محمود الفلكي وخريطة الإسكندرية القديمة

محمود الفلكي  وخريطة الإسكندرية القديمة

الإسكندرية مدينه قديمة يرجع تاريخ إنشائها إلى سنة 332 قبل الميلاد، بُنيت على أطلال مدينة أقدم عرفت باسم راقوده (راكوتيس)، وظلت عاصمة لمصر حتى منتصف القرن السابع الميلادي عندما دخلها عمرو بن العاص حاملًا لواء الإسلام، ونقل العاصمة إلى الفسطاط تلبية لرغبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. 

 

تعرضت الإسكندرية عبر تاريخها الطويل لعوادي الزمن وتعاقب العصور، فقد تعرضت لزلازل مدمرة وموجات مد بحري طغت على كثير من شواهد مجدها الغابر، وزارها كثير من رحالة العصور الوسطى ووصفوها أرضًا وسكانًا وثقافة، دون خريطة عمرانية مناسبة لعصرها، وذلك للوقوف على ملامحها المميزة في تلك العصور، واستمر ذلك حتى الحملة الفرنسية التي رسمت لمنطقة الإسكندرية خريطة عامة للظاهرات الطبيعية في بيئتها آنذاك. حتى جاء محمود باشا الفلكي بتكليف من الخديو إسماعيل الذي تولى حكم مصر في الفترة من 1863 - 1879م، ليبحث عن المدينة القديمة من خلال التنقيب الأثري وحفر المجسَّات في أرضها الواحد تلو الآخر، ومستعينًا بمراجع متعددة عن تاريخ المدينة عبر العصور، حتى تمكن من تحديد حدود المدينة القديمة وتتبّع مسار شوارعها الأصلية، وأنجز الفلكي كل ذلك في كتاب باللغة الفرنسية مصحوبًا بخريطة هي الأولى من نوعها لطبوغرافية المدينة القديمة، بل وثيقة تاريخية وجغرافية عن مدينة الإسكندرية في العصرين اليوناني والروماني، وهو يحمل عنوانًا باللغة الفرنسية هو: 
«Memoire Sur L’Antique Alexandria: Ses Faubourgs et Environs Decouverts, par  les Fouiles, Sondages, Nivellements  et Autres Recherches».     
وطبع في كوبنهاغن بالدنمارك سنة 1872، وترجمه إلى اللغة العربية حفيده السفير محمود صالح الفلكي، وطبعت النسخة بالقاهرة عام  1967م، بعنوان: «رسالة عن الإسكندرية القديمة وضواحيها والجهات القريبة منها التي اكتشفت بالحفريات وأعمال سبر الغور والمسح وطرق البحث الأخرى».
وتولت طباعته الهيئة المحلية لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بالإسكندرية سنة 1967، ثم أعادت مكتبة الإسكندرية طباعته سنة 2019 في ثوب قشيب وطباعة أنيقة.
 ورغم أن الفلكي كان من نوابغ علماء الرياضة الذين خلَّد التاريخ أسماءهم من رجال القرن التاسع عشر، فإن أبرز ما قام به هو هذا الكتاب عن وصف مدينة الإسكندرية القديمة بعدما كشف بنفسه شوارعها وضواحيها وأبنيتها وشواطئها، وصوَّر ذلك كله في خريطة متصلة ضمن هذا الكتاب القيم الحافل بالمعلومات التاريخية والجغرافية. وقد كشف الفلكي في حفائره عن الإسكندرية القديمة، أنها تتكون من سبعة شوارع تمتد من الشرق إلى الغرب، وأحد عشر شارعًا تمتد من الشمال إلى الجنوب، وكل هذه الشوارع مرصوفة بالبازلت الأسود، وكان يحيط بالمدينة سور عظيم ذو أبراج عالية وحصون، وأبواب كثيرة أهمها باب الشمس في الشرق وباب القمر في الغرب، وكان هذان البابان يمثلان نهايتي شارع كانوب الرئيسي. وقد بلغ طول السور نحو 15 كيلومترًا.
وقد بُني هذا السور لحماية المدينة من الغارات والدفاع عنها في الحروب.  ومن الراجح أنه بُدئ في بنائه في عهد الإسكندر، ثم أتمه البطالمة، وزاد عليه تحصين الرومان بعد ذلك. وقد كشف الفلكي عن هذا السور القديم، وبين أساسات الأجزاء التي كشف عنها، وكان عرضها خمسة أمتار، وأنها بُنيت من الأحجار المأخوذة من محاجر المكس، وقد ذكر  (استرابون في القرن الأول قبل الميلاد) أن مدينة الإسكندرية كان طولها نحو 5.5 كيلومتر، وعرضها 1.5 كيلومتر، أي إن مساحتها نحو  8.25 كيلومتر مربع.
 والواقع أن كتاب الفلكي عن الإسكندرية القديمة عمل علمي تطبيقي أماط اللثام عن مرحلة النشأة المبكرة لها، وقد أشار العالم الكبير محمد صبحي عبدالحكيم في كتابه عن مدينة الإسكندرية الصادر في سبتمبر 1958، إلى أنه ليس بين أيدينا من كتابات الأقدمين عن وصف الإسكندرية في العصر اليوناني - الروماني أوثق من وصف «أسترابون» لها، وإن كان الفضل الأكبر في تعريفنا بالمدينة القديمة وطبوغرافيتها يرجع إلى المهندس المصري محمود باشا الفلكي. لقد عهد إليه الخديو إسماعيل في عام 1865 بدراسة طبوغرافية المدينة، ورسم خريطتين لها، إحداهما توضح معالمها القديمة في العصر اليوناني والروماني، والثانية توضح معالمها الحديثة كما كانت وقت رسمها - أي في عهد الخديو إسماعيل. وقد استجاب محمود الفلكي لدعوة الخديو ورسم الخريطتين، وهما اليوم، فضلًا عما كتبه شرحًا لها، أدق المراجع لدراسة طبوغرافية المدينة في العصرين القديم والحديث.
 
