«ألف نافذة لغرفة واحدة... رحلة بين الطبيعة والطبائع» ما الذي يجذب الإنسان بعيدًا عن الغابة؟

«ألف نافذة لغرفة واحدة... رحلة بين الطبيعة والطبائع» ما الذي يجذب الإنسان بعيدًا عن الغابة؟

المسافر الواعي لا تشغله المتعة العابرة، ولا يقيم حوله، وهو في غربته الطارئة أو المؤقتة، شرنقة من الخوف والتردد والتبلد والاستغناء الزائف، إنما يجدها فرصة للتأمل والفهم، وهو يعاين الأماكن التي تمضي فيها حياة مَن سافر إليهم، ليلتقط في ذكاء تأثيرها عليهم، ومن يفعل هذا سيكتشف، دون عناء، أن هموم الناس متشابهة، بغض النظر عن التفاوت في الفقر والغنى، والقهر والحرية، والألوان والأعراق، فالإنسان هو الإنسان.

 

هذا ما يقوله د. عمار علي حسن في كتابه «ألف نافذة لغرفة واحدة... رحلة بين الطبيعة والطبائع» الحائز على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة فرع الرحلة المعاصرة 2022، الصادر عن دار السويدي للنشر والتوزيع بالتعاون مع المؤسسة العربية للدراسات والنشر. 
من خلال الوجوه التي تتجمع في المطارات، يقول الكاتب: يمكننا معرفة من يسعى وراء معرفة، ومَن يهرب من واقع مرير، ذاكرًا أنه واحد من هؤلاء الذين يسافرون وراء المعرفة، مع وجود أسباب أخرى لديه للسفر، مؤكدًا أنه ما إن تحط قدماه بمطار غريب حتى يشعر بألفة عجيبة، قائلًا لنفسه دومًا إنها أرض الله التي أورثها للناس.                                                                             من رحلاته يرى عمار علي حسن أن العلم ليس فقط في بطون الكتب، وإنما أيضًا يقيم فوق جبين الناس وفي عيونهم، يتهادى في سكناتهم وحركاتهم، الموزعة على تجارب متعددة، يحملونها فوق ظهورهم. وما يلفت نظر الكاتب في سفرياته هو ما يفعله الإنسان من أجل تحسين شروط الحياة، وكيف أن أي فرد سيجد نفسه أقرب إلى الآخرين من حبل الوريد إذا تجرد من كل الدعايات والشكايات والتدابير المغرضة، والأهواء النفسية والمنافع الاقتصادية والمصالح السياسية، وكل ما يقيم بين الناس حواجز مانعة وسدودًا صماء، تجعل كلًّا منهم يعطي ظهره للآخر، ويصم عنه أذنيه، ويغمض عينيه كي لا يراه.
ثمة شيء آخر يؤكده الكاتب وهو أن السفر ليس نزهة مشتاق فحسب، بل وسيلة للوقوف على أشواق الناس في أي مكان وزمان إلى ما يشدهم إلى الأمام، مهما كانوا عليه، وأن السفر طريق سالك نكتشف ونحن نمضي فيه، أننا جزء من هذا الكوكب، وكل واحد فينا هو من الناس وبهم، داعيًا إلى عدم تصديق كل ما يُسمع وهدفه فقط تشويه صورة الآخر ووصفه بأسوأ الصفات، ناهيًا عن السماع عن الآخر، ومحبذًا السماع منه.

