أبو العلاء المعري بين ظلمة البصر ونور البصيرة

أبو العلاء المعري  بين ظلمة البصر ونور البصيرة

   هو أحمد بن عبدالله بن سليمان بن محمد بن سليمان التنوخي، المكنّى بأبي العلاء، والملقب بالمعرّي. ولد في معرّة النعمان يوم الجمعة عند مغيب شمس آخر شهر ربيع الأول سنة 363 هجرية (خليل شرف الدين، ص 49)، وتوفي فيها يوم الجمعة بالنصف الأول من ربيع الأول سنة 449 هجرية عن ستة وثمانين عامًا (عمر فروخ، ص 22). وهكذا تكون الولادة والوفاة قد حدثتا في البلدة نفسها من الوطن، وفي اليوم نفسه من الأسبوع، وفي الشهر نفسه من السنة، في واحدة من المصادفات التاريخية النادرة. 

 

نشأ المعري في بيت علم ودين وأدب ولغة، لأبٍ أديب ولغوي وفقيه وشاعر، تعهّده بعناية خاصّة وعلّمه مبادئ اللغة العربية وآدابها، هو عبدالله بن سليمان بن محمد بن سليمان التنوخي، وأمٍّ محبة أخذت بيمينه ورعته في بلواه وأحاطته بالرعاية والحب والحنان، هي بنت محمد بن سبيكة.
وفي هذا السياق، يشير عمر فرّوخ إلى أن «بيت شاعرنا في المعرّة بيت وجاهة وثراء وعلم وقضاء»، وإلى أن «أمّه من أسرة وجيهة في حلب على الأغلب تعرف بآل سبيكة اشتهر فيها غير واحد بالوجاهة والأدب»، وبذلك يجمع المجد من طرفي الأب والأم (فروخ، ص 12)، إلا أن هذه النشأة لم تحُل دون مواجهة الناشئ قدره المحتوم، فأصيب بالجدري قبل بلوغه الرابعة من العمر، و«ذهبت يسرى عينيه وغشي اليمنى بياض»، حتى إذا ما شارف السادسة فقد بصره كلّه.  ولعل هذا القدر حتّم على الوالدين رفع وتيرة الرعاية الوالدية له. ومن الطبيعي أن يكون لمثل هذه النشأة تأثيرها في شخصيته وحياته، حتى إذا ما رحل الأب، والمعرّي في الخامسة عشرة من العمر رثاه وأشاد بمآثره، وإذا ما رحلت الأم، وهو في السابعة والثلاثين من العمر، رثاها بقصيدتين، وشكّل رحيلها نقطة تحوّل في حياته (عبد الفتاح كيليطو، ص 15 و16). 

رحلته إلى بغداد
تدرّج أبو العلاء في اكتساب المعرفة، من مرحلة إلى أخرى، وضُرِب المثل بذاكرته القوية وحيكت حولها الحكايات، وينسب إليه ابن العديم قوله: 
«ما سمعت شيئًا إلا حفظته، وما حفظت شيئًا فنسيته» (الإنصاف والتحرّي، ص 551)؛ ففي البيت، أخذ عن أبيه شيئًا من اللغة والنحو والأدب.  وفي العائلة، أخذ عن نفر من أهله الحديث. وفي المعرّة، أخذ عن مشاهيرها العلوم الدينية والعربية. وفي حلب، أخذ عن علمائها الأدب والنحو.  ثم انصرف للدراسة على نفسه، حتى إذا بلغ أشدّه يمّم وجهه شطر بغداد في طلب العلم، وشكّلت الرحلة البغدادية محطّة مهمة في حياته، تضاربت الآراء في زمانها وأسبابها؛ ففي حين يذهب طه حسين إلى أنه قام بهذه الرحلة بعد أن نيّف على الثلاثين (طه حسين، ص 55)، يرى عمر فرّوخ أنه فعل ذلك بعد وفاة والده، وهو في الخامسة عشرة من عمره (فروخ، ص 16)، ولعل رأيه هو الأقرب إلى الصواب باعتبار أن أبا العلاء قام بهذه الرحلة في طلب العلم، ومنطق الأمور يقول إن العلم يطلب في الصبا والشباب قبل أن يطلب في مراحل عمرية أخرى، لا سيما أنه يقول في إحدى رسائله: «مذ فارقت العشرين من العمر، ما حدّثت نفسي باجتداء علم من عراقي ولا شامي» (رسائل أبي العلاء، ص 32). ولم يقتصر التضارب في الآراء على زمن الرحلة بل تعدّاه إلى أسبابها، فتعدّدت بين قائل بسعيه إلى طلب العلم، وقائل بسعيه إلى طلب المال. على أن أبا العلاء يقطع الشك باليقين حين يقول في إحدى رسائله إلى المعرّيّين: «وأحلف ما سافرت أستكثر النشب ولا أتكثّر بلقاء الرجال، لكن آثرت الإقامة بدار العلم، فشاهدت أنفس مكان لم يسعف الزمن بإقامتي فيه» (رسائل المعري، ص 32).

