شاعر الوَجد والوجود

شاعر الوَجد والوجود

 سبتمبر هو شهر رحيل الطيور في لبنان ، وبدء فصل الخريف. في الحادي عشر من هذا الشهر رحل الشاعر اللبنانيُّ العربيُّ الكبير محمد علي شمس الدين (1942-11/9/2022) إلى العالم الآخر، كأنه طائر من طيور أيلول الرَّاحلة إلى عالم آخر . نلاحظ، ونحن نقرأ شعر هذا الشاعر، أنَّه كان يستشرف، في ظنونه، رحيله، عندما أنشد: «فقد أخبرتني الطيور التي لا تطير سوى في ظنوني / أنَّ أيلول باقٍ ...»، ونحن الراحلون. رحل، صاحب «يحرث، في الآبار» - 1997، بعدما تعب، وأنشد للمرارات كما حكت شهرزاد لشهريار، فخاطبها: «تعبنا، يا شهرزاد، تعبنا / وركضنا طويلًا خلف أعمارنا / حتى انحدرت دمعتان من عنق الحصان». 

 

نحاول في هذه المقالة القصيرة، أن نتتبَّع تعب الشاعر، في ركضه الطويل خلف الأعمار، يجرُّه من يده المعري والمتنبي والسياب، وبودلير ورامبو، والروميُّ والعطار و... ، وهو ركض كان انحناءً على الورق يفضي إلى رؤية السماء. قال الشاعر عنه: «سألت صاحبي / وكان مثلي ينحني على الورق: / أما سئمت الانحناء / فقال لي: في انحناءتي أرى السماء». 
 
 تعريف بالشاعر  
ينتمي صاحب «أناديك، يا ملكي، و يا حبيبي» - 1979، إلى أسرة علمية دينية شعرية عريقة، تقتني مكتبة عامرة بكتب التراث، وتُعقد في بيوتها «المجالس الجنوبية - العاملية»، وهي مجالس أدب ونقد وسمر، يتوارثها العامليون أبًا عن جدّ. 
في هذا الفضاء العلمي الأدبي نشأ. مرارات العيش في هذا الفضاء جعلت شمسه مرَّة، فأطلق إليها طيوره: «طيور إلى الشمس المرَّة» - 1988. 
أكمل دراسته، فنال إجازة في الأدب العربي وأخرى في الحقوق، وثالثة في التاريخ، وماجستير ودكتوراه في هذا العلم الذي استهوته الدراسة فيه. 
إضافة إلى هذا، يقول: «شُغفت بقراءات فرنسية، وكنت أُلزم نفسي بحفظ أبيات من الشعر الفرنسي يوميًا». كما كان قارئًا متتبِّعًا للإصدارات الأدبية والفكرية، وكاتبًا عن الكثير منها، فأتاح له هذا كله أن يمتلك معرفة واسعة بالتراثين الأدبيَّين: العربي والأجنبي، وأن يكون مثقفًا ناشطًا في الكثير من المؤسسات الثقافية، ومشاركًا في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية، فكان «نجم شعرٍ» تمتلئ القاعات في أمسياته الشعرية، وتنشط وسائل الإعلام في طلب لقاءات معه، وتتوالى الدعوات عليه للمشاركة في النشاطات الثقافية، ويتحلَّق المريدون حوله، وينتظرون جديده، وتُكتب عن شعره الرسائل والأطاريح الجامعيَّة، ويقرأ تجارب الشعراء الناشئين بحبٍّ، ولا يبخل بالنصيحة، والنقد المحبِّ، والإشادة بأيِّ لمحة جمالية...، كما يقول الشاعر الشابُّ محمد ناصر الدين (جريدة الأخبار، 12/9/2022، ص8).
 
