تجليات المدينة الأندلسية في الرواية العربية

تجليات المدينة الأندلسية في الرواية العربية

دفعتني قراءتي لرواية «عذراء غرناطة: حب بين مدينتين... غرناطة وشفشاون» للروائي المغربي سعيد العلام، الصادرة في طبعتها الأولى عن دار كتارا للنشر 2021 (حازت على «جائزة كتارا للرواية العربية» 2020)، إلى تجديد علاقتي بطبيعة التراكم الروائي التاريخي العربي، في تناميه ورصده، بعديد من نصوصه، للأندلس، في تاريخها وشخصياتها وأحداثها ومدنها، وفي مراحل ازدهارها وانحطاطها وأفولها.

 

 ومن المعلوم أن الرواية العربية، كغيرها من الروايات في أقطار عالمية أخرى، قد ارتبطت بالتاريخ، في مراحله الزمنية وتمظهراته المختلفة، بشكل تولد معه ظهور مغاير روائي جديد، هو «الرواية التاريخية»، وقد أصبح من بين أهم المغايرات الروائية المهيمنة في الرواية العربية والعالمية، في تجلياته التعبيرية والسردية والتخييلية والحكائية والدلالية المختلفة.
إذا كانت مجموعة من نصوص الرواية العربية منذ نشأتها، قد اهتمت برصد جوانب من التاريخ العربي، في عصور وحقب مختلفة، قديمة وحديثة عبر استلهامها سير عديد من الشخصيات التاريخية المعروفة، كما قام بذلك جورجي زيدان في جل رواياته التاريخية، رغم ما قيل عن مستواها الفني وكما تعكس ذلك عناوين عديد من رواياته الحاملة أسماء شخصيات تاريخية عربية أو ألقابها، نذكر منها، على سبيل المثال: «العباسة أخت الرشيد»، و«شارل وعبدالرحمن» و«عبدالرحمن الناصر»، و«الحجاج بن يوسف»، و«صلاح الدين الأيوبي»، و«أحمد بن طولون»، و«الأمين والمأمون»، و«أبو مسلم الخراساني»، وغيرها، فإن الرواية العربية الجديدة بدورها، في مجموعة من نصوصها التاريخية، قد واصلت هذا المنحى الإبداعي، وإن بمستويات أكثر نضجًا وفنية، على مستوى اهتمامها برصد سير بعض الشخصيات التاريخية، حتى على مستوى إبراز مجموعة من الروايات، لأسماء شخصياتها وألقابها في عناوينها. ويكفي أن نذكر، هنا، على سبيل المثال فقط، بعض تلك الروايات، من قبيل: «وزير غرناطة» (عن لسان الدين بن الخطيب) لعبدالهادي بوطالب، و«مجنون الحكم» (عن أبي علي منصور الملقب بالحاكم بأمر الله الفاطمي) و«العلامة» (عن عبدالرحمن بن خلدون) و«هذا الأندلسي» (عن عبدالحق بن سبعين) لبنسالم حميش، و«ليون الإفريقي» (عن الحسن بن محمد الوزان) لأمين معلوف، و«جارات أبي موسى» (عن أبي موسى الصوفي) لأحمد التوفيق، و«الإمام» (عن المهدي بن تومرت) لكمال الخمليشي، و«الأمير» (عن الأمير عبدالقادر الجزائري) لواسيني الأعرج، وغيرها.

