أمين الريحاني وثقافة التكامل بين الشرق والغرب

أمين الريحاني وثقافة التكامل بين الشرق والغرب

أمين الريحاني (1876-1940م) كاتب وفيلسوف لبناني من روّاد أدب المهجر في عصر النهضة. هاجر إلى أمريكا منذ صباه، وتنقّل بينها وبين لبنان، كما زار البلدان العربية وإسبانيا الأندلس... فاخر بعروبته ودعا إلى الوحدة العربية، تأثر بمبادئ الثورة الفرنسية القائمة على الحرية والمساواة والعلمنة والتسامح الديني... تميّز بنزعته الإنسانية التي سيطرت على ثقافته، فحاول التوفيق بين الشرق العربي والغرب، من أجل تحقيق السعادة الإنسانية والراحة البشرية، بعيدًا عن العرق والدين والانتماء، معتمدًا سياسة التوفيق بين مادية الغرب ومثالية الشرق، والسمو بالإنسان الشرقي والغربي معا نحو التكامل المنشود الذي لطالما حلم به.

 

عاش الريحاني في بلاد الغرب واطلع على مشكلاتها، فرأى أن «الأمريكيين خصوصًا والغربيين عمومًا في حاجة إلى شيء من جمال الشرق الروحي والشعري يلطّف نزعاتهم العقلية الوضعية، ويشذّب ميولهم المادية»، كما رأى أن «علوم الغرب العقلية والمادية وحدها لا تفيد الإنسان الإفادة التي تمكنه من النمو الدائم خلقيًا واجتماعيًا». لقد حدّد سبب مشكلاتهم وسلّط الأضواء على طبيعة حياتهم المادية وفلسفة حداثتهم الغربية، اللتين ساهمتا في تهميش الدين والأخلاق، وتفكيك روابطهم الأسرية، وتفاقم أزماتهم الاجتماعية الخُلقية، فرأى أنهم بحاجة ماسّة إلى روحانية الشرق المثالية التي تعزز قيمهم الأخلاقية.
لقد وضع الريحاني يده على الجرح في الشرق، فشعر بأن الشرقيين ليس لديهم القدرة على مجاراة التقدم العلمي الذي ساد الغرب، وراح يدعو إلى التوفيق بين الشرقيين والغربيين من خلال التغني بمحاسن الشرق الروحية والغرب المادية في «إطار حلولي على خلفية حلولية»، كي يستفيد كل منهما من خطأ الآخر، ويصل الإنسان آنذاك إلى مستوى التكامل، ويصبح التغيير «كقيمة وحقيقة معًا»، ولعل هذا ما جعل الكاتب يتمتع بنظرة شمولية عالمية متكاملة للإنسان، وهدفه إلى خلق «مثالية تجمع بين حسنات الشرق والغرب»، مثالية تجاوزت حدود الطائفة والدين والعرق والمجتمع والوطن، من أجل تحقيق الراحة البشرية والسعادة الإنسانية. وهنا يطرح السؤال نفسه: ما السيئات التي حاول الكاتب الإشارة إليها؟  

روحانية الشرق
في الواقع لم يمنع ذهول الريحاني بتطور الغرب وعلومه وصناعاته من قناعته بأن هذا الغرب بحاجة إلى روحانية الشرق القائمة على الاستقرار العائلي، ولمّ شمل الأسرة، بعيدًا عن المطامع المادية والشهوات والنزوات الغرائزية؛ لأنها عزّزت عند الغربيين ثقافة الخيانة الزوجية، وتفكيك الأواصر العائلية، فكانت بمنزلة خنجر في خاصرة حضارتهم من الصعب نزعه ولملمة جراحها، فكان يرى في التطلع إلى الشرق العربي وعاداته وقيمه والامتثال بها من شأنها أن تحل هذه المشكلات التي يواجهها الغربيون في حياتهم الأسرية.
في المقابل، رأى الريحاني أن الخروج من التخلف والجهل والتعصّب والتبعية والعبودية في الشرق بحاجة إلى تثقيف وانفتاح عقلي وتساهل ديني وتعزيز ثقافة تقبّل الفكر الآخر، بغية اللحاق بركب التطور العلمي العالمي وتحقيق التطور والاستقرار والازدهار... لذلك أراد خلق حلولية بين الشعب الأمريكي والشعب الشرقي، وكسر القيود بين هذين الشعبين، بعيدًا عن التعصب والنعرات الطائفية والفتن والمصالح الخصوصية، فتوجه بالكلام إلى الجيل الجديد من السوريين القاطنين في أمريكا: 
«إن الخير الأكبر لكم وللأمة الأمريكية، التي أصبحتم  عنصرًا صالحًا من عناصرها، إنما هو في اقتران النفسيتين وما فيهما من الحسنات». 
إن دعوة الكاتب إلى هذا الاقتران تعود إلى نزعته الإنسانية التي تتخطى النعرات العرقية والإقليمية والطائفية، وتسعى إلى «الانصهار الثقافي الذي يجمع بين روافد الحضارات والآداب المختلفة» للوصول إلى هدفه المنشود، ألا وهو التكامل بين الشرق والغرب. 
لكن هل يتحقق هذا التكامل على الصعيد الاستراتيجي والثقافي والاقتصادي؟ وهل كل من الشرق والغرب مؤهل لهذا التكامل؟ إن روح الريحاني العلمانية ومعايشته الأمريكيين حقبة من الزمن، جعلتاه يدعو إلى ذلك الاقتران، الذي حاول من خلاله حثّ الشرقيين على الاختلاط بالغربيين كي ينهضـوا من سباتهم؛ لأن «الشرق كله في حاجة إلى التربية التي تقدس العمل، وتغرس في العامـل مبادئ الجـد والأمانة والإخلاص»، والغرب كله في حاجة إلى تربية تقدّس روحانية الإنسان وتقوّم سلوكه وانحرافاته الجنسية، وتعزّز ثقافة التمسّك والمحافظة على كيان الأسرة والروابط العائلية.
 