منتصرٌ في مغامرة التخييل 
وهو بهذا يكون قد حقَّق الجمع بين «المنبرية وسيرورة الشعر والإجادة الشعرية»، من دون أن يقع في الخطابية والواقعية المباشرة. يقول المستشرق الإسباني بيدرو مارتينيز: في محمد علي شمس الدين «شيء من المجازفة، مكثَّف وصعب، قلَّةٌ من الشعراء الذين ينتصرون في مغامرة التخييل، ويتجاوزون ما هو عام، وعادي، وهو منهم»، لذا «فهو الاسم الأكثر أهمية، والأكثر وعدًا في اَخر ما كُتب من الشعر اللبناني الحديث»، كما يكون قد أجاب عن السؤال: هل يمكن الجمع بين التراث والحداثة؟ بـ«نعم» محقَّقةً أصالة جديد شعري وثقافي، ينتجه صاحب «ممالك عالية» - 2002، الممتلك تراثه والمنتج حداثته الأصيلة.
  كان صاحب «النازلون على الريح» شاعرًا كبيرًا وناقدًا نافذ الرؤية كما في كتابه «رياح حجرية»  - 1981، وكاتب مقالة صحفية، ومؤرِّخًا، ومثقفًا ناشطًا، وكاتب نثر أدبي. يقول: أنا أتنفس في النثر، وأحلِّق في الشعر، كما أنه كاتب أدب أطفال شعرًا وقصة، فجعل «الألوان تغني»  لهم، وأصدر، في هذا المجال: «كنز في الصحراء» - 1983، «غنُّوا، غنُّوا» - 1984.  نال جائزة سلطان العويس الثقافية دورة 2010-2011، وجائزة الشارقة للشعر العربي سنة 2015. وترك ثلاثة وثلاثين مؤلَّفًا، منها ثلاثة وعشرون ديوان شعر، جُمعت غير مرة، ونُشرت تحت عنوان الأعمال الكاملة، والباقي كتب نثرية نقدية وسيرية، و«كشكولية»، كما في كتاب «حلقات العزلة» - 1993 ، الذي يذكِّر بكتب الأدب التراثية، خصوصًا بكتاب «الإمتاع والمؤانسة»، لأبي حيان التوحيدي، إضافة إلى كتاب ضخم عنوانه: «فهرست الكائنات الشعرية»، في ثلاثة أجزاء، يجسِّد علاقته بالعالم الأدبي طوال نصف قرن، كان مقرَّرًا أن يصدر هذا العام. تُرجم معظم  شعره إلى لغات عالمية، منها الإسبانية والفرنسية والإنجليزية.  

