أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث

أحمد أمين  يسدد الكثير من ديون التراث

 أرستقراطي الأخلاق، متواضع النشأة مع الظن بأصول كردية بعيدة، كان وفديًا في بداية حياته ثم أعرض عن السياسة بعدما ارتبطت بالتحيز إلى أشخاص متغيرين، وليس إلى المبادئ الثابتة. محايدٌ وقت الكتابة، حتى وإن لم يكن متعاطفًا مع المذهب الذي يكتب عنه، أو جاء مخالفًا لما يعتقده، متحيز لوجود أدب الشعب وداعيًا إلى تبسيط الفصحى وإن لم تخرج من يده وعن مقدرته، يحدوه النظر إلى الأمام حتى وقت كتابته عن الشعر الجاهلي فيرى «جنايته» على غيره من الأدب العربي حين ظل الكثيرون يعتبرونه مثلًا أعلى يقيده، لكنه وفيٌّ لتدريسه بمحبة كاملة، يُقدّر اللغات ويتعلمها متأخرًا، ويدعو إلى ترجمة الأدب العربي.

 

صحيح أن الظروف العامة لفترة أحمد أمين (1886-1954) سمحت ببروز قمم كثيرة لكن الحال مع الراحل ربما كان مختلفًا، ويسهل أن تحدس مرجع اختلافه عن مجايليه؛ إذ يقوده الاهتمام بالنظرة الكلية من جهة، وإقامة اعتبار كبير للعوامل الدينية من جهة أخرى، فإذا كتب في التاريخ ركز على المداخل المتصلة بتاريخ الحركات الدينية والفلسفية والحياة العقلية، وإذا سبر الأدب الجاهلي فمفتاحه لديه هو انصرافه إلى الجانب المادي لا الروحاني، وتركيزه على المعاني الدينية دون غيرها، فيقول:  «وللدين أثر كبير في الأدب؛ لأنه من ناحية مصدر كبير من مصادر الإلهام الأدبي، ومن ناحية أخرى إذا كان الأديب ذا دين مادي وثنيّ جامد، تأثر أدبه بعقليته، فخرج مثله ماديًا جامدًا، وإذا كان دينه ضيق الخيال لاصقًا بالحجارة والأرض كان خياله في أدبه غالبًا، وصار لكل شاعر من شعراء الجاهليين أبيات معدودات، ومعانٍ محدودات، يعرفها العلماء بالأدب، هي الإمام في الفن، وهي التي حددت القوالب التي يصب فيها الشعر العربي. أصبح امرؤ القيس إمام الشعراء في التشبيهات، والنابغة في الاعتذارات، والأعشى في الخمريات، وهكذا في نظرة نمطية يعاديها ابتداء.

تجارب التدريس
 تعلم الكثير من تجارب التدريس المختلفة التي خاضها، ثم وظيفته الأولى قاضيًا في الواحات 1913 ثم مدرسًا بمدرسة القضاء الشرعي. جاء إلى الأدب من القضاء فاهتم بالإسلاميات، وبدا الهاجس الديني ملازمًا لمنبع آرائه وتوجهاته، ويشترك في ثورة 1919 شيخًا معمّمًا يجاور قسيسًا يحملان علمًا فيه الهلال والصليب، ويعود مرة أخرى للقضاء ناقدًا -ولكن بشكل داخلي - أحكامًا تتصل بتنفيذ الزوجة للطاعة الزوجية قهرًا وقسرًا. 