نشأة محمود باشا الفلكي
وُلد محمود الفلكي عام 1815 بقرية الحصة من أعمال مديرية الغربية،  وتلقي تعليمه في مرحلته الأولى بكتّاب القرية على غرار أبنائها حتى العاشرة، ثم أخذه شقيقه الأكبر معه إلى الإسكندرية وألحقه بالمدرسة البحرية التي أنشئت سنة1827، وكانت تابعة لدار الصناعة (الترسانة) التي أنشأها محمد علي وجلب لها الفنيين الأوربيين خاصة الفرنسيين والإيطاليين والمالطيين، وفي هذه المدرسة البحرية أظهر محمود الفلكي نبوغًا مبكرًا، فكان من أوائل طلابها، ثم ألحق بمدرسة المهندسخانة عام 1834 فأتم علومه بها وكان من نوابغها،  وتخرج عام 1839 وكان أول دفعته وعُين معيدًا بالمدرسة لتدريس علوم الجبر والرياضيات، وفي هذا العام ذاته بدأ علي مبارك يتتلمذ على يد محمود الفلكي.
وكان الفلكي شغوفًا بالعلوم الرياضية، لاسيما علم التفاضل والتكامل، كما كان شغوفًا بإتقان اللغة الفرنسية مما ساعده على ترجمة أول كتاب في هذا العلم الرياضي من الفرنسية إلى العربية، وكذلك كان مغرمًا بعلم الفلك الذي أولع به عندما كان يقوم ببعض أعمال الرصد بالرصدخانة، التي كان قد شرع في بنائها. 
وفي هذه الحقبة الزمنية (الأربعينيات من القرن 19) ألَّف الفلكي كتابًا بعنوان (نبذة مختصرة في تعيين عروض البلاد وأطوالها، وأحوالها المتميزة وذوات الأذناب واللحى)، وفي هذا الكتاب أوضح الفلكي ضرورة معرفة الملاحين مواضع سفنهم على الكرة الأرضية، وتعيين مواقعها كي لا يضلوا الطرق، ويقعوا في أخطاء خطيرة بالنسبة لقربهم من الشاطئ.  ووضح الفلكي أن تعيين كل بقعة على الأرض يتطلب معرفة خط طولها وخط عرضها.
وفي عام 1848 في عهد «عباس الأول» رشحه تلميذه الوفي علي مبارك للسفر في بعثة إلى فرنسا - فسافر إليها عام 1850 للتخصص في العلوم الرياضية والفلكية بمدينة باريس تحت إشراف مسيو (لوفيرين) رئيس مرصدها الفلكي، واستمر في تلقي العلم تسع سنوات وأتم خلالها دراستها العلمية وقام أثناءها بجولات عدة في كثير من الأقطار الأوربية، وقدم بعض مؤلفاته إلى مجامعها العلمية، ثم عاد إلى الوطن في عام 1859 في عهد «سعيد الأول» وكان عمره 44 سنة، وتم انتخابه عضوًا في المجمع العلمي المصري الذي كان نابليون بونابرت قد أنشأه أثناء الحملة الفرنسية على مصر، ثم عهد إليه وكالة هذا المجمع عام 1880، وقد كان في الوقت ذاته وكيلًا للجمعية الجغرافية المصرية منذ إنشائها، وتولى رئاستها أواخر أيام حياته.

أفضل الأعمال الجغرافية
وقد كلّفه «سعيد الأول» برسم خريطة الوجه البحري والوجه القبلي، فرسمها غاية في الدقة والصحة، وقد طبعتها الحكومة على نفقتها ولا تزال إلى الآن مرجعًا للباحثين. وقد استغرق إعداد هذه الخريطة التاريخية المدة من عام 1859 إلى عام1869، وتعد من أفضل وأنفس الأعمال الجغرافية التي تمت في هذا الوقت بإمكانياته المتاحة آنذاك.
وفي يونيو 1871 عين الفلكي ناظرًا لمدرسة المهندسخانة، وبقي في هذه الوظيفة إلى أغسطس من السنة نفسها، ثم قضى أكثر مدة خدمته في عهد الخديو إسماعيل ناظرًا للمرصد الفلكي، وكرّس أوقات فراغه للتعليم والتأليف وأعمال أخرى كثيرة ومفيدة مثل ترميم مقياس النيل بأسوان، وقد ناب عن الحكومة المصرية في المؤتمر الجغرافي الذي عقد في باريس عام 1875.
وفي أوائل عهد الخديو توفيق - ناب عن الحكومة المصرية في المؤتمر الجغرافي الذي عقد في مدينة البندقية عام 1881. وعند اندلاع الثورة العرابية الوطنية ونشوب الحرب التي شنتها بريطانيا على مصر وحملتها الاستعمارية الغادرة، كان الفلكي وكيلًا لنظارة المعارف تحت رئاسة علي باشا مبارك، وفي وزارة نوبار باشا التي شكلت سنة 1884 عُين ناظرًا للمعـارف خلفًا لعلـي باشـا مبارك، وظـل يشغـل هـذا المنصـب إلـى أن وافتـه المنيـة فجـأة فـي 19/7/1885 عن عمر ناهز السبعين عامًا وبضعة أشهر.
وتكريمًا له واعترافًا بأعماله المأثورة في اكتشاف تاريخ الإسكندرية القديمة وتسجيلها، أطلق مجلس بلدي الإسكندرية اسمه على أهم شوارع وسط المدينة ■