مسار شعري
بدأ شمس الدين محاولاته الشعرية، في آونة مبكرة من عمره. أوَّل محاولة له كانت وهو في الثانية عشرة من عمره، ثم تتابعت المحاولات.  يقول: «كتبت قبل عام 1970 المئات من النصوص التي مزقتها ...». «جذبني، وأنا فتى، أبو العلاء المعري، في آلامه وشكوكه، خاصة منها ألم العقل، فكتبت، أوَّل ما كتبت، أبياتًا تنسج على منواله في الشك والسؤال واللغة». كان الناقد الأوَّل لشعره، فلا يبدأ النشر إلا بعد أن يطمئن إلى الإجادة في شعره، فكانت قصيدة: «ارتعاشات اللحظة الأخيرة» أولى القصائد التي نشرها، في عام 1973.
ولم يلبث أن غدا أبرز شعراء «ظاهرة شعراء الجنوب» التي انطلقت أواخر ستينيات القرن الماضي، من «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي»، برعاية أمينه العام، الشاعر والأديب والناشط السياسي والثقافي، حبيب صادق، ومن شعرائها: حسن عبدالله، وجودت فخر الدين، وشوقي بزيع، وإلياس لحود، ومحمد عبدالله. ما يجمع هؤلاء الشعراء كان الصدور عن خصوصية التجربة الجنوبية (العاملية)، المتشكِّلة من عدة عوامل، منها: امتلاك التراث الأدبي العربي، خصوصًا التراث الأدبي العاملي الذي لم ينقطع العطاء فيه طوال قرون، ومعاناة الحرمان والتهميش التاريخيَّين، ومواجهة اعتداءات الكيان الاستيطاني الغاصب الدائمة، والسعي إلى إقامة دولة حديثة قوية وعادلة، علمًا أنَّه كان، ولا يزال، لكلٍّ من هؤلاء الشعراء صوته الخاص وفرادته الشعرية.
لم ينقطع صاحب «أميرال الطيور» - 1992 عن العطاء، منذ صدور ديوانه الأول. ويمكن القول: إن شعره عرف ثلاث مراحل: أولاها تبدأ بـ«قصائد مهرَّبة إلى حبيبتي آسيا» - 1975، مرورًا  بـ«غيم لأحلام الملك المخلوع» - 1977، وصولًا إلى «الشوكة البنفسجية» - 1981، لغتها متوتِّرة «هائجة، مسنّنة كأنياب القرش»، مثلما يصفها هو، كما في هذا العنوان: «فاتحة للنار في خرائب الجسد»،  وثانيتها تبدأ بـ«أناديك، يا ملكي وحبيبي» - 1979، لغتها كاشفة الواقع، من منظور التأمل العميق الهادئ في مرارات العيش، وفي قضايا الوجود، وتنتهي بـ«ممالك عالية» - 2002، وثالثتها تبدأ بـ«شيرازيات» - 2005، وهي مجموعة شعرية، تتضمن خمسًا وسبعين قصيدة غزل تأسيسًا على غزليات الشاعر الفارسي الكبير حافظ الشيرازي، بعدما رأى صاحب «منازل النرد» - 1999، أنَّ ثمة جاذبًا روحيًا شدَّه إليه، هو «موطن الأسرار». يصدر نصُّ الأنا، في هذه المجموعة، عن نصِّ الآخر، أي إنها تناصٌّ عن مختارات من شعر الشيرازي، وتنتهي بمجموعته الشعرية الأخيرة: «للصبابة، للبلبل والملكوت» - 2021، لغتها لغة الانعطافات الروحية والرؤى العرفانية - الصوفية ومحاولة الإجابة الشعرية عن أسئلة الوجود، مع تأكيد وجود تداخل بين هذه المراحل، ما يجعل صاحب «أما آن للرقص أن ينتهي»  - 1988 شاعر الوجد بهموم الحياة اليومية المعيشة ومراراتها، ومن نماذج وجده بوقائع معاناة اللبنانيين، نقرأ: «فلتَفتح، يا آذار، شبابيك التيه / لي طفل يبحث عن لعبته في قبر أبيه»،  وشاعر الوجود وأسئلته الماورائية، ومن نماذج هذه الأسئلة ما جاء في قصيدة: «يوم الأحد الواقع فيه صمتي»، وهي القصيدة الأولى، من مجموعة: «النازلون على الريح»  - 2013، وتشكل ربع المجموعة، ومهداة إلى الغزالي في محنته، محنة الشك، وجاء فيها: «ماذا بيدي؟ / ماذا أفعل؟ / هل يَوْمي بيدي؟ / وغدي؟/...». وإذ يحاول أن يجيب عن هذه الأسئلة، يقول لابنه الذي يسأله عن الياقوت/الشعر: «ماذا سنفعل بالياقوت، يا أبتي؟» بقوله: «وكلما زاد بعدًا زدته طلبًا»، وهو بهذه الرؤية للكشف الشعري، يعارض سعيد عقل عندما يقول: «الشعر قبضٌ على الدنيا مشعشعةً/ كما وراء قميصٍ شعشعت أنجم»، فيقول: «لكنه شفَّ حتى خلته قمرًا/ خلف القميص، فلما أوشك احتجبا». الشعر، من هذا المنظور، ليس شيئًا سوى الجنون في «موطن الأسرار»، وهو جنونٌ يرقى برؤية صاحبه إلى مرتبة «النشوة الصوفية» التي تبتهج طربًا بالكشف عن الحبيب الذي يظل في حاجة للكشف إلى أن يتم الفناء فيه والبقاء في توحُّدٍ معه. وقد تمثل الكشف عن رؤى الوجد والرؤى إلى الوجود في كثير من القصائد في أقنعة عربية وإسلامية وغربية كثيرة، ما جعله يقول: «أنا شاعر الأقنعة». 
    
الإيقاع الشعري 
وإن عرف شعره تنوُّع اللغة والرؤى الشعرية، فقد عرف كذلك التنوُّع في الإيقاع الشعري بين القصيدة الموزونة والمقفَّاة - نظام الشطرين، والرباعيات، وقصيدة التفعيلة، والشذرات الأدبية النثرية، في مؤلَّفاته النثرية، وهذه الشذرات تقرب من الشعر، جاء في كتاب «الطواف» - 1987، وهو سيرة حياتية وشعرية: «تستوقفني أحيانًا.../ أشجار لا أعرفها.../ تستوقفني، أحيانًا أسئلتي/ وأنا أدخل، في القبر،  لأنساها أتوسل أن تتركني وحدي، فأنا أرغب أن أبكي»، تذكِّر هذه الأشجار التي تستوقفه بـ«سمرات الحي» التي استوقفت امرأ القيس من قبل، وأبكته، فتبدو الشجرات العظام، لدى كلٍّ من الشاعرين، ظلَّا يحنو، ويحيل قيظ الشمس المرَّة فيئًا يُحتمل العيش فيه.
ويبدو أنَّه حسَم الجدل في موضوع الوزن، إذ يقول: ليس ثمة تفعيلة ولا تفعيلة، هناك شعر أو لا شعر، والإيقاع الشعري شيء داخلي يتمثل لغةً موقَّعة، مُمَوسقة، وموسيقى الشعر العربي موسيقات، تؤتيها خصوصية اللغة العربية، فكلُّ مفردة من مفرداتها لها وزن، والنظام الشعري الذي تنتظم فيه يولَد نظامًا موزونًا، الأساس فيه البديهة الشعرية التي يمتلكها الشاعر الحقيقي، ثم تأتي الصنعة الشعرية، فتمايز الشعر يفترض نمطًا من الوعي هو الوعي الفني، وشبكة من أدوات التعبير عن هذا الوعي هي اللغة الفنية، ما يجعلنا نقول: إن الشعر هو اللغة الشعرية واحتمالاتها (رياح حجرية،  75-77).