تاريخ الأندلس في الرواية العربية
فضلا عن ذلك، اهتمت الرواية التاريخية العربية، في مجموعة من نصوصها بتاريخ بلاد الأندلس، في حقبها التاريخية المختلفة، منذ ما سمي بالفتح الإسلامي للأندلس إلى سقوط آخر ممالك المسلمين، مدينة غرناطة، مستوحية فيها بعض المدن التاريخية الأندلسية، باعتبارها تلعب هي أيضًا دور البطولة في تلك الروايات المستوحية لتاريخ الأندلس، وذلك بشكل جعلها تتفاعل مع هذا المكون الفضائي في عناوينها، كما هي الحال، على سبيل المثال، بالنسبة للروايات التالية: «وزير غرناطة» لعبدالهادي بوطالب، و«ثلاثية غرناطة» لرضوى عاشور، و«راوي قرطبة» لعبدالجبار عدوان، و«ربيع قرطبة» لحسن أوريد، و«غرناطة الحصن الأخير» لفايز رشيد، وغيرها من الروايات الكثيرة عن الأندلس، والحاملة لعناوين أخرى مغايرة.
 وفي هذا الإطار نفسه تبدو علاقة الرواية العربية، منذ نشأتها، بتاريخ بلاد الأندلس، علاقة مترسخة في التاريخ والوجدان، وممتدة في عديد من النصوص الروائية، منذ نشأة الرواية العربية، في استيحائها جوانب من تاريخ الأندلس في فتراته المتعاقبة منذ ما قبل الفتح الإسلامي إلى ما بعد استسلام غرناطة للتاج الإسباني، حيث ظلت الرواية العربية، منذ مراحلها التأسيسية، في تفاعل تخييلي - حكائي مع تاريخ الأندلس، في حقبه التاريخية المختلفة، في صعودها وبطولاتها وأمجادها، وفي تدنيها ونكستها وسقوطها.
ويكفي هنا أن نستحضر أن بعض المحطات المجسدة لبداية الرواية العربية، كانت في بعض نصوصها مرتبطة بالتاريخ العربي عمومًا، وبتاريخ الأندلس بصفة خاصة، كما تجلى ذلك في بعض روايات جورجي زيدان التاريخية، على الأقل في ثلاث من رواياته: «فتح الأندلس أو طارق بن زياد»، و«فتاة القيروان»، و«عبدالرحمن الناصر»، وفيها يتناول جورجي زيدان جوانب مختلفة وممتدة من تاريخ الأندلس.
في حين نحت الرواية العربية الجديدة، في بعض نصوصها التي تفاعلت مع تاريخ الأندلس، منحى آخر مغايرًا، في تركيزها، هي أيضًا، على الفضاء الروائي فيها تحديدًا، مجسدًا في استلهام بعض المدن الأندلسية، موازاة مع استلهامها لسير الشخصيات التاريخية، من حقب مختلفة، كما في مجموعة من الروايات، أتينا على ذكر بعضها.
واللافت للنظر هو تزايد اهتمام الرواية العربية باستلهام بلاد الأندلس في نصوصها المتعاقبة، خصوصًا منذ بداية العقد الأول من الألفية الثالثة، وهو ما يعكسه عدد النصوص الروائية الصادرة خلال هذه الفترة، على مستوى عديد من المشاهد الروائية العربية، من المحيط إلى الخليج، وذلك بشكل يستدعي اليوم طرح سؤال حول طبيعة هذه الانعطافة الروائية التراكمية، نحو استعادة تاريخ الأندلس تخييليًا، في شخصياتها وقصصها ومدنها وأحوالها ومصائرها، وفي تحولاتها التاريخية والسياسية والاجتماعية، عبر التفاعل مع حقبها التاريخية ومع تقلبات نظم الحكم فيها ومآسيها.

ثيمة المدينة الأندلسية 
ومن بين الثيمات المهيمنة في الرواية التاريخية العربية، وفي غيرها من الروايات التاريخية الأجنبية، تلك المجسدة في احتفاء الرواية التاريخية المتزايد بالمدينة الأندلسية تحديدًا، في عديد من نصوصها العربية، بما تجسده تلك الهيمنة من تجليات مختلفة لصور المدينة الأندلسية، في تحولاتها ومصائرها ونهضتها وسقوطها، على امتداد حقب تاريخية مرت بها.  
ومن بين الروايات الأجنبية الصادرة في هذا المجال نذكر على سبيل المثال: «عذراء غرناطة» للكاتب الفرنسي إسكندر دوماس (1960)، و«المخطوط القرمزي» للكاتب الإسباني أنطونيو غالا (1990)، و«الضوء الذي كنا عليه... ثورة قرطبة 1009م» للكاتب الروائي الإسباني أنطونيو مانويل (2022)، و«أسبوع في الأندلس» للروائية التركية رانا ديميريز (2022)، وغيرها من الروايات الأجنبية، التي تفاعلت مع تاريخ الأندلس، من زوايا سردية وحكائية ومرجعية مختلفة، ومن منظورات تاريخية وسياسية ودينية وثقافية متباينة.
وفي هذا الإطار، ساهمت الرواية المغربية بدورها، ومنذ نشأتها، في إثراء مدونة الرواية التاريخية العربية، بما قدمته من نصوص روائية، ما فتئ عددها يتزايد في العقود الأخيرة، وإن بشكل لايزال محتشمًا، ولم يرق بعد إلى ما كان منشودًا منها، اعتبارًا لتضافر عديد من الشروط والمعطيات الإنسانية والتاريخية والجغرافية والثقافية، والتي كان من المفروض أن تحفّز الروائيين المغاربة على استيحاء تاريخ الأندلس، وأن تجعل الرواية المغربية، بشكل خاص، أكثر ترحيبًا واحتفاء بالأندلس وتاريخها، في شخصياتها وأبطالها وحكاياتها وحروبها وجرائمها ومدنها ومتخيلها، ربما أكثر من غيرها من الروايات في بلدان أخرى، وهو ما تحاول الرواية الإسبانية نفسها اليوم استدراكه، عبر انشغال كتابها بالرواية التاريخية الأندلسية، بشكل جعل القارئ الإسباني يتلقى تاريخ الأندلس من موقع اكتشاف ممتع، على حد تعبير الروائي الإسباني المالقي «خوسيه مانويل غارسيا مارين»، الذي يعتبر أحد رواد الرواية التاريخية الأندلسية، حيث استغرقت الأندلس كل أعماله الأدبية وأبحاثه.
 وضمن هذا السياق، لا بأس أن نعيد الإشارة، إلى بعض النصوص الروائية المغربية التي تفاعلت مع المحكي التاريخي الأندلسي، في استيحائها لبعض الشخصيات التاريخية الأندلسية، من ناحية، ورصدها بعض مدن الأندلس، من ناحية ثانية، من قبيل: «وزير غرناطة» (1960)، و«هذا الأندلسي» (2007)، و«الموريسكي» (2011) و«ربيع قرطبة» (2017) و«زينة الدنيا» (2021) (لحسن أوريد)، و«عذراء غرناطة» (2021).
وتبقى مدينة «غرناطة» الأكثر حضورًا في الروايات التاريخية العربية، وفي غيرها من الروايات الأجنبية عن الأندلس، ولربما يعود اهتمام الروائيين بغرناطة أساسًا لكونها تشكّل آخر معاقل الأندلس التي سقطت، بما أعقب سقوطها من نكسات ومآسٍ، فضلًا عن دوافع أخرى جعلت هذه المدينة بالذات تحظى باهتمام كثير من الروائيين، إلى جانب مدن أندلسية أخرى موازية: (قرطبة، مورسيا، ماربيا، إشبيلية، بلنسية، طليطلة، الجزيرة الخضراء...)، فضلًا عن ذلك، اشتهرت مدينة غرناطة بوصف «العذراء»، كما في عناوين روايات مذكورة، بما هو وصف جار في بعض نصوص الرواية العربية والعالمية، كما هي الحال في الشعر أيضًا. فهذا الشاعر عبدالوهاب البياتي، على سبيل المثال، في قصيدته «الموت في غرناطة»، ما فتئ يكرر وصف غرناطة بالعذراء «أيتها العذراء».

