محمّد علي شمس الدّين مشى عليه الموت فانتصرَت له القصيدة

محمّد علي شمس الدّين   مشى عليه الموت  فانتصرَت له القصيدة

كان الإطار المرجعيّ الثّقافيّ للشّاعر محمد علي شمس الدّين يرعى القصيدة، لكنّه لم يقيّدها، بل تأرجح الخيالُ في سياقاته بين الجنون والتّعقّل الّذي لم يسقط في دورة النّفي أو السّجن، على الرّغم من ارتحال الشّاعر إلى الأحلام ملاذًا من الزّمن وإليه، ارتحال يبدأ بالتّحرّر من أسر الواقع (عالم الاغتراب) بماضيه وحاضره المأزومين بقسوة الحقائق، إلى المستقبل الأفق المائج بالحركة والانطلاق على وقع حال الوعي الّذي يتوسّط بين الشّعور واللاشعور، المستقبل الأمل الآتي الذي يتوجّب بقاؤه في دائرة الإمكان، ففي حال تحقّقه يتهشّم تخيّل الشّاعر، وتذبلُ أحلامه وتهرم وتُهزم، وفي ذلكَ تنتفي شروط بقاء الشّاعر حيًّا في شعره.

 

 لقد مضى أميرالُ الشّعر العربيّ المعاصر تحت تأثير اللّحظة والصّمت، لتكتملَ النّرجسيّةُ المُحقّة بعد أن أمسى الأميرال هو الحدث الشّعريّ، مودعًا شعريّةَ العالم في نصّه، لئلا تنكفئ رؤيتُه بين «جدليّة الخفاء والتّجلّي»، بل لتفتح مسربًا للعربيّة هو بمنزلة مدى لصرخة ثقافيّة حداثيّة بنّاءة متفلّتة من القيود والضّوابط، تنتصر للتّجديد المتوثّب، وذلك لاستنهاض الثّقافة العربيّة المبتلاة بالعقم والجدب منذ تسعة قرون، ولإعادة تشكيل حضورها من وجهة الحداثة الشّعرية الّتي توالت تجلّياتها وفق الخصوصيّة الثّقافيّة والتّاريخيّة لكلّ قطر عربيّ، منذ الخمسينيّات. لكنّ تلك التّجلّيات كانت لها بصمتها الفريدة لدى محمّد علي شمس الدّين، لأنّها في دوّامة تحوّل بفعل تتابع إبداعه الشّعريّ عبر زمن وعيه التّنويريّ التّجاوزيّ، وتنوّع استجاباته للمتغيّرات التّاريخيّة، الإبداع النّاطق بوعي ضدّيّ أو نقضيّ متقدّم هو من الشّروط الملازمة للحداثة، إذ تكون اللّحظة لحظة معرفيّة تبدو فيها (أنا) الشّاعر غير واثقة من شيء، من الإجابات السّابقة والقناعات، ومُعدلة عن النّقل والتّقليد والإجابات الجاهزة، أو اليقين بالمعرفة المطلقة الّتي لا تُنتقد، وهنا يتضاعف القلق، وصورة الواقع الرّماديّة، ومأزق الهويّة، لذا يتحتّم تخطّي الوعي والتّمرّد على طرائقه المستنزفة في الإدراك.

