الصابئة من هم .. وما هي جذورهم؟

لعب الصابئة دورا هاما في الحركة العلمية الهائلة التي شهدها العصر العباسي فنبغوا في الطب والهندسة وعلم الفلك وغيرها من العلوم.. فمن هم الصابئة وما هي جذورهم وهل لهم دين.. أم أن دينهم هو الخروج عن كل دين؟..

الصابئة جمع الصابئ. ومعناه في اللغة: الذي خرج من دين إلى دين. وكانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم صابئا لأنه خرج عن دين آبائه. وقد عرف الصابئة بهذا الاسم لأنهم خرجوا عن الديانات السماوية وسنوا لأنفسهم شرائع خاصة بهم. وينقسم الصابئة إلى قسمين: المندائية والحرنانية. فدين المندائية مزيج من اليهودية والنصرانية. وهم الذين عناهم الجوهري بقوله: "هم جنس من أهل الكتاب". وعناهم الأزهري بقوله: "قوم يشبه دينهم دين النصارى".

وقد ذكرهم القرآن الكريم ثلاث مرات:- فقال تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. (البقرة 62)

- وقال تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. (المائدة 69).

- وقال عز وجل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة. (الحج 17)

ففي كل هذه الآيات يذكر القرآن الكريم هذه الطائفة من الصابئة إلى جانب أهل الكتاب من المسلمين واليهود والنصارى. وقد تحدث عنهم الشهرستاني ببعض التفصيل.

ولم يكن للصابئة المندائية فيما يبدو شأن كبير في تاريخ العلوم والآداب، وإنما الشأن في ذلك "للصابئة الحرنانية". وهم الذين عنيناهم في بداية هذه المقدمة.

من أين جاءوا؟

وينسب هؤلاء إلى حران، وهي مدينة قديمة جدا تقع بين دجلة والفرات وهؤلاء "قوم معروفون بعبادة الكواكب، يجرون في ذلك مجرى عبدة الأوثان".

وهم يؤمنون بوجود خالق لهذا العالم، ولكن الوصول إليه- في زعمهم- لا يتم إلا عن طريق الروحانيات، ولا يؤمنون بالبعث والنشور كما جاء في الديانات السماوية، بل يدعون أن القوة المسخرة لهذا الكون تخلق على رأس كل حقبة من الدهر زوجين من المخلوقات، بشرا وحيوانا ونباتا. وقدروا هذه الحقبة كما جاء في "الملل والنحل" "بثلاثين ألف سنة وأربعمائة وخمس وعشرين سنة". فإذا انقضت هذه المدة، انقرضت هذه المخلوقات جميعا، وحلت محلها مخلوقات أخرى تعمر الأرض حقبة مماثلة، فإذا انتهت هذه الحقبة، انقضى أجلها، وحان حينها. وهذه هي القيامة عندهم "وإلا فلا دار سوى هذه الدار".

وقد دفعهم هذا الاعتقاد إلى الإيمان بتناسخ الأرواح، إذ باتوا يؤمنون بأن الأرواح التي عاشت في الحقب السالفة تعود لتحيا من جديد في مخلوقات أخرى، وأن ما هم فيه من سعادة أو شقاء إنما هو نتيجة لما سلف من أعمارهم في تلك الحقب: فالأرواح التي عرف أصحابها الشر تعود إلينا - في اعتقادهم - لتعذبنا وتتعذب معنا. وكذلك تعود الأرواح الخيرة لتعيش في أصحابها في سعادة ونعيم.

ويلتقي الصابئة الحرنانيون في بعض معتقداتهم مع المسلمين: فهم يغتسلون من الجنابة، ويحرمون على أنفسهم أكل الخنزير والكلب، ولا يتزوجون إلا بولي، ولا يجيزون الطلاق إلا بحكم حاكم.

ومن معتقداتهم أيضا: الغسل من مس الميت، وتحريم أكل الجزور والحمام وكل ما له مخلب من الطير. وأمروا بثلاث صلوات في اليوم، ونهوا عن السكر في الشراب، وعن الاختتان، وحرموا الجمع بين الزوجين.

الصابئة والخليفة المأمون

ولم يسم أصحاب هذه النحلة بالصابئة إلا في القرن الثالث الهجري وسبب هذه التسمية أن الخليفة المأمون مر ببلادهم سنة (215 ه/ 830 م) في طريقه إلى بلاد الروم، فتلقاه الناس وفيهم الصابئة، وكانوا يرسلون شعورهم ويلبسون الأقبية، فأنكر المأمون زيهم وسألهم عن دينهم، فاضطربوا في الجواب فاتهمهم المأمون بالزندقة وعبادة الأوثان، وهددهم بالقتل إن لم ينتحلوا الإسلام أو دينا من الأديان التي ذكرها الله في القرآن، فتنصرت طائفة كبيرة منهم، وهادت أخرى. وبقي بعضهم متشبثا بديانته وأشفقوا أن يخرجوا منها. فلما اشتد الأمر على هؤلاء، التجأوا إلى أحد فقهائهم ودهاتهم يستفتونه، فأفتى عليهم بأن يتسموا بالصابئة لأنها من الأديان التي وردت في القرآن الكريم، ففعلوا ذلك، وحلقوا شعورهم، وغيروا أزياءهم. وبذلك سلموا بديانتهم.

