أصداء من ووهان تشابك بين ثقافات الشرق والغرب

أصداء من ووهان تشابك بين ثقافات الشرق والغرب

مدينة ووهان لم يسمع معظم العالم عنها قبل ظهور جائحة كورونا عام2019، وبعد هذا التاريخ دخلت العاصمة الصناعية لمقاطعة هوبي في ذاكرتنا جميعًا. حتى بعد انتهاء الجائحة لا يزال الكثيرون يعتقدون أن الصين بشكل عام بأسلوبها وطموحها والمنافسة الشرسة بينها وبين الولايات المتحدة، هي التي تحرك العالم إلى حد كبير. عاشت الأمريكية جريتشن ديكسترا مؤلفة كتاب «أصداء من ووهان» في هذه المدينة من عام 1979 إلى 1981 لتدريس اللغة الإنجليزية، وتسرد في كتابها الصادر عن دار «اتموسفير برس» عام 2022 الارتباك بين ثقافتي الشرق والغرب من خلال علاقتها بالمعلمين والطلاب الصينيين في بيئة سياسية مشحونة.

 

الكتاب هو مذكرات «جريتشن ديكسترا» امرأة أمريكية شابة تحكي مغامرتها خلال عامين قضتهما في التدريس بالصين (1979-1981)، حيث كانت ضمن أول 100 أمريكي جندتهم الحكومة الصينية لتدريس اللغة الإنجليزية في عدد مختلف من الكليات في جميع أنحاء الصين.  كانوا يعتبرون «مدرسين خبراء أجانب»، وتم منحهم امتيازات غير متاحة للعديد من المواطنين الصينيين. كانت الصين في ذاك الوقت بعد وفاة الرئيس الصيني ماو تسي تونغ تتعافى من أجل النهوض من جديد بعد عقود من الحروب والفساد الداخلي لاستعادة قوتها وهيبتها. من جهة أخرى، كان الحجم الهائل للسوق الصيني بالنسبة للخارج مغريًا للغاية.  كانت اللغة الإنجليزية أساسًا لنجاح الصين في المستقبل.

ثلاثة فصول
يحتوي الكتاب على ثلاثة فصول لفترات زمنية مختلفة:  في الأول، تصف الكاتبة الصين الكئيبة المنعزلة عن العالم والحياة التي عاشت فيها لمدة عامين. 
الفصل الثاني تسرد فيه ديكسترا أحداث رحلتها القصيرة التي عادت بها إلى الصين في صيف عام 1982 عندما أقنعت أحد قادة الحزب في نيويورك بمنحها الإذن في العودة إلى ووهان لمدة أسبوع واحد. الفصل الثالث تتحدث فيه الكاتبة بعد عقود طويلة عما تعلمته من هذه المغامرة وما حدث لبعض الطلاب، وأين يوجد بعضهم الآن ومن بقي منهم على تواصل معها.
عندما وصلت ديكسترا إلى ووهان كانت آثار الثورة الثقافية الصينية السلبية ما زالت واضحة، قتِل أكثر من مليوني شخص في الثورة، وسجن ملايين آخرون، وعانى الكثير من مصادرة الممتلكات أو التعذيب أو المهانة، وظلت آثار الثورة موجودة عقودًا لاحقة، إذ تسبب نظام الرئيس ماو العنيف في فقدان الصينيين الثقة بحكومتهم، مع وجود إعلام صيني في كل مكان يصوّر الأمريكيين بأنهم غير جديرين بالثقة وبلا رحمة. 
لم تكن ديكسترا تتحدث اللغة الصينية ولم تدرس التاريخ الصيني. تقول على صفحات كتابها «عملت بجد لفهم القواعد الصارمة وغير المعلنة في كثير من الأحيان التي تحكم كل جانب من جوانب الحياة في ووهان».  تتذكر ديكسترا لحظة وصولها لأول مرة إلى الحرم الجامعي عبر طريق ضيق ومعبَّد تصطف على جانبيه الشتلات التي تنتهي بقوس متصدّع أبيض اللون تعلوه أحرف صينية حمراء. كان الناس يحدّقون بها كثيرًا لأنها تمتلك بشرة بيضاء وشعرًا أشقر، وقامة أطول بكثير من معظم النساء الصينيات. تقول الكاتبة «ربما لم يرَ معظمهم امرأة شقراء من قبل».
قامت ديكسترا بتدريس شباب صينيين فلاحين وعمال وجنود. وتروي تجربتها في التبادل الثقافي منذ أربعة عقود، والصداقات بين المعلمين الناشئين في الجامعة في بيئة سياسية مشحونة وعن تعقيدات الاشتباك بين الثقافات هناك. وفي مذكراتها تكمن قصص شخصية للطلاب والمعلمين الذين أصبحت ديكسترا قريبة منهم. 
تحدثت عن شياو وانغ، والذي كان واحدًا من المدرسين الشباب الذين لم يلتقوا أي غربي من قبل، وكان مفتونًا بالثقافة الغربية، وعن طالبتها اكسياو الفتاة الطموحة، وهانغ هو، أحد طلابها العاطفيين الذي يتمتع بمستقبل مشرق تحطم لاحقًا. كانت المناقشات في الفصل الدراسي والمحادثات في أوقات الفراغ أحد الأشياء التي ساعدتها في التقرب من الطلاب وتضييق الفجوة الثقافية والفلسفية الواسعة بين الثقافتين. 
«ربما تكون الثورة قد انتهت، لكن الندوب الجسدية والعاطفية لماضي الصين العنيف تغلغلت في نفسية البلاد بشكل واضح» كما تقول ديكسترا. كان كل تفاعل داخل الفصل وخارجه باللغة الإنجليزية فقط. حاولت تعلم اللغة الصينية فور وصولها عن طريق بعض الدورات والفصول لمجرد تعلم جمل بسيطة، لكن رفض طلبها خوفًا من أنها قد تتواصل بحميمية أكثر مع الطلاب. 