مشروع تغييري
إنَّ التّحوّل الّذي تنطوي عليه رؤية شمس الدّين، في قصيدته الّتي لا تنتهي، يُشكّل نواة مشروع تغييريّ، في تجربة تطلّعيّة طليعيّة متقدّمة هي وليدة الإبحار في ضوء العقل ونظامه إلى حدّ فوضى الخيال المرغوبة الّتي تتشظّى إيحاءاتٍ تنعقد عليها لحظةُ التّحوّل المحقّق الولادة الحداثيّة المتجدّدة لذات شاعرنا، والّتي تثور على أبنيتها الفكريّة فتتجاوزها، مع كلّ نموّ، لتغدو تجلّياتُها في القصيدة - الثّورة البيضاء، ثورة محمّد علي شمس الدّين - المكتنفة المعنى المتخطّي الوعي التّقليديّ المكرور، والّذي لا تقفُ النّفسُ عندَ تمام مقصوده، لأنّ ذلكَ لا يبقي لها شوقًا إليه، لذا يجب ألّا يتمّ الكشفُ عن المغزى الختاميّ في القصيدة، كي تنفتح القصيدة على الزّمن الحضاريّ، غير المؤطّر، المُتجلّي في علاقته بالصّورة المجسّدة باللّغة، أي الألفاظ الّتي تتركّب من مجموعها صورةُ النّصّ الشّعريّ الكبرى، بناءً على رؤية شمس الدّين الّتي تطرحُ الكثير من الأسئلة الحداثيّة القلقة المسهمة في تأسيس زمن الوعي الآتي بعد التّخلّي عن الزّمن القائم وتدميره، وإعادة خلقه وإيجاده، أسئلة تُطرحُ على الثّقافة العربيّة على ضوء أزماتها ورجعيتها، من دون الاستحصال على إجابات، لأنّ الإجابات قيود ومقتلة.
إنَّ رؤية شمس الدّين  بمكوّناتها (الثّقافة والهموم والاهتمامات والقناعات) كشفيّة، تعكس أدبيّة النّصّ الّتي تتملّك المتلقّي بعوالمها المرغوبة المتعالية فيها (أنا) شمس الدّين ليكون (فاعلًا)، يُدخلُ الآخريْنَ في عالمه، ويُغرقهم في تفاصيل أناه وعلاقتها بالشّعر، العلاقة الّتي تنحو لتصبح فعلًا أيديولوجيًّا، يكون المعنى فيها منشعبَ الإحالاتِ التي تصلُ إلى مدلولٍ يتحوّل إلى دالٍ ثانٍ، وهكذا... هذه الإحالات تصوغ موقفَ الشّاعرِ ورؤيتَهُ إلى العالمِ المرجعيِّ، إذ «لا وجود للمعنى إلّا باللّغة، وعالم الدّلالة ما هو إلّا عالم اللّغة» لكن تلكَ الرّؤية غير مستقرّة أو يقينيّة، لأنَّ مكوّناتها رهينة التّغيّرات الواقعيّة (الزّمنيّة والمكانيّة)، والأحوال النّفسيّة، والتّنامي الفكري والمعرفي الذي يقوّي حضور العقل، ويخصّب الخيال، ويغيّر القناعات أو يعدّلها فيشرّع للرّؤية آفاقًا أعمق، لذا يتمرّدُ الوعي وينقد خطابَهُ الفكريّ دومًا، ليؤسّس لوعي تجاوزيّ برؤية متنامية ديناميكيّة تكشف عن أفق غير متناهٍ موازٍ لعمق تجربة شمس الدّين الشّعريّة، التي تخطّت المحاولات إلى الجسارة الكتابيّة بروحيّة المغامرة والجرأة، وذاك الأفق ناطق بالضّوء قرين المغزى الذي لا ينتفي، على الرغم من كثافة الظّلمة المحيطة بواقع الشّاعر اللّبنانيّ والعربيّ، فخلو الرّؤية من الضّوء والمغزى إشارة إلى العجز والاستسلام والارتهان إلى التّشييء، بمعزل عن الحضور الإنسانيّ الفاعل والنّافع. 

