قصر البديع بمراكش أعجوبة الدنيا

قصر البديع بمراكش أعجوبة الدنيا

كلما حاولت الكتابة عن تاريخ مراكش المغربية انتابتني الحيرة من أين أبدأ، وأين أنتهي؟ فكل شبر فيها تاريخ متحرك: أسوارها وأبوابها وقصورها ومساجدها وحدائقها وساحاتها وعلماؤها وأولياؤها وحكايات ناسها.  وتزداد هاته الحيرة، حول ماذا سأكتب؟ هل سأكتب أكثر مما كتبه عبدالعزيز الفشتالي وعبدالهادي التازي؟ ما يجعلني في أحايين كثيرة أصرف النظر، وأنوء عن الكتابة عنها، معرفًا بمناطق أخرى من مغرب الحضارات والتعدد والغنى التراثي، لكن زيارتي الأخيرة إلى مراكش وقضاء أزيد من أسبوع متنقلًا بين مآثرها التاريخية شكّلا فرصة جديدة لإعادة الغوص في تاريخها وكشف خباياه، على أمل التعريف بها، كل على حدة. 

 

فبعد مقالنا «حدائق ماجوريل... سحر طبيعي وسط مراكش المغربية»، سنحاول في هاته المقالة التعريف بأحد قصور المدينة وهو قصر البديع الذي لقبه الرسام الهولندي أدريان ماثام بأعجوبة الدنيا. فما سبب تسميته بالبديع؟ وما مراحل بنائه وميزاته العمرانية؟ وكيف تعرض للتخريب وما جهود المحافظة عليه؟

في أسباب البناء والتسمية ومراحله
بعد انتصار أحمد المنصور السعدي في معركة وادي المخازن على البرتغاليين بزعامة دون سبستيان، سعى إلى بناء القصر البديع في مراكش كشاهد على انتصارات الدولة السعدية وسعيًا لتخليد اسمه في التاريخ.  
وقد تحدث عن ذلك الفشتالي في «مناهل الصفا»، بقوله: «... أجمل به ذكر ما صنعه بنو العباس ببغداد، وبنو مروان بالشام، وبنو عبيد بالقاهرة،... وسائر ما يعزى إلى أولي السلطان الأكبر من القياصرة والأكاسرة».
وسمي بالبديع، الذي هو اسم من أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين، لأنه لا مثيل له باعتباره تحفة عمرانية وهندسية فريدة، وكذلك نسبة إلى لبديع بالعامية المغربية الذي يقصد به الخزف، لكونه استعمل بكثرة في بنائه بمختلف أنواعه وتشكيلاته.
وقد شرع في بناء قصر البديع عام 986هـ /1578 م، واستمر البناء لمدة 16 سنة، إذ لم تنتهِ به الأشغال إلا عام 1002 هـ/ 1594م. وجلبت مواد البناء من مناطق مختلفة من الشرق والغرب: تنبكتو، أوربا، والهند، والبرازيل، ما جعل قصر البديع يعكس قمة الإبداع العمراني السعدي، لذلك خصص للاستقبالات والتشريفات السلطانية وللحفلات التي كانت تقام في الأعياد الدينية، وحفلات الولاء التي كان يحضرها العلماء والأدباء والشعراء والأعيان، وممثلو الدول التي تربطها علاقات دبلوماسية مع الدولة السعدية.