طموح التكامل 
رأى الريحاني أن الحياة اليوم سواء أكانت «في أرقى مظاهرها الأوربية، أو في أفخم مظاهرها الشرقية إنما هي حياة فاسدة».  لذلك كان التكامل بالنسبة إليه بمنزلة طموح أو حلم منبثق من نزعته الإنسانية التي تحاول التوفيق وليس التفريق، وتسعى إلى السمو بالإنسان من أجل العيش في المدينة العظمى التي تتميز «بنوابغها، شعرائها وعلمائها وأرباب الفنون والصنائع فيها... والتي ينبذ رجالها ونساؤها الشرائع التي يسنّها المشرعون لمصلحة أفراد، ولا فرق إن كان هؤلاء من الأغنياء أو الأمراء أو السلاطين، هي التي لا يوجد فيها أرقاء ولا تباع فيها النخاسة. هي التي ينهض فيها الشعب نهضة واحدة على ظلم الحكام وفساد المسيطرين. المدينة العظمى هي التي يأبى أن تتدخل في شؤونها سلطة أجنبية... هي التي تطلق فيها حرية القول والعمل وتكثر فيها العلوم والبحوث وتثمر الفنون وتتعزز الآداب... هي التي يسود فيها العلم والحرية والإخاء والوفاء».  
إن الأفكار التي طرحها الكاتب هي بمنزلة حلقة ضائعة يحاول البحث عنها، كي يجمع بين الشرق والغرب. وقد تكون المدينة «المعدّلة عن أفلاطون والفارابي والآيلة إلى صيرورة بشرية تزاوج بين الواقع المعاصر والمثال المرتجى». تلك المدينة البعيدة عن طبيعة الحياة في الشرق والغرب.  
وهنا يطرح السؤال نفسه: هل لا توجد أسواق نخاسة في الغرب؟ وهل نهض الشرقيون العرب ضد ظلم حكامهم وفساد المسيطرين في بلدانهم؟ وهل استطاعوا التخلّص من ربقة الاستعمار وواكبوا التطور العلمي العالمي؟ إذن، أين المدينة العظمى التي يريدها الكاتب؟ وهل هي مدينة الحلم أم الواقع؟
في الواقع حاول الريحاني أن يماهي بين ثقافتين مختلفتين تتمسّك كل منهما بمبادئها وعاداتها وتقاليدها، فكان التوفيق صعبًا، بل مستحيل، وكانت الرسالة هي تحرير الإنسان من ظلم الإنسان، سواء أكان حاكمًا أم رأسماليًا أم إقطاعيًا أم رجل دين. كل ذلك بهدف تحقيق تكامل ثقافي بين الشرق والغرب، بناه الكاتب على مبدأ الإخاء الإنساني والانفتاح الفكري والتساهل الديني، من أجل بناء حضارة جديدة تجمع ولا تفرّق، توحّد ولا تشتّت بين الإنسان وأخيه الإنسان، مهما كان عرقه أو دينه أو طائفته، كي يسود الأمن والسلام والاستقرار والسعادة والحرية والرفاه بين أبناء البشرية جمعاء، فهل يتحقّق في يوم من الأيام هذا التكامل؟ ■