مخاطرة شعرية جامحة
لقد وجد المستشرق الإسبانيّ بيدرو مونتابيث أنّ «الشّعر العربيّ يحتاجُ حتمًا إلى المخاطرة، إلى المحاولة، إلى التّجديد، إلى الابتعاد عن التّكرار، إلى هؤلاء التّجريبيّين المبتعدين في ملاصقة الكشف الحديث». وفي هذا السّياق فرض محمّد علي شمس الدّين نفسه حالًا تصدّرتِ المشهد الشّعريّ العربيّ منذ السّبعينيّات، بين مجايليه من الشّعراء، بفعل مخاطرته الجامحة في الشّعر الذي يجدُهُ سفرًا متواصلًا ودؤوبًا في التّجريب على وقع الوزن الذي يشكّلُ هُويّةً وانتماءً لقصيدة التّفعيلة. إنَّ نصّ شمس الدّين الشّعريّ لم يكن قائمًا على توظيف عناصر الصّورة الشّعريّة وتنسيقها وفق مقتضيات شعوريّة مرحليّة تحتّم ولادتها، بل كانت نتاجًا وثيق الارتباط بالمخيّلة الخصيبة القوّة المنتجة للنّصّ، والمساندة في الإطلالة على مفاهيم العصرنة، فهو شاعرٌ نخبويّ مثقّفٌ منفتحٌ ورائيٌّ استثنائيّ بغنى معرفيّ عربيّ وغربيّ جعله في مستوى الحدث وشاعر الأسئلة الكبرى، فقد تملّك ثقافة عصره وحاورها شعرًا، بذات مفرطة بالقلق، مستشرفًا عبرها مستقبل الأمّةُ العربيّةُ المتخبّطة في وحولِ الرّجعيّة والاستنزافِ وجمود الفكر، طارحًا رؤية تجديديّة حرّة لا تخصّ أحدًا سوى أفكاره، رؤية كشفيّة تتعاملُ مع جانبٍ من جوانب العالم المرجعيّ لتغوص فيه وترى ما لا يمكن لأحد رؤيته. كلُّ هذا يشير إلى المستوى الكشفيّ الذي بلغه وعي الشّاعر الذي رفد الشّعر العربيّ بمظاهر التّجديد الذي فيه  تعالٍ لفرديّته، وانطلاقة خياله خارج سياق الـنـّسق وإيديولوجيا الجماعة والتّقليد.
لم يتبرّأ الشّاعر الوجوديّ من الموروث العربيّ والإسلاميّ الثّقافيّ، على الرّغم من تخطّيه النّسق الأيديولوجيّ الجمعيّ، بل انحاز إليه عبر محاورته، وقد خاض في التّاريخ ووقائعه المفجعة، ورموزه التّاريخيّة والدّينيّة وأخرجها بروحيّة العصر، محمّلًا إيّاها محمولًا حداثيًّا، مكثّفًا فيه الزّمن عبر جهد متفرّد إلى حدّ الخلق والإبداع، فالرّموز تُضفي على صوت الشّاعر نبرة تخزن زخمًا مدلوليًّا يكشف عن العوالم غير العاديّة، والتي غالبًا ما تُحدُّ فاعليّة اللّغة منهجيًّا في الكشف عنها لارتباطها باللّاشعور، لذا تأتي الحاجةُ الماسّةُ لابتكارِ السّبلِ والوسائلِ المعوِّضةِ القصورَ، منها توظيفُ الرّمز والصور البيانيّة في سياقاتِ التّأليف. والرّمز ينطق بصوت الشّاعر ليتحقّق التّفاعل مع صوت الشّخصيّة التّاريخيّة أو ظواهر الطبيعة، فهو يتيح للشّاعر إمكانات تشرّع له الآفاق إلى أقصى مرتبة للتّعبير عن الهموم. لقد حاور شمس الدّين في شعره الحبّ والكره والعذاب والألم والحرّيّة والانبعاث... ووظّف الرّموز الّتي تعكس الثّنائيّة الضّدّيّة (الحياة/ الموت) الّتي شكّلَتْ البِنية الكلّيّة لدواوينه، مع ما ينسرب منها من ثنائيّات جزئيّة متقاطبة، تستحضرُ المهيمنة منها نقيضتها، حتّى لو كانت في حضرة الغياب، وكانت توحي بدلالات الإيمان بقربِ المخاض والقيامة، بفعل إدراك معنى الحياة، وتعاقب دورةِ الميلاد والموت في تلك الرّموز التي تكتب زمنينِ على حدِّ نقيض، إذ تنطلقُ منْ دمارِ العالمِ لتعيدَ تشكيلَهُ عالمًا يُنفى فيهِ النّقيضُ بالنّقيض، إذ لا سبيل للخلاص إلّا بالموتِ، وفي ذلكَ إمكانيّةٌ لمجاوزة العالمِ بالعالمِ، فالتّضادُ أو الصّراعُ يضمرُ إمكانيّةَ المجاوزة الذّاتيّة في العالمِ بالعالمِ.