تصادم ثقافي
من خلال تفاصيل صغيرة ذكرتها الكاتبة بشكل سردي ممتع نشهد التصادم الثقافي الذي اختبرته المؤلفة كأمريكية في الصين. تتحدث المؤلفة عن أخطائها في عدم فهم التكتّم بالثقافة الصينية. على سبيل المثال، بعد أن أخبرت المعلمين الآخرين أن طالبة سألتها عن علاقاتها الغرامية، قام المسؤولون بمعاقبة الطالبة لطرحها أسئلة على النمط الأمريكي. وتحدثت عن اهتمامها وتعلقها بـ«هوانغ هوا»، الشاب الذي بدأ بتعلم اللغة الإنجليزية سرًا من خلال البحث عن القنوات على راديو لوالديه وضبط محطة صوت أمريكا.  
وتكتشف أن طلابها دائمًا يأخذون الحذر بشكل مبالغ فيه، لذا يجدون «صعوبة في التعبير عن ذاتهم» في فصل اللغة الإنجليزية. كما ذكرت من ناحية أخرى، أن الطلاب «كانوا يدرسون بجد دون شكوى، ولم يتأخروا أبدًا عن الفصل الدراسي، ولم يجادلوا في الفصل، أو يطلبوا الإعفاء من أي مهمة».
كانت طرقهم جديدة عليها أيضًا، حتى في عادات الأكل أو الاحتفالات. تتذكر وليمة لذيذة لرأس السنة الجديدة «بطتان وثلاث سمكات كاملة وحساء السلاحف والتوفو بأشكال مختلفة والملفوف والأرز المقلي، والماوتاي، والبيرة، والصودا البرتقالية. وبعد عقود لا تزال هذه الأطباق الموجودة على المائدة هي ذاتها». 
حكايات صادقة ومشاهد دافئة فيها روح الدعابة، وهي تراقب أفكارها ومشاعرها الخاصة وتحاول فهم ثقافة مختلفة تمامًا، معزولة إلى حد كبير عن الغرب، تختلف عن المجتمع الأمريكي الذي يتميز بالطابع غير الرسمي والفردية.
كل يوم كانت هناك تحديات وأحداث مربكة، لكنها صنعت العديد من الأصدقاء والعديد من الأخطاء. وجدت طرقًا إبداعية ومبهجة
لا حصر لها لتعليم الأدب واللغة الإنجليزية. وعلى الرغم من الغياب التام للكتب باللغة الإنجليزية عند وصولها، تمكنت من صياغة منهج دراسي وإشراك طلابها.  في أحد الأيام دعت الطلاب لوجبة إفطار في أحد المطاعم، وبعدها عقد أعضاء الحزب المحليون اجتماعًا مع المعلمين لانتقادها رسميًا لتدريسها «الكتب الصفراء»، على حد قولهم.
حافظت المؤلفة من خلال سردها على السياق التاريخي وتداخل الأحداث وارتباطها بما يحدث سياسيًا.  لكن جوهر الكتاب يكمن في القصص الشخصية المعقدة للطلاب والمعلمين الذين أصبحت ديكسترا على مقربة منهم، الأمر الذي أعطى لمحة عن الثقافة في ذلك الزمان والمكان.