غرفة صغيرة
أيضًا يؤكد الكاتب أنه رغم تدفق الصور في عالم يعيش ثورة اتصالات حوّلته إلى غرفة صغيرة، فإن الجالس في مكانه، ومهما تسارعت الصور أمام عينيه وانهمرت فوق رأسه، لا يمكنه أن يصل إلى المعاني التي يتحصّل عليها مسافر ذو بصيرة، فمن رأى ليس كمن سمع، ومن خالط الناس وعايشهم ليس كالبعيد أو المبتعد عنهم.                                                                            إلى جانب فوائد السفر الخمس التي ذكرها الإمام الشافعي من قبل، يضيف عمار علي حسن فوائد جديدة للسفر، الفائدة الأكبر منها هي فهم الآخرين، وإدراك التعايش والمسامحة والتفاهم، طارحًا سؤالًا مهمًّا: ما الذي تبقى لوصفه بعد أن أصبح في وسع كل أحد أن يجوب المدن كلها وهو جالس بمكانه؟ ولطغيان الصورة في زماننا هذا فقد آل الكاتب على نفسه ألا يصف كل ما تراه عيناه، فمهما كان قلمه متمكنًا من الوصف فلن يهزم الصور والأفلام المتاحة على شبكات التواصل الاجتماعي، غير أن الشيء المهم الذي يعني الكاتب في سفره هو كيف يتعايش الناس رغم اختلاف القيم والأفهام ودرجات الوعي والمصالح والغايات الفردية، وكيف يتجاور القديم مع الجديد في المدن، بل يتعانقان، وهذا، كما  يقول الكاتب، هو المعنى العميق في السفر، بعيدًا عن التنزه وتفريج الهم والتقاط الرزق، ذاكرًا أن سوء الفهم الذي ظل قائمًا لقرون طويلة بين البشر كان مرده تلك الحواجز العريضة التي حالت دون اتصالهم في أزمنة زادت فيها المسافات واتسعت المفازات وشمخت الجبال بأنوفها في وجوه الناس وهاجت البحار والمحيطات فهابوها.
وما جعل سؤال التفاهم والتعايش الأكثر طرحًا أن ضاقت الغربة بيننا وصارت الطائرات والسفن أكثر سرعة، وتواصل الكل في عالم افتراضي على شبكة الإنترنت، ووجود ثورة عارمة في المواصلات والاتصالات.
الكاتب الذي كان معنيًّا في ذهابه إلى البلاد بالبحث عمّا يجمع بين الناس في الأفكار والطقوس والملامح والتحايل على العيش والكفاح في سبيل تحسين شروط الحياة، تولّد لديه إيمان بأن الاختلاف هو سُنة إنسانية، بل كونية، حتى المعارضة هي في جوهرها امتثال لمنطق الكون وطبيعة الحياة وقوانينها، وعلى البشر أن يكونوا في تنوع وتعدد حتى يستقيم العيش، معتبرًا العالم بأسره مشمولًا بثقافة واحدة عريضة وعميقة يُكمل بعضها بعضًا، تصب فيها رؤى ووجهات فرعية، تتأهب طوال الوقت للتدفق سريعًا، أو بطيئًا، نحو المجرى العميق للثقافة الأصلية.

وجوه وطقوس
هنا أيضًا لا ينكر الكاتب أن نظره، خلال سفره، لم يقتصر على وجوه الناس، بل امتد إلى العمران الذي ينطق هو كذلك بالتعايش، مشيرًا إلى أن أي زائر لأي مدينة إذا أراد معرفة الكثير عنها، فيجب ألا يقتصر بقاؤه فيها على أحيائها الفخيمة، أو فنادقها الفارهة، إذ إن الزيارة الحقيقية تبدأ من قلب المدينة.                         
عمار علي حسن الذي سعى لأن يكون كتابه هذا نظرًا في الوجوه والطقوس والأحوال ودخائل النفوس وتعدد الرؤى وتواشجها، كان يبحث في سفره عن المؤتلف بين الناس، وعن الاختلاف الذي يصنع التنوع الخلاق، وعن كل ما يجذب الإنسان بعيدًا عن الغابة، التي يعمل مغرضون ومهووسون على أن نظل هائمين في أدغالها بحثًا عن الفرائس.                                                   رحلة الكاتب إلى باريس التي لطالما تمناها جعلته يتساءل: لماذا كل حرية يظفر بها البشر تُلقي بهم في عبودية من نوع جديد؟ واصفًا نفسه بأنه تعلم فضيلة التساؤل والتحقق والاندهاش، ذاكرًا أن بعض النازحين إلى باريس لا ينكرون أنهم وجدوا فيها مالًا وحرية لا تُقارن بما في بلادنا، لكنهم يواجهون كل يوم ألوانًا من عنصرية صامتة، وأننا إذا تعلمنا من التجربة الفرنسية فستكون إحدى وظائف إعلامنا هي أن ينبئ الفقراء بكيفية تحويل وجباتهم الرخيصة إلى غذاء متكامل ولذيذ، وأن جسمًا ينهكه الجوع والمرض سيحجب عن صاحبه أنوار التفكير في تحرير الإرادة والرأي والتصرف، فلا حرية لجائع ولا كرامة لعريان.
ومن خلالها أيضًا أدرك أن العلاقة بين مكانين وزمانين حضاريين يجب ألا ترسم خطوطها سنابك الخيل أو جنازير الدبابات، إنما هذا الشيء البسيط الناعم الذي ينظر إليه أغلب أصحاب القرار السياسي والعسكري باستهانة وهو الثقافة التي لا تقف عند حدود الكتب والمحاضرات والندوات، إنما العمران والذكريات والانطباعات الجيدة عن الناس والأمكنة.                                               في بداية حديثه عن رحلته إلى تركيا يكتب عمار علي حسن قائلًا إن كل بلاد الناس سواءٌ لمن يبحث عن الجمال في النفوس والمناظر، لكنها لا تكون كذلك لمن ينبش في ذاكرته، فبعضها مستقر كأنه جبل، وبعضها عابر كأنه سحاب، ذاكرًا أننا سنجد الشوارع عامرة بالسلوك القويم والرضا والاعتزاز بالدين والرغبة المتجددة في تحسين شروط الحياة.
من بين سطور كتاب عمار علي حسن هذا نعرف أن إندونيسيا تتكون من 13 ألف جزيرة عائمة في المحيط الهادي، وأنها بلاد ساحرة تزداد روعتها كلما ارتفعت الطائرة إلى أعلى حيث يتواشج الأخضر مع الأزرق تحت شمس ساطعة ومطر، وأن هناك من قال إن باريس عاصمة الدنيا، ولو كانت للآخرة عاصمة فستكون باريس، وإذا كانت مصر هبة النيل فإن تركيا هبة المطر، وأنه إذا اتحد أبو الهول المصري والفيل الهندي وطائر الجارودا الإندونيسي فسينعم العالم بالسلام، وأن الجمال واحد وإن اختلف الناس في تذوّقه، وأن الموسيقى قادرة أكثر على تقريب نفوس فرقتها السياسة والصراع على المنافع المادية، وأن التعايش بين الناس جميعًا يسكن بين الألحان أوسع وأعمق مما يحل في الخطب والمواعظ والاتفاقيات والمعاهدات التي توقعها الدول والشركات، وأن الإنجليز كانوا بارعين في تطبيق سياسة «فرق تسد» وبها أقاموا إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وإنه لأمر تعيس أن تضيق بالمرء بلاده، وتفتح بلاد الناس له ذراعيها، ويعيش فيها بلا خوف مستظلًّا بالحرية والعدل.

