لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

خمس عشرة قصة قصيرة، ينتمي كتابها إلى 8 بلدان عربية، من: مصر (ست قصص)، والمغرب ولبنان (قصتان من كل بلد)، والسعودية والأردن وتونس وموريتانيا والعراق (قصة واحدة من كل بلد)، ما يعني أن مساهمات الكتاب من مصر تبقى الأوفر عددًا، وهو أمر مبرر على مستوى هذه المسابقة وغيرها، بالنظر لما يعرفه المشهد القصصي في مصر من حركية وتراكم ودينامية مشهود له بها، ما يعني أن الأجيال الجديدة من كتاب القصة في مصر، ما فتئت تواصل إثراء التراكم القصصي. وفضلًا عن ذلك، يلاحظ حضور لافت للمرأة الكاتبة على مستوى القصص المرشحة، ما يشي بمدى حرصها على مواصلة حضورها الإبداعي، مساهمة بذلك في إغناء المشهد القصصي العربي.
ومن خلال قراءة أولى في القصص المرشحة يبدو أنها تنحو، في مجملها، منحى تجديديًا، على مستوى طرائق كتابة القصة القصيرة وموضوعاتها، رغم ما طال مجموعة منها من هنات وأخطاء لغوية وتعبيرية ومطبعية، موازاة مع تفاوتها على مستوى النفس القصصي، في انشداد هذه القصص جميعها إلى موضوعات وقضايا وثيمات متنوعة؛ نذكر منها: الهجرة السرية، الاعتقال السياسي، السجن، الوباء، الانتحار، الوحدة، الموت، الفقدان، الغربة، التذكر، الانتظار، الارتياب، التشويق، الاستيهام، الحلم، المعجم الحيواني، القرية، المدينة، المخيم، وغيرها.


المرتبة الأولى: «جزر» ليحيى عبدالحكيم - مصر
تحكي هذه القصة عن سارد رجل في الحلقة الخامسة من عمره، مهتم بالنقد السينمائي، ومتشبع بالفكر اليساري، وذاق بسببه مرارة الاعتقال.
يستعيد السارد بعض ذكرياته مع حكاية أكل «الجزر». وسرعان ما سيتعرف على شخصية «نور»، وهي لم تتخط الأربعين من عمرها، في ورشة سيناريو، سيتعلق بها، وستتطور العلاقة بينهما إلى ما يشبه المواجهة بسبب اختلافهما في طريقة النظر إلى الأشياء؛ مواجهة سرعان ما تحولت إلى معركة أمام الآخرين في الورشة.
 تنفتح هذه القصة على حكاية «الجزر» وتنغلق عليها، ليتخذ «الجزر» في القصة عدة تلوينات، تخرج به من دائرته المرتبطة بفصيلة الخضراوات والطعام، كما أنها الحكاية التي ولدت للسارد نوعًا من الإحساس بالتمرد، فنشأ يساريًا رغم أزهرية والده، وكان من نتائج ذلك أن ذاق مرارة الاعتقال وهو في سن مبكرة. وتشبعه بالفكر اليساري جعله ينأى عن الخوض في الغيبيات، ويسقط إيمانه بفكرة «التخاطر» عن بعد.
ثم تأتي محطة أخرى، أصبح فيها السارد يستخدم كثيرًا لفظ «جزر»، فمرحلة ظهور «نور» في حياته كانت هي «الجزر» الذي أضاء حياته، وقد استشعر السارد أن «الجزر» قد وسع رؤيته على حياة لم يعشها من قبل. وبظهور «نور» في حياته سيأخذنا السارد إلى عوالم مغايرة، أصبحت فيها «نور» تسمى «جزرة»، بشكل يعكس نوعًا خاصًا من الارتباط العاطفي بينهما.
ومختلف هذه التلوينات للفظ «الجزر» يجعل منه تعلة لفظية وإيحائية فقط لتوليد المعاني وبناء الدلالات، وأيضًا لشحن المحكي القصصي بأبعاد تخييلية وسردية واجتماعية وسياسية وفنية وعاطفية.