 إيقاع الانفصال - الاتصال يؤتي جديد الشعر
يرى صاحب «النازلون على الريح» - 2013 أنَّ الشاعر «قصبة مثقوبة ومفتوحة لكل أنواع الرياح ودرجاتها»، وما يجعلها نايًا تعزف ألحانًا فريدة هو أنفاس ذاتية، والسؤال القديم والجديد يبقى: «وأيُّ سرٍّ، في الناي، أودعه الله / يغنِّي، وصدره مثقوب؟!». من هذه الرياح:  التراث الأدبي العربي. يقول، في هذا الشأن: «لا أقبل شاعرًا لا يعرف أوزان الخليل الفراهيدي، ويدَّعي تجاوز الشعر الكلاسيكي . حتى تتجاوز السلفية يجب أن تعرفها. هذا أمر مفروغ منه في الفن»، وإذ يؤكِّد هذا فإنه يؤكِّد في الوقت نفسه، أنَّه لنخلص من السلفية لا بدَّ  من النسيان، كي يمكن أن نكتشف الأشياء كأننا نراها للمرة الأولى بعيون جديدة. والشاعر الذي يمتلك معرفة بتراثه يجب عليه أن يمتلك معرفة بالتراث الإنساني، شريطة أن يسهم هذا التراث، والتراث الوطني، في تشكيل ما سمَّاه  «البديهة الشعرية»، أو «الذات الشعرية»، الرائية إلى المعيش الحياتي. وما يصدر عن الإنجاز التراثي، أو إنجاز الآخر الوافد، مهما كان عظيمًا، أو حداثويًا، يلزمه «طوفان كاسح يطرح كل ما كتب، ويعيد بدء الكتابة من أولها» (القصيدة العربية ومصادر تكونها، الكفاح العربي، 145 / ص.55). ويضيف: إن كنا نبحث عن حداثتنا لدى الغرب، نسأل: كيف ندخل عالمًا في أزمة ذات طبيعة معينة، لنحل أزمة ذات طبيعة أخرى؟!
وإذ يمتلك الشاعر، وهو الإنسان الرائي، الممتلك عينًا ثالثة، «البديهة الشعرية»، يقول صاحب «سطوح غادرت ساكنيها» - 2015، ينبغي أن يرى إلى واقعه المعيش الذي يشكل تجربته ورؤياه، بوصفه ذلك «الكائن الاجتماعي التاريخي» الذي يحمل همَّ الناس والشعر، فيفيض الشعر من قلبه، ليكشف الواقع، فـ«غرنيكا»، اللوحة الخالدة الكاشفة، هي مدينة حقيقية في الأساس. وهكذا فإنَّ «اللقاء بين الثورة الرائية والشاعر إنما يتم في القلب أولًا»، وبهذا تُحلُّ إشكالية الالتزام (راجع للمزيد: رياح حجرية، ص. 57 و76 و53-55 و143). 
في عملية الاتصال يتحقَّق امتلاك المعرفة/التكوُّن، وفي عملية الانفصال يتحقَّق الإبداع / التكوين، والإتيان بالجديد الأصيل. وهذا الجديد ينطق برؤية كاشفة تتمثل في شعرٍ غنيٍّ بالصور والرموز والأقنعة والأسئلة الفلسفية والوجودية، ما جعل المستشرق الإسباني بيدرو مارتينيز يعدُّه «المثال الواضح لما هو جوهري للشعر الحقيقي: إيقاع الاتصال والتجديد».
  
أجمل الخالدين 
قيل قديمًا: «نلد للموت»، ومنذ ولادة المرء يبدأ انتظار الموت. ينشد شاعر «كرسيّ على الزبد» - 2018، في هذا المعنى: «طالما شطَّت بنا سبلٌ/ غير أنَّ الموت يُنتظر»، «فأوَّل الدهر معقودٌ بآخره / وأجمل الناس ما يُلقى في الحفر...»، لكنَّ الشاعر يبدع ما يعصى على الموت، ويكون هذا الإبداع  «معراجه إلى  الخلود»، وجَعْله أجمل الخالدين ■