لا يوجد مستحيل
عمار علي حسن، الذي يوقن أنه لا يصل من اكتفى بالقراءة إلى مقام الذي عايش وكابد، يعلن أن التاريخ لا يصنعه كبار الساسة الرسميين وقادة الجند، كما يتم تسويقه في بلادنا، ويلقّنونه لأطفالنا في المدارس، إنما يسهم فيه أرباب القلم وأصحاب التجارب، والمصلحون الاجتماعيون وكل الذين قطعوا خطوات واسعة في سبيل تحصيل الخير وتعزيزه في حياة الناس، مثلما يؤكد بعدما زار ألمانيا مرتين أن البارعين فقط هم من بوسعهم تحويل المشكلات إلى فرص نجاح، في ظل إيمان عميق بأنه لا يوجد مستحيل أبدًا، مادام هناك عقل يبدع وروح تفيض وإرادة تسخو، ومادامت هناك أمة مؤمنة بنفسها، واثقة من قدراتها وراغبة دومًا في السعي إلى القمة بلا كلل أو ملل.
كما يرى عمار علي حسن أننا لا نعرف تاريخ الأمم فقط بكبار الساسة من الملوك والرؤساء، بل بالبارزين من علمائها وأدبائها ومفكريها وفنانيها.
في رحلاته هذه التي بدأها بالسفر إلى دولة الإمارات ثم زار بعدها مدنًا وبلدانًا شتى منها السودان والكويت ولبنان والمغرب والسعودية وغيرها، لم يتحدث الكاتب إلا عما عاشه في الواقع، لا في الخيال.
بعد رؤيته البحر الميت يقول الكاتب إنه رغم اختلاف الثقافات والأماكن وألوان البشرة لا يتشابه البشر في مشاعر الفرح والحزن وفي الرغبات فقط، بل أيضًا في شيء يقسو على الجميع دون تفرقة، إنه المرض، فالسرطان والزهايمر والسكري، مثلًا، لا تفرق بين أبيض وأسمر وأحمر وأصفر، لهذا أصبحت الأدوية هي أكثر اللغات تداولًا بين البشر جميعًا.
 من خلال كتابه الممتع «ألف نافذة لغرفة واحدة» الذي طاف وجال بنا فيه وعلى متن سطوره وصفحاته في سماوات شتى، طلَّ عمار علي حسن على المدن والبلاد التي زارها متأملًا ناسها ومبانيها، تاريخها وجغرافيتها، قديمها وحديثها، مُعايشًا لمواقف كثيرة مر بها على أراضيها، منها المبهج ومنها الساخر ومنها المخيف، متحدثًا عن البسطاء من الناس الذين قابلهم وعن كبار المسؤولين الذين تعامل معهم، وعن الإنسان الذي كان هناك وقتذاك، وعن الأماكن، متواضعها وفخمها، مُظهرًا إعجابه، بل فتْنته، بروعة الطبيعة التي رآها رأي العين، وطبائع وسلوكيات وصفات البشر الذين يتشابهون معًا، إلى حد كبير، رغم اختلاف أماكن إقامتهم ومولدهم ورغم تعدد ألوانهم، فالإنسان هو الإنسان كما يقول، مؤكدًا أن ما نراه شيء وما نسمع عنه شيء آخر، كاشفًا عن رؤيته وفلسفته التي يتخذها زادًا في رحلته الحياتية، ورحلاته عبر أرض الله الواسعة. 
لقد كتب عمار علي حسن هنا عما عاشه في الواقع ورآه بعينه، بلغة رائقة وسرد سلس، وبمحبة قد لا تشبهها محبة أخرى ■