلك، ألهمت شجرة (الكيذا) وطقوسها الاحتفالية المؤلفين من كتاب الدراما والعروض البصرية والغنائية لتقديم أعمال مستوحاة من مراسم الاحتفال بهذا الفن العماني التقليدي، ومن الأعمال التي أنتجتها وزارة الإعلام السهرة التلفزيونية (الكيذا) وهي تتحدث عن قصة امرأة تعاني الظلم الاجتماعي، مع استغلال المقطوعات التراثية لفن (زفة الكيذا) كمؤثرات موسيقية لأحداث السهرة ■