معالمه وميزاتها
أما معالم قصر البديع، فقد وصفها الذي عاشوا في تلك الفترة، أو بعدها بفترة زمنية قريبة، ونخص بالذكر:
عبدالعزيز الفشتالي، ولد عام 1549م وتوفي سنة 1621م وهو شاعر ووزير ومؤرخ، وهو الشخصية البارزة في الأدب السعدي، الذي تبوأ وزارة القلم في بلاط أحمد المنصور، من مؤلفاته «مناهل الصفا في أخبار الملوك الشرفاء»، و«مقدمة فــــي ترتيـــب ديوان المتنبي».
ومحمد الصغير الإفراني، مؤرخ وفقيه وأديب، ولد عام 1666 وتوفي سنة 1674م، وهو صاحب كتاب «نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي».
وصف محمد الصغير الإفراني قصر البديع بقوله: «... وهذا البديع دار مربعة الشكل، وفي كل جهة قبة رائعة الهيئة... ولا شك أن هذا البديع من أحسن المباني وأعظم المصانع... وفيه من الرخام المجزع، والمرمر الأبيض المنضد، والأسود، وكل رخامة طلي رأسها بالذهب الذائب... وفرشت أرضه بالرخام العجيب... وجعل من أضعاف ذلك الزليج المتنوع التلوين...  أما سقوفه، فتجسم فيها الذهب، وطليت الجدران به مع بريق النقش، ورائق الرقم بخالص الجبص».
ووصفه في معرض آخر شعرًا بقوله: 
هذا البديع يعز شبه بدائع       
 أبدعتهن به فجاء غريبا
أضنى الغزالة حسنه حسدًا لذا    
 أبدى عليها للأصيل شحوبا
وهو ما ذهب إليه نفسه صاحب «نزهة الحادي» قائلًا: 
يا ناظرًا بالله قف وتأملِ      
وانظر إلى الحسن البديع الأجملِ
وإذا نظرت إلى الحقيقة فلتقل   
 السر في السكان لا في المنزلَ
القباب: تصل إلى 20 قبة، تحمل أسماء جميلة وأوصافًا دالة: قبة الخمسينية، وقبة الزجاج أو قبة الذهب، وقبة النصر، وقبة التيجان، القبة الخضراء، والحمراء، والبيضاء، والقبة العظمى المخصصة لاستقبال الوفود من المشارق والمغارب، وقال عنها الفشتالي: «... تنتهي قباب هذه الدار على عشرين قبة، والأربع المتقابلة طولًا وعرضًا تولع العقل وتبهر الناظر...».
الصهاريج: مختلفة المقاييس والمساحات، يستفاد من مائها لسقي الحقول المترامية تحتها في الطبقة الدنيا.

تلاقح حضاري وصيت عالمي
شكل قصر البديع تحفة فنية معمارية تعكس تداخل الثقافات والحضارات، فقد جلب له المنصور أمهر الصناع والحرفيين المغاربة والأجانب خصوصًا من إيطاليا، وعن ذلك يقول عبدالمجيد القادوري: «... وذكرت المصادر الأجنبية، أن قصر البديع شكل سوقًا ضخمة للتجار والصناع الأوربيين، الذين كانوا يتقاطرون على مراكش من كل الآفاق».
كما تبدو التأثيرات الأندلسية في تصميمه، حيث الأجنحة المحورية المستوحاة من ساحة الأسود بغرناطة والقنوات المائية داخل القاعات، تحيلك إلى قصر الحمراء بالأندلس. 

تخريب وترميم
شكلت وفاة المنصور لحظة فارقة في تاريخ القصر البديع، فصراع أبنائه على الحكم ودخول البلاد في أزمة سياسية جعل القصر يدخل في مرحلة من النكبات والكوارث، حيث تعرض للتخريب ونهب محتوياته، لكن قرار هدمه اتخذه السلطان العلوي مولاي إسماعيل عام 1696م لكي يضع حدًا لشهرته الواسعة وأسطورة الصيت والترف السعدي، ليصبح مجرد أطلال وبقايا قليلة (السور، وميدانًا مع آثار صهريجين، وجناح من الأجنحة مع أعمدته، وبقايا سجن القصر، وبعض العناصر الزخرفية كالجبس والرخام والزليج...). وقد نقلت العديد من محتوياته لتشييد قصور سلطانية جديدة كالفسيفساء والأعمدة والزليج.
 نافلة القول، يعد قصر البديع تحفة هندسية عمرانية تعكس ما وصلت إليه دولة السعديين من قوة وشأن خلال عهد أحمد المنصور الذهبي، وهو اليوم يسهم في غنى المدينة التراثي والسياحي إلى جانب باقي قصور المدينة (الباهية المنبهي...)، جاعلين من مراكش أيقونة سياحية عالمية ■