استلهام تاريخ غرناطة
وعلى الرغم مما تحقق من تراكم روائي نسبي حول مدينة «غرناطة»، نجد أن الرواية العربية قد واصلت استلهام تاريخ هذه المدينة، وبمستويات مختلفة ومن منظورات زمنية متداخلة، تمزج الماضي بالحاضر والمستقبل، كما هي الحال في واحدة من آخر الروايات المنشورة، هي رواية «عذراء غرناطة» للروائي سعيد العلام، في اتخاذها من سقوط مدينة «غرناطة»، في الأندلس، ومن مدينة «شفشاون»، في المغرب، مجالًا لتوليد المحكي الروائي التاريخي حول شخصية «يوسف»، أحد المهجرين من غرناطة الذين استقروا بشفشاون، وحول أسباب هزيمة غرناطة وانتكاستها.
وتذكرني هذه الرواية في انفتاحها الفضائي المديني، برواية أخرى سابقة، هي «سلام» (2008) للروائي السعودي هاني نقشبندي، في اتخاذ هاتين الروايتين معًا من مدينتي «غرناطة» و«شفشاون» (الشاون في رواية «سلام»)، فضاءين مركزيين فيهما، إلى جانب مدن أخرى موازية، وذلك بغاية تمرير أطروحتيهما.
فإذا كانت رواية «المخطوط القرمزي» لأنطونيو غالا، تعيد النظر في بعض المسلمات، من قبيل تلك التي تتهم الأمير «أبا عبدالله الصغير» بالخيانة، وتُحمله مسؤولية تضييع الأندلس، بمن فيهم أمه التي أطلقت في وجهه صرختها الشهيرة، وقتئذ «ابك كالنساء ملكًا لم تصنه كالرجال»، وهو ما جعل رواية غالا تعيد الاعتبار لأبي عبدالله الصغير، في حين وقفت روايات أخرى عند حدود تحميله مسؤولية تضييع ملكه، وبالتالي تضييع آخر قلاع الأندلس، كما أنه الأمير الذي تعتبره الرواية منتميًا جسدًا وروحًا للأندلس، في حين زايد عليه المعتدون بالانتماء إليها، وبذلك تنتصر رواية أنطونيو غالا للثقافة؛ إذ بسحرها ترى هذه الرواية أنه تم فتح الأندلس، وليس بقوة السلاح، إذا كان الأمر كذلك في رواية «المخطوط القرمزي»، فإن رواية «سلام»، تجسد بدورها بعض الاختلاف مع ما سبقها من نصوص روائية، في استلهامها تاريخ الأندلس، وذلك اعتبارًا لكونها رواية اختارت النفاذ إلى عمق التاريخ، انطلاقًا من لحظة الحاضر، ومن استشراف المستقبل، من دون أن تكون رواية تاريخية صرفة، وإن كان السؤال التاريخي فيها يطفو على سطح محكيها العام، وذلك بغاية تحرير التاريخ من سلطة الوهمي، وأيضًا لتنزع عنه تلك الصورة التقديسية والوثنية. ومن ثم، فهي رواية تعيد خلخلة ذلك الانشداد العربي التاريخي والنوستالجي بالأندلس، باعتباره انشدادًا غير مبرر، ليس حضاريًا، ولا تاريخيًا، ولا وجدانيًا، وفق نظرة نقدية، لا تلغي التوسل بدرجة كبيرة من الجرأة في إعادة البحث في فترة زمنية، وفي حقبة حضارية أسالت حبرًا كثيرًا ■