تأثره بمحمد عبده
كان يشعر بانكسار قلبه مع وفاة أمه وهو شيخ كبير، وظل شديد الاعتزاز بأبيه وتدريسه بالأزهر وجهده في تثقيف نفسه، وكتبه الكثيرة التي كانت نواة مكتبة ابنه أحمد أمين، ويمتن لما بذله الأب من رعايته بتجرد كبير، وجلد أكبر؛ إذ يترك دنياه الصغيرة ويهجر الأزهر ليبدأ العمل مدرسًا بطنطا ولَمّا يبلغ السادسة عشرة، لكنه لم يطق صبرًا على تجربة اغتراب شديدة المرارة، ليعود بعد شهر واحد. لا تظهر عليه علامات النجابة في بداياته مع «الكُتَّاب»، فخرج منه بكراهية شديدة لطريقة التعليم فيه، فألحقه أبوه بمدرسة ابتدائية مع استكمال حفظ القرآن والمتون فأرهق نفسه، وأسس لعلمه بشكل فريد، وبخاصة بعد عودته للأزهر فحضر قليلًا للإمام محمد عبده فأبهرته طريقته الإصلاحية، وتواصل مع أفكار الإمام، وأصابته نزعة زهد وتسامح خلال عمله بالإسكندرية ثم تجذّرت في مدرسته القديمة، وانتقل إلى مدرسة القضاء الشرعي فاستكمل علومًا لم يعرفها في الأزهر، واطلع على تغيرات في المناهج وتوسعة في زوايا الرؤية لم تُتَحْ للكثيرين وتطورت قدراته في الإنشاء بعد لأْيٍ، وانتظم في الجامعة الأهلية في جيلها الأول من دون أن ينسب إلى نفسه نبوغًا وعبقرية في أي مرحلة، وعمل بالقضاء ثم مدرسة القضاء ثم قاضيًا شرعيًا، فعرف الدنيا من الكتب ومن الواقع.
والملاحظ أن «الشخصي» و«العلمي» يتآزران في سيرة العالم الكبير، فيسهل أن تربط بين طبيعته من جهة، وتقشفه البلاغي وقت الكتابة من جهة أخرى، ورغم أهمية التفسير الديني عنده لا يخلو من توجه يغلب عليه مع التفسير العقلي؛ إذ لا اختلاف بينهما لديه، وإذا شك عقلُه حينًا آمن قلبه دومًا، كما يتحكم الحس العقلي في نظرته إلى الأمور، وربما لهذا الدافع الشخصي لم يتورط - كغيره - في المد الرومانسي الهادر، فربما رآه مناهضًا للمنطق، وربما طفرت بداياته قاضيًا شرعيًا، وربما لهذا السبب خرجت سيرته «حياتي» معتمدة على مذهب تحليلي لسيرته ومجتمعه دون اهتمام بخروج تحفة فنية كما فعل طه حسين في «الأيام». لديه ثورة على إدخال الدين فيما ليس من جوهره كالتمسك بالميضأة في بداية شبابه، وثورة الناس على الشيخ محمد عبده بعد إبطاله الميضأة من الأزهر، ومراجعته طريقة التعليم في الكتاتيب قديمًا، ثم حماسته لمحاولات الشيخ الإمام محمد عبده تحريك التجديد في أمور الدنيا والدين والتعليم، ورفضه تفسير الاحتلال الإنجليزي بوصفه عقابًا من الله نتيجة عصيان المصريين لربهم، وكأنّ المحتل الإنجليزي كان مطيعًا لله في أوامره ونواهيه!
 عاد إلى التدريس، لكن في الجامعة بدعوة من طه حسين 1926، فهجر العمامة مؤمنًا بمدنية اللغة العربية وأدبها الذي يدرّس، لتشهد هذه الفترة ترقيه ليكون رابع من يشغل كرسي عمادة كلية الآداب، وشاهدًا على تحول المدرسين المصريين من قلة إلى أغلبية وشاهدًا على مواقف حادة كان طرفًا فيها أو داعمًا لأصحابها كاستقالة طه حسين، وكان نشطًا في تأليف أعماله الخالدة؛ إذ أخرج «فجر الإسلام» في عامين ثم «ضحى الإسلام» في مدة مقاربة، ثم «ظُهر الإسلام» بعد تحرره - حسب تعبيره- من العمادة التي تصغُر إلى جوار مؤلفاته؛ فكاتبُ فجر الإسلام وضحاه وظهره عصيٌّ على الموت أن يناله، بتعبير طه حسين.
 ولم يشبع الزاهد فاستكمل حديثه عن التوحيدي ثم أتم أجزاء «قصة الفلسفة اليونانية»، وكذا «قصة الفلسفة الحديثة»، و«قصة الأدب في العلم»، يقوده تخطيط واضح للموضوع، وإن كان مجرد مقال في «السفور» أو«الرسالة» أو «الثقافة»، أو «الهلال» مهتمًا بالمعنى على جودة السبك عكس أغلب مجايليه وإن انحرف إلى الشرح والتبسيط أو اللفظ العامي، وذلك إن وجده أكثر قدرة على حمل المعنى، وجمع أغلب مقالاته في «فيض الخاطر».

اعتزازه بالجامعة الشعبية
 ظل معتزًا بالجامعة الشعبية (ابنته العزيزة كما يدعوها)، عزوفًا عن المناصب تأتيه دون سعي، وهو ما حدث مع ترؤسه لجنة التأليف والترجمة والنشر من دون أن يترشح لها؛ ذلك أن معظم الأعضاء رأوا فيه موضوعية نادرة الحدوث، ومواجهة عزيزة التكرار حتى مع أصدقائه وزملائه المقربين. وانتُخِبَ عميدًا لكلية الآداب (1939-1941)، لكنه استقال عام 1940 بعد نقل أساتذة من الكلية من دون علمه فقال كلمته الشهيرة «أنا أكبر من عميد وأصغر من أستاذ.» وبتعبير ابنه جلال «وهو في نهاية عمره يلقي نظرة شاملة على حياته كلها فلا يندم إلا على ما تولاه من مناصب منعته في بعض الأحيان من الكتابة». ولعله لو أتيح له وقت أكبر لزاد في «قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية»، وفي عدد «زعماء الإصلاح بالعصر الحديث».
 أحيانًا كان يدفع ثمنًا باهظًا لبعض مواقفه، ولا يتراجع أو يندم، ويصرح بذلك في أخريات حياته مع كتابه البديع «إلى ولدي» فمثلًا، لم يتورط في مدح الملك فيرفض منحه الباشوية، ولم يتحيز إلى حزب فيرفض شباب الوفد ترشيحه للوزارة، لكن الحق يصل إلى صاحبه مع عضوية المجمع والدكتوراه الفخرية، ليحصد ثمار معرفة واسعة بالتراث، والتي مكنته من الكتابة عنه بنَفَسٍ موسوعي مطلع، يحلل التاريخ، ويقدم الأدب بوجهة نظر مختلفة وتمكن جيد من اللغة الإنجليزية الثانية التي منحته عينًا أخرى يرى بها الماضي والحاضر، فحلل الحياة العقلية للعرب والمسلمين تحليلًا لم يتهيأ مثله لأحد قبله.  كما ربط الشرق القديم بالحديث، ووصل الشرق بالغرب كما يقول شعار مجلة «الرسالة» والتي كان أحمد أمين من أبرز كتّابها. يكتب عن تاريخ الإسلام في ضحاه وفجره وظهره بالحماسة ذاتها التي ينتقد فيها دعوات حديثة، ليس فقط لأنه لم ينضم إليها، وليس - أيضًا - لتشكّكه فيها، وإنما لأنه بعين خبيرة لم يعوّل عليها في تقديم شيء للحاضر المعيش.
ظل أحمد أمين يعاني من مشاكل في بصره فترة طويلة من حياته، لكنه أضاء بصيرة الكثيرين ■