لقد وجد الشّاعر في الموت بلوغ الكمال، لذا تراوح شعره بين الغنائيّة وبُعدِ التّصوّف، خصوصًا حين اختمرت تجربته الشّعريّة في ديوانيه الأخيرين «كرسيّ على الزّبد» و«خدوش على التّاج» الذي لا يزال قيد الطباعة، وقد نشر الشّاعر بعض قصائده عبر صفحة الفيس بوك. لقد قارب شمس الدّين فكرة الموت بعين العقل والحكمة التي توطّد الصّلة بالإله المطلق، ليحصل التّماهي على وقع التّصوّف والفيوضات العرفانيّة، بحيث تتجرّد الذّات من ذاتيّتها المادية لترقى وتفنى في محبوبها، وهنا كانت تتجلّى صور الشّعريّة الجديدة الجاذبة والمستفزّة لدى شمس الدّين، وهو القائل في وصف شعر أحد أصدقائه: «هذا شعر غير شعريّ. شعر غير أدبيّ. جديد وجميل. مستفزّ ووقح. كلّ جديد وقح. أعني أنّه حقيقيّ ويأتي من خارج سياق الأدب»، وفي ذلك إشارة إلى وجوب التّمتّع بالفرادة والخصوصيّة اللّتين تتخطّيان السّمات المختزنة من تجارب كبار الأدباء، ولا تدخل في خضمّ التباسات الغموض، أو الغربة النّخبوية التي تفرض نفورًا ومسافةً بين نصّ الشّاعر والمتلقّي بشتّى مستوياته الثّقافيّة، بل تقحم الأخير في المنشعبات الدّلاليّة، وما ينكشفُ من تجلّيات روحيّة، على وقع فرادة الرّؤية الّتي هي أعمقُ من غاية جماليّة تستلُّ المؤثّرات من الخصوصيّة التّركيبيّة والسّياقيّة للعبارات والانزياحات والرّموز التي يلتجئ إليها شمس الدّين ليقول قلقه، تزامنًا مع عالمه الدّاخليّ (الفكريّ والوجدانيّ) المتحرّك إلى حدّ العصف خارج الإرادة، وهنا يتوازى المسار بين الرّؤية واللّغة، وبينهما وبين العالم المرجعيّ لتسقطَ الحدودُ لصالح الهمّ الوجوديّ، والأسئلة الكبرى. لقد استحقّ شمس الدّين ما قاله فيه المستشرق الإسبانيّ بيدرو مونتابيث: «يبدو لي أنّ محمّد علي شمس الدّين هو الاسم الأكثر أهمّيّة والأكثر وعدًا في آخر ما كتبَ من الشّعر اللّبنانيّ الحديث. في هذا الشّاعر شيء من المجازفة مكثّفٌ وصعب... شيء ما يبعثُ على المجرّد المطلق... وقلّة هم الشّعراء الّذين ينتصرون في مغامرة التّخيّل... وهؤلاء يعرفون أنَّ مغامرتهم مجازفة كبرى»... 
مضى محمّد علي شمس الدّين مُشرّعًا برحيله آفاق الرّؤية لتنصفه القصيدة، بعدَ أن صار سؤالًا شعريًّا كبيرًا، وتنتصرَ لوحيه الشّعريّ الكشفيّ، وليكونَ الزّمنُ العربيُّ المعاصرُ ممتدًّا من شاعر، قد نُحرمُ من تكراره أو تعويضه، أو نحتاج زمنًا كي يحينَ قرينُه... رحلَ جميلًا كي يظلَّ يُبعث شعرًا، بعدَ أنْ دخلَ في مطاوي نصّه:
 «فأوّلُ الدّهرِ معقـــودٌ بآخرِه
وأجملُ النّاس ما يُلقى إلى الحفرِ» ■