وقد نبغ من هؤلاء الصابئة أسرتان هما آل زهرون وآل قرة، فانحدر منهما أكبر علماء الصابئة في العصر العباسي. وكانت الأسرتان معا تعيشان في مدينة حران قبل انتقالهما إلى بغداد واستقرارهما بها. وسبب نزوحهم عن حران هو أن ثابت بن قرة (221 - 288 ه/ 836 - 901 م) - وكان من أكبر علماء الصابئة ومتفلسفتهم - خالف أهل نحلته فضايقوه ومنعوه من ولوج هيكلهم فرحل عن حران إلى بغداد. وكان ثابت فيلسوفا وطبيبا ورياضيا ومنجما كبيرا فبلغت سمعته الخليفة المعتضد، فدعاه إلى قصره وضمه إلى منجميه، فلم يلبث ثابت أن تفوق عليهم جميعا، فعلا نجمه، وحظي بمكانة كبيرة لدى المعتضد، فرفعه إلى أجل المراتب وأعلى المنازل حتى كان يجلس بحضرته في كل وقت ويحادثه طويلا ويضاحكه ويقبل عليه دون سائر وزرائه وخاصته". وقد استغل ثابت هذه الخطوة فثبت مذهب الصابئة في بغداد، فاستقرت أحوالهم بها "وعلت مرتبهم وبرعوا" واستخدمهم الخلفاء والأمراء، وأصبحوا من وجهاء القوم وعليتهم بالعراق.

وقد ظل الصابئة - على الرغم من هذه المكانة الرفيعة التي نالوها في المجتمع العباسي - متشبثين بديانتهم. ومما يدل على ذلك أن الملك البويهي عز الدولة (توفي سنة 368 ه/ 978 م) اقترح على رئيس ديوان إنشائه، أبي إسحاق الصابي منصب الوزارة بشرط أن يسلم، فاعتذر عن ذلك مؤثرا البقاء على ديانته. كما أن الخليفة القاهر بالله (توفي 339 ه- 950 م) أراد إدخال طبيبه، سنان بن ثابت في الإسلام فامتنع في أول الأمر "امتناعا كبيرا".

ولئن أسلم بعض آل قرة فقد ظل آل زهرون على صابئيتهم إلى أن أسلم هلال بن المحسن (مؤلف "غرر البلاغة") (403 ه/ 1021 م). ويعتبر إسلامه أكبر حادث في تاريخ هذه الأسرة.

وقد كان الصابئة- ولا سيما آل زهرون- شيعة. وقد ربطتهم بالنقباء العلويين في بغداد روابط متينة سواء قبل أن يسلموا أم بعد إسلامهم. فكان أبو إسحاق الصابي صديقا حميما للشريف الرضي.

وكان ابنه هلال صديقا للشريف المرتضى. ولما صح عزم هلال على الدخول في الإسلام قصد مشهد الإمام موسى الكاظم ليؤدي فيه أول صلاة له في الإسلام. وبعدما توفي ابنه غرس النعمة دفن في داره ثم نقل جثمانه إلى مشهد علي بن أبي طالب.

الصابئة والنبوغ العلمي

وقد عاش الصابئة متحابين متحدين فيما بينهم، يسند بعضهم بعضا. ومن أمثلة ذلك أن أبا إسحاق الصابي اجتهد في تثقيف حفيده هلال وتأديبه تأديبا حسنا حتى يتسنى له أن يخلفه في رئاسة ديوان الإنشاء، واعتنى هلال هذا بدوره بتربية ابنه غرس النعمة وتثقيفه ثقافة رفيعة، ولم يكتف بذلك فجمع له ثروة هائلة ضمنت له العيش السعيد، وأغنته عن التزلف لذوي الجاه والسلطان.

ومما تميز به هؤلاء الصابئة أيضا تمسكهم بالأخلاق الحسنة الفاضلة. وقد سجل لهم التاريخ سلوكهم الحسن، ومعاملتهم الطيبة لجميع الناس- مسلمين وغير مسلمين- وحسن عشرتهم لأصدقائهم ووفاءهم لهم. وإذا ما رجعنا إلى الكتب التي ترجمت لهم، وجدنا مؤلفيها يجمعون على الثناء عليهم، ويذكرونهم بهذه الخصال الحسنة.

على أن أكبر ميزة تميز بها هؤلاء الصابئة هي نبوغهم العلمي. فليس في شجرتي نسب هاتين الأسرتين- آل زهرون وآل قرة- إلا العلماء الفطاحل، والأدباء المرموقون الذين كان لهم وزن في عصرهم. ونتبين ذلك بذكر نبذة يسيرة عن بعض أعلامهم، فمنهم:

- إبراهيم بن زهرون: وهو فيلسوف ومنطقي، وكان أيضا، "طبيبا مشهورا وافر العلم في صناعة الطب". (توفي سنة 309 ه، 916 م).