تقول الكاتبة: «عشت كسجينة في الحرم الجامعي الصغير، الذي كان مغلقًا أمام الأجانب الآخرين، وألقيت بنفسي في ركن صغير بمجتمع معقد. لم أعد إلى الصين منذ عام1982، لكنني شاهدت من بعيد الصين تخطط لتجديدها وتشرع ولادتها من جديد. شاهدت الاحتجاجات وبعد ذلك مذبحة الشباب في ميدان تيانانمين وشاهدت الحكومة الصينية تتبنى الثراء، وليس الخدمة العامة، وتبني مدنًا جديدة بعيدة في الريف. شاهدت الآلاف من رجال الأعمال والسياح الأمريكيين يتدفقون إلى الصين، والكليات الأمريكية تعين بنشاط الطلاب الصينيين، الذين يمكنهم الآن دفع الرسوم الدراسية كاملة. شاهدت الصين تمول وتشيد الطرق والجسور والسكك الحديدية في جميع أنحائها النامية».
تتحدث ديكسترا في الجزء الثاني من الكتاب عن التغييرات وهي تراقبها من بعيد، وكيف شدد الرئيس الصيني شي جين بينغ زمام الأمور على أمته، وحولها، إن لم يكن إلى دولة شمولية، إلى دولة استبدادية، والحملات القمعية في حزب المجتمع والجيش وعالم الأعمال والشركات الأمريكية المتعددة الجنسيات التي نالت استحسانه. وعرض قوته العسكرية مع الهند وتايوان ومطالبته ببحر الصين الجنوبي، وقد طالب بتغييرات في النظام السياسي الديمقراطي في هونغ كونغ وأرسل الآلاف من مسلمي الأويغور إلى معسكرات «إعادة تثقيف»، حيث دفع كثير منهم ثمنًا باهظًا بسبب أعمال العنف التي ارتكبها قلة منهم. لقد عزّز بشكل كبير القوة الناعمة الصينية في وسائل الإعلام والجامعات ومراكز الفكر، وغالبًا ما استخدم الصينيين المغتربين لتأييد وجهات نظر الحزب الشيوعي الصيني. 
تقيم جريتشن ديكسترا الآن في نيويورك، ولها أيضًا إصداران هما: «الرواد المدنيون» و«بينري بويز» ولها العديد من المقالات في جريدة نيويورك تايمز ونيويورك ديلي نيوز.
من خلال كتاب «أصداء ووهان» قدمت لنا جريتشن ديكسترا وصفًا دقيقًا لما كان عليه العيش في الصين من 1979 إلى1981، في بداية سياسة الإصلاح والانفتاح لدنغ شياو بينغ. هذا الكتاب هو تذكير بالمشاهد التي تغيرت في الصين، وكذلك التي ظلت على حالها. والشائق في الكتاب أن نعرف في النهاية كيف كان شعور ديكسترا بإعادة الاتصال بأصدقائها الصينيين بعد عقود من مغادرة ووهان ■