مصادر معرفته
وإذا كانت الرحلة إلى بغداد وسواها أحد مصادر معرفة المعرّي، فثمّة مصادر أخرى متعدّدة متنوّعة لهذه المعرفة يشير إليها طه حسين بالقول: 
«... فهو قد ارتحل إلى حلب وأنطاكية، وألمّ باللاذقية، ولعلّه أن يكون قد ألمّ بطرابلس.  وقد سمع من شيوخ المسلمين ورهبان النصارى، وقرأ في كتب أولئك وهؤلاء، وتعمّق في درس الديانات، وفرغ بنوع خاص لإتقان اللغة وللأخذ بحظ عظيم من البلاغة الأدبية. ولم يُتِمّ العشرين من عمره كان نضجه العلمي قد تمّ، حتى استطاع أن يقول بعد ذلك إنه لم يحتج بعد هذه السن إلى أن يجلس من أحد مجلس الطالب من الأستاذ» (طه حسين، ص 54 و55). وبذلك، تشكّل الرحلة والسماع والقراءة والدرس والتأمّل والمجالسة مصادر معرفة المعرّي، وتشكّل اللغة والبلاغة والأدب والدين ماهية هذه المعرفة، في تلك المرحلة العمرية. 

أساتذته 
ثمّة أساتذة تتلمذ عليهم وأخذ العلم عنهم. وتشير المصادر إلى أن أبا العلاء تتلمذ على نفسه، من خلال عكوفه على الكرّاس والكتاب، من جهة، واختلافه إلى الورّاق والخازن والنادي، من جهة ثانية.  وقد أخذ اللغة عن أبيه عبدالله بن سليمان، وأبي بكر بن مسعود النحوي، ومحمد بن عبدالله بن سعد النحوي، وأخذ الحديث عن أبي زكريا بن مسعر المعرّي، وأبي الفرج بن عبد الصمد الضرير الحمصي، وأبي عمر عثمان الطرسوسي، وأخذ الفلسفة اليونانية عن أحد الرهبان العلماء في دير الفاروس شمال سورية، وألمّ بالديانات التوحيدية والشرقية.  وتحصّلت له من تلك المصادر وهؤلاء الأساتذة ثقافة عميقة ومتنوّعة، ساهمت، إلى جانب نشأته وعاهته، في تشكيل شخصيته وتكوين تفكيره الفلسفي وتبلور خياراته في الحياة، وهو ما يتمظهر في آثاره الفكرية والشعرية التي تجاوزت المائة، بين مجلّد كبير ورسالة صغيرة وشذرات متفرّقة، حسب المصادر المختلفة.
 
شخصيته
إذا كانت شخصية المرء هي نتاج الاستعدادات التي يملك والظروف التي يعيش والتجارب التي يخوض والثقافة التي يكتسب، فإن شخصية أبي العلاء لا تشذّ عن هذه القاعدة. وفي هذا السياق يشير عمر فرّوخ إلى مجموعة من العناصر السلبية والإيجابية التي دخلت في تشكيل تلك الشخصية أو أحاطت بها، وكان لها أبعد الأثر في فلسفة الشاعر وخياراته في الحياة؛ فعلى المستوى السلبي أدّى العمى المبكر وضآلة الجسم والفقر والمصائب والتنمّر وكثرة الحسّاد والخصوم إلى تشاؤم الشاعر، وزهده في الحياة، وكرهه المرأة، واعتزاله الناس، وممارسته التقشّف، وشعوره بعدم الاستقرار، ووقوع كره الخصوم عليه. وعلى المستوى الإيجابي، أدى ما حباه به الله من الذاكرة الحادة والتحليل القوي والجرأة والأنفة والتقوى، إلى استيعابه المعجم والأخبار والأشعار والمعارف، وقدرته على النقد والمقارنة والاستنتاج، والتهكّم على الآخرين والسخرية من معتقداتهم، والترفّع عن الأعطيات، والصلابة في الاعتقاد، وممارسة الشعائر التي يعتقد. وهذه العناصر ومؤدّياتها جعلته ييمّم شطر الحكمة في شعره، ويؤسّس فلسفته الخاصة في الحياة (فروخ، من ص 24 إلى ص 30).
في السياق نفسه، وإذ يشير طه حسين إلى ما تردّى فيه أبو العلاء من ألم وظلم وأسر وشك وحيرة وعجز دفعت به إلى العزلة والتقشف واجتناب اللذات واللحوم وقهر النفس، فإنه يحمّله المسؤولية عن ذلك بالقول: «... فلم يظلمه أحد كما ظلم نفسه، ولم يكلّفه أحد قط من الجهد والعناء ومن المشقة والمكروه مثل ما كلّف نفسه نحو خمسين عامًا...» (طه حسين، ص 29). غير أن إعفاء الآخرين، ممّن تنمّروا عليه وخاصموه وحسدوه وكادوا له، من المسؤولية لا يخلو من ظلم آخر لأبي العلاء يُضاف إلى ظلمه نفسه.
وخلافًا للصورة النمطية المثالية المذكورة التي رسمها الناس لأبي العلاء، وقام عمر فرّوخ وطه حسين وآخرون بتظهيرها، يكسر مارون عبود نمطية الصورة، ويرسم بورتريهًا واقعيًّا للشاعر؛ فيرى أنه «تغزّل كالشعراء لأنه أحبّ مثلهم»، و«مدح كالشعراء، وهنّأ بالزفاف وغيره مثلهم، ولم يقصّر عن أبي الطيب في غلوّه وإيغاله»، و«جنى مثل غيره غلة الشعر، وذاق بواكير محصوله»، و«رثى كالشعراء، وهجا مثلهم ...»، و«افتخر وادّعى مثل الشعراء بل أكثر منهم...» (مارون عبود، ص 276 و277). وبرأيي، مثل هذا الرأي لا يخلو من الغلوّ، ولعل صاحبه أراد أن يخالف كي يُعرف، مع العلم أنه لم يكن بحاجة إلى ذلك، على الإطلاق.
 
