غصن الزيتون

كنت غصنًا صغيرًا في شجرتنا الأم؛ تلك الشجرة الأصيلة، التي جاءت من نسل متوارث، اشتهرت به هذه الأرض المباركة.
رغم حداثة عمري وقتها إلا أنني أذكر الإرهاصات الأولى لمأساتنا الكبرى... أذكر أصدقاء لي ذبلوا مبكّرًا بعد ما رحل أصحابهم، تاركين إياهم دون رعاية.
أذكر تلك الأنفاس الدخيلة التي بدأت أشمّها من حولي، وتلك اللهجة الغريبة التي أخذت تنتشر يومًا بعد يوم!
أقدامٌ غاشمة بدأت تدهس ترابنا، وأيادٍ قاسية استمرأت نتف أوراقنا... حينها شعرنا بما لم يشعر به البشر، فنحن النباتات لنا حاسّتنا الخاصة، وبالفعل لم يمضِ الكثير حتى صدق حدسي.

فجأة اندلعت النيران في كل مكان، وحلّ الدمار محلّ العمار... ازداد عدد الدخلاء، وطاردوا أبناء الأرض، حتى ضاق بهم المكان.
احترق أمام عيني كثير من أقاربي الأعزّاء، وأفضلهم حظًا اجتُثّ من موضعه دون أي رحمة أو أدنى شفقة.
توقّعت أن ألقى نفس مصيرهم لولا تعلّق صاحبي بي، وحرصه على أن يصطحبني معه... ترك صاحبي كل شيء وراءه، ونجا بحياته وحياة أسرته الصغيرة.
لم يأخذ معه - من أرضه المغتصَبة - سوى شيئين:
مفتاح بيته، وأنا.
قلّمني بخبرة، وودّع الشجرة الأم بعينين دامعتين، وقلب يرتجف... شكرت له وفاءه، وحفظت له الجميل... وصرت والمفتاح رمزًا للأمل بالعودة يومًا ما.
تنقّل صاحبي بعدة أراضٍ، وعدد من الديار... كلها أراضٍ صديقة، لكن أبدًا لم أشعر بذات الدفء، ولا بنفس حنُوِّ الأرض الأصل!
كان كلما حلّ بمكان غرسني بشكل مؤقت... يعلم أنه لا استقرار نهائي، وأحلم معه بغرسة أخيرة... تعاونت معه في ترحاله، فلم أمدّ جذوري أبدًا أبعد من سطح الأرض... أتهيّأ مثله لِأي رحيل مفاجئ.
مرّت السنون... كبر صاحبي، وعلا مفتاحه الصدأ... أما أنا فقد انحنى عودي، لكنه انحناء الوهن وليس اليأس.
الحلم مستمر، ومقاومتنا مستمرة... أنا، المفتاح، وصاحبي... ننقل فيما بيننا الأمل، ونورث من يعقبنا الأمانة.
لذا - وخوفًا من ضياع الرسالة - فقد اخترت أقرب مكان من ديارنا، واضطررت أن أمدّ جذوري ولو بشكل عابر.
الآن - وقد صرت شجرةً أُمًّا - أحكي حكايتي للأغصان الصغيرة، وأحمّلها ذكريات الأرض، ورائحة الوطن... أستشعر اقتراب الموعد، موعد الرجوع إلى المنبت الأب.
صدّقوني... لقد اقترب النصر، فلدينا نحن النباتات حدس بِدُنُوِّ الأحداث... كما استشعرت في الماضي البعيد أطياف الخطر، أشمّ في المستقبل القريب نسائم الفرج.
يوم يعود الابن لأرض أبائه وأجداده، ويزول من على المفتاح الصدأ، ويُغرس الغصن الشريد في الأرض المباركة من جديد.