ذاكرتُنا الرقمية

ذاكرتُنا الرقمية

عاش العالم تجارب مريرة مع كثير من الأوبئة والأمراض الفتّاكة، وحشد العلماء جهودهم لدحرها، فصُنِعت الأدوية وابتُكِرت اللقاحات لصون حياة البشر، كما هي الحال في ظل جائحة كورونا. لكن... ألا يمكن أن يستجد وباء أكثر خطورة؟ وباء يمحو الذاكرة الإنسانية الحديثة ويدمر كل طموح لاستمرار معطيات الحضارة المعاصرة، فيصبح العالم في ومضة برق قرية كبيرة بلا ذاكرة؟ 
لا نقصد هنا الذاكرة البيولوجية التي استغنى عنها الإنسان الحديث عندما لاذ بالآلات الإلكترونية، معتمدًا عليها في جل مجالات حياته التي صارت مرقمنة ومخزّنة في أجهزة إلكترونية مختلفة أو متداولة في فضاءات الإنترنت التي تعج بمعلومات متنوعة لا يمكن تصورها كمًّا وكيفًا، يعتمد عليها الأفراد والجماعات والحكومات والمؤسسات في كل دول العالم، وخضعت لها كل مرافق الحياة، من المعطيات البسيطة إلى عالم الأموال والأعمال والتعليم والدفاع وحتى العمليات الجراحية المعقدة التي تُجرى عن بعد عبر شاشات الحواسيب، إلى غير ذلك مما نعرفه وما لا نعرفه ولا يمكننا تصوره. 
أليس هناك خطر قابع وراء الثقة الزائدة في التكنولوجيا الرقمية التي قد تضع العالم على المحك؟ ألن نتوقع أسوأ ما يمكن وقوعه، فيتعرض العالم الرقمي للاندثار في لحظات خاطفة؟ هل يمكن أن يختفي الإنترنت بسبب حروب إلكترونية أو نووية أو ظواهر كونية كالعواصف الشمسية مثلًا؟ 
إن ما نعيشه من الانقطاعات المؤقتة للإنترنت واختفاء المواقع والاختراقات الإلكترونية لمؤسسات مهمة في بلدان عدة، يعد نذيرًا يجعلنا نُصاب بخوف مشروع من حجم كارثة مقبلة ستعصف بذاكرتنا الجماعية التي تعتمد على الرقمنة في كل شيء.   هذه التصورات، وإن بدت للبعض ضربًا من الأوهام، ستقودنا إلى التفكير في إمكانيات تتيح لنا وثوقية الاستعمال والحفظ والتخزين، لأن التكنولوجيا الرقمية تحتاج دائمًا إلى حبال سِرِّيَّة وسُرِّيَّة توصلها بمصادر التغطية والتغذية... ولا ندري كيف يمكن تصور وضعها إذا اختفت نعمة الكهرباء من العالم؟ نعم... إنها احتمالات ممكنة. 
وبما أن الأجهزة الإلكترونية رغم تطورها تفتقر إلى حفظ المعطيات بأمان. فهل تكفي لنقل الأفكار والمستجدات العلمية ومكونات الحضارة المعاصرة إلى الأجيال القادمة كما أوصل إلينا أجدادنا كنوز العلوم والثقافات ومقومات الحضارات عن طريق الكتب التي هجرها السواد الأعظم من الشباب؟ 
هل سنضمن عدم فقدان المعلومات بسبب ما يَطَّرِد من طفرات رقمية؟ الأجهزة تتطور بشكل سريع ومريع، وكل جديد يقصي ما سبقه في وقت يسير، ولا يقرأ ما يشمله سلفه من معطيات، فالشريط المغناطيسي قضى على أسطوانة الحاكي، والقرص المدمج ألغاهما معًا. ثم أصبح كل ذلك من الماضي، وهيمنت الحوامل الإلكترونية، والرقاقات والخزانات الرقمية، وأشكال من الأنظمة وألوان مما تجود به التكنولوجيا الاستهلاكية التي تغذي دوران دواليب الاقتصاد، لتتوالد رؤوس الأموال وتتراكم ثروات الشركات العالمية، ويقبل الناس على الأجهزة الرقمية المتواترة في جدة وطرافة، وعليها يتنافسون.
فهل عملت الدول، وبخاصة المنسوبة إلى العالم الثالث، حسابها وجلّ مؤسساتها تعتمد على الرقمنة والإنترنت؟ أم إن كل ما قيل هنا محض كوة ضيقة على عالم من الخيال العلمي؟ ستظل هذه الأسئلة المرعبة عالقة تصطخب، وربما سيُعرَف لها جواب مستقبلًا... ومَن يدري؟ ■