المرتبة الثانية: «قطار الساعة الثامنة» لأحمد السيد إبراهيم نجم - مصر
تحكي هذه القصة عن شخص ينتظر بمحطة القطار وصول خطيبته في قطار السابعة مساء. وحدث أن وصل القطار، ولم تكن خطيبته من بين ركابه، فشرع في تخمين الاحتمالات حول سبب عدم وصولها، فقرر أن ينتظر وصول قطار الساعة الثامنة التالي، فتوجه إلى استراحة المحطة ليرتشف قدحًا من القهوة، ليكتشف أن ساقي المقهى مبتور اليد اليمنى، فقدها في الحرب وحاز وسام الشجاعة نتيجة لما أداه من واجب تجاه وطنه، وأن الشخص الوحيد الذي يجلس بالمقهى كان متأنقًا، يضع رابطة عنق حريرية، ويرتدي معطفًا أسود اللون من الصوف الفاخر، ليضاف إليهم شاب أسمر البشرة، ضخم البنية، يحمل حقيبة في يده.
 وبعد لحظات صمت رهيبة عمت المكان ووقت عصيب وخوف مر بها السارد، وهو يفكر في سبب تأخر خطيبته، وأيضًا فيما سيخرجه الشاب الضخم من حقيبته الغامضة، سرعان ما تبخرت هواجس السارد، بعد أن أخذ الرجل المتأنق يعزف على آلة العود بمهارة كبيرة، ليدخل الجميع في حوار عمّق من مستوى التعارف فيما بينهم.
هكذا تبدو هذه القصة مبنية في مجملها على عناصر «الانتظار» و«التشويق» و«الارتياب»، تخلقها عادة القصص البوليسية وأفلام الرعب، وهي الحالة نفسها التي استشعرها السارد بداية الأمر، قبل أن تنجلي حقيقة كل واحد من الشخصيات الأربع، ويتبدد سوء الظن والحكم على الناس من خلال المظاهر فقط، وتلك إحدى رسائل هذه القصة. 
لقد ساهمت حالة الانتظار تلك في مقهى المحطة، بتأثيراتها النفسية على السارد، في خلق أجواء من الريبة والتردد لدى السارد في بداية الأمر، كما عمقت لديه الإحساس بغموض اللحظة ودراميتها، قبل أن يكسر الحوار الجماعي بين تلك الشخصيات خداع تلك اللحظة التي ولدها الصمت والارتياب.


المرتبة الثالثة: «ظلال خائنة» لعزيزة صبان - المغرب
تحكي هذه القصة عن لحظة من يوميات متشرد سجين بؤسه، يتيم الهوية، ومجهول الوجهة، يوجد بلا مأوى أو ملاذ، ليجد نفسه في مواجهة الشوارع. وذات صباح يستقل المتشرد أول حافلة يصادفها في طريقه، ليجد نفسه في مواجهة ركابها الذين تجاهلوه، رغم أنه ألقى عليهم تحية الصباح، فبدا لحظتها منكسرًا، باستثناء فتاة رقيقة الملامح، منحته ابتسامة احتوته كما لم يحتوه حضن أبدًا، لكن سرعان ما جردته تلك الشابة من إحساسه بعد أن سلمته قطعة نقدية، طاعنة بذلك كبرياءه وأمانه.
من بين ميزات هذه القصة القصيرة، كون كاتبتها امرأة، كتبت قصتها متجردة من عنصر الانحياز إلى النوع، فيما تكمن ميزتها الثانية في لغتها الجميلة، المكثفة والطافحة بالصور والأوصاف والمعاني، والخالية، إلى حد ما، من الأخطاء التي طالت قصصًا أخرى.
وتكمن الميزة الثالثة للقصة، في طرائق كتابتها، حيث تمكنت كاتبتها من تكثيف التخييل القصصي في محكيها العام، بشكل فني، يجعلنا نحن القراء أمام قصة قصيرة مرهونة بأسئلة كبيرة، خصوصًا من حيث عملها على إبراز كيف يمكن للدفء الذي تخلقه العلاقات الإنسانية أن يتحول فجأة إلى زيف فصول، لم يجد أمامه ذلك «المتشرد» سوى الفرار إلى أول غابة توقفت عندها الحافلة، عائدًا إلى قبر حفره هناك، يلوذ إليه هربًا من موت، وفي انتظار موت.