وكان ابنه ثابت بن إبراهيم، طبيبا فاضلا كثير الدراية وافر العلم، بارعا في الصناعة، موفقا في المعالجة، مطلعا على أسرار الطب بل اعتبره بعضهم "أوحد زمانه في الطب". ولذلك تنافس فيه الخلفاء والأمراء. وكان أشدهم تمسكا به وإكبارا له، الأمير البويهي عز الدولة. وسبب ذلك- كما روى القفطي عن حفيده هلال بن المحسن الصابي- أن الوزير ابن بقية هجمت عليه علة شديدة أيام وزارته لعز الدولة، ففصد منها فأمسى ذاهب العقل لا يسيغ طعاما ولا شرابا ولا يحير جوابا، فجمع عز الدولة أطباء العراق فعجزوا عن معالجته، وداواه ثابت بن إبراهيم، فخلع عليه عز الدولة وأعطاه مالا جزيلا، وكذلك فعل ابن بقية. ولما قدم عضد الدولة إلى بغداد سأل عن "أحذق طبيب" فيها فدلوه على ثابت بن إبراهيم. (توفي سنة 369 ه/ 997 م).

ومن علماء الصابئة ونبغائهم:

- ثابت بن قرة: (221- 288 ه/ 836- 901 م) وهو أول من انتقل من حران إلى بغداد كما رأينا، ويعتبر ثابت أحد الوجوه البارزة بين العلماء الذين عملوا على تقدم العلوم العربية في القرن الثالث الهجري. ويذهب ابن أبي أصيبعة إلى أنه "لم يكن في زمن ثابت بن قرة من يماثله في صناعة الطب ولا في غيره من جميع أجزاء الفلسفة". وكان أيضا رياضيا وفلكيا وعالما بالأنواء. وقد ألف في كل تلك العلوم المؤلفات الكثيرة القيمة وذكر الزركلي أنه "صنف نحو 150 كتابا".

- وقد ورث سنان بن ثابت بن قرة بعض علم أبيه وزاد عليه فكان طبيبا مقدما وكانت منزلته كبيرة عند الخلفاء والأمراء. فقد قربه الخليفة المقتدر (توفي سنة 320 ه/ 932 م) إليه لما بلغه من علمه وفضله، وجعله طبيبه الشخصي، وعينه رئيس الأطباء في بغداد وأمر بألا يمارس أحد مهنة الطب إلا بعد أن يمتحنه سنان ويأذن له في مزاولتها. (توفي سنة 339 ه/ 950 م).

- وازدادت مكانة سنان رفعة مع القاهر "ولكثرة اغتباط القاهر به أراده على الإسلام". فامتنع في أول الأمر امتناعا شديدا ثم أسلم خوفا من بطش القاهر.

وكان سنان - إلى جانب نبوغه في الطب- "قويا في علم الهيئة" وله رسالة في النجوم.- (توفي سنان سنة 331 ه/ 943 م).

- وقد سار ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة سيرة أبيه وجده "فكان طبيبا فاضلا يلحق بأبيه في صناعة الطب". وهو الذي خلف أباه في رئاسة مستشفيات بغداد في وقته، كما خلفه في خدمة البلاط العباسي، فكان طبيبا لأربعة خلفاء هم: الراضي (ت 329 ه/ 940 م) والمتقي (357 ه/ 968 م) والمستكفي (ت 338 ه/ 949 م) والمطيع (ت 364 ه/ 974 م).

وكان ثابت إلى جانب اهتمامه بالطب ولوعا بالتاريخ، مهتما به اهتماما بالغا حتى اعتبر من أكبر مؤرخي القرن الرابع الهجري. (توفي ثابت بن سنان سنة 365 ه/ 976 م).

- وأخيرا نذكر إبراهيم بن سنان بن ثابت بن قرة: كان رياضيا وفيلسوفا وطبيبا "فاضلا في الصناعة الطبية". وله مؤلفات في الفلسفة والطب والرياضيات (توفي سنة 335 ه/946 م).

وعلى هذا النحو يتبين لنا أن الصابئة كانوا من أكبر العلماء في عصرهم. وكان اهتمامهم منصبا- بصفة خاصة- على العلوم ولا سيما الطب وعلم الفلك. ثم عدل المتأخرون منهم عن العلوم واهتموا بالأدب والتاريخ، وألفوا فيهما فنبغوا نبوغ أسلافهم في الطب. ومن أشهر أدبائهم وكتابهم: أبو إسحاق إبراهيم بن هلال (313- 384 ه/ 925- 994 م)، وحفيده هلال بن المحسن (359- 948 ه/ 978- 1056 م). وابن حفيده محمد بن هلال، غرس النعمة، (416- 480/ 1026- 1088 م) وقد لعب هؤلاء الصابئة جميعا- علماء وأدباء- دورا عظيما في تطوير الحركة العلمية والأدبية في العصر العباسي، وساهموا فيها بما ألفوه من مصنفات قيمة في مختلف العلوم والآداب، مساهمة وفيرة ولذلك كانوا جديرين بالدرس والعناية.