فلسفته
بمعزل عن الصورة النمطية المرسومة أعلاه، فإننا، من نافل القول، إزاء شخصية إشكالية، مثيرة للجدل، لها فلسفتها الخاصّة ومنظورها إلى الحياة والموت والناس والدين، ما يحتاج إلى بحث معمّق يتخطّى حدود ما تسمح به هذه العجالة. لذلك، حسبنا الإشارة إلى متعلّقات معيّنة بهذه الفلسفة، أشار إليها بعض دارسي أبي العلاء، على سبيل المثال لا الحصر.  وتندرج في هذا السياق إشارة مارون عبود إلى لاغائية هذه الفلسفة، وتحدّرها من الاختبار الإنساني، وترجمتها عن أحد المذاهب الفكرية، وإعلائها من شأن العقل، وإخفاضها من شأن المرأة (عبود، ص273، 363، 369، 412). وفي معرض المقارنة مع الآخرين، يشير عبود إلى أن «أبا العلاء ربيب المتنبي في خطوط فلسفته الكبرى، وهو أخو الجاحظ في هزئه المتلبّس بالجِد، وسخريته المتعالية حتى على الخواص»، ويفصل عبود بين شعر أبي العلاء وفلسفته نافيًا عنه وصف «شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء» (عبود، ص 248). وغير خفيٍّ ما يشوب هذه الإشارات من بلبلة وارتباك، فمرّة يعترف بفلسفة الشاعر، ومرّة أخرى ينزع عنه هذه الصفة. ولعله يفعل ذلك انطلاقًا من نفيه صفة الشعر عن لزوميات المعري، وهو تعميم لا يخلو من الظلم. بينما، في المقابل، يكتفي طه حسين بالإشارة إلى معاناة المعري ألوان الجهد الفني والعقلي واصطناعه ألوان الحيل «ليجمع بين المعاني الفلسفية التي لم يألفها الشعر كثيرًا في لغتنا العربية والألفاظ القريبة والغريبة في هذا النظم العسير...» (طه حسين، ص 100). ويعلّل المعاناة والاصطناع والإلغاز والدوران حول المعاني وعدم التعمّق فيها بخوف أبي العلاء «أن يظهر الناس على رأيه، وأن يعرفوا من أمره ما كان يجب أن يجهلوا، ويطّلعوا من سرّه على ما كان يؤثر أن يظلّ عليهم مستغلقًا، ودونهم مكتومًا» (ص 19). هي التقيّة الأدبية يلجأ إليها الشاعر في زمنٍ كان يؤخذ فيه الناس بالشبهة.
  
مؤلفاته
على أنه ما كان لنا أن نطّلع على شعر أبي العلاء وفلسفته لولا كتبه التي تجاوزت المائة بين مجلّد كبير ورسالة صغيرة وشذرات متفرّقة، ولم يصلنا منها إلا القليل، ولم ينشر منها سوى الأقل؛ ومن المنشور: لزوم ما لا يلزم (بومباي 1886)، سقط الزند (القاهرة 1869)، رسائل أبي العلاء (بيروت 1894)، رسالة الغفران (القاهرة 1907)، رسالة التذكرة (باريس 1911)، عبث الوليد (دمشق 1936)، الفصول والغايات (القاهرة 1936)، وغيرها. (شرف الدين، من ص68 إلى ص 80). وإذا كان المقام لا يتّسع للإضاءة على هذه المؤلّفات، فحسبنا الإشارة إلى اثنين منها، على سبيل المثال لا الحصر، هما: «لزوم ما لا يلزم» و«رسالة الغفران».

اللزوميات
يشبّهها مارون عبود بألفية ابن مالك، مع فارق أنها تتضمّن صرفًا ونحوًا، بينما يتضمن الكتاب «فلسفة لمّها صاحبها من هنا وهناك، فهو لمّام فلسفة لا فيلسوف» (عبود، ص 281). وبذلك ينفي عبود عن صاحب اللزوميات صفة الفيلسوف، كما ينفي عنها صفة الشعر بقوله: «ليست لزوميات شيخنا ديوان شعر، لكنها كتاب جمع فيه مؤلفه أصول «مذهبه» وبسطها بسطًا معمّى تقيّةً وإيثارًا للعافية» (عبود، ص 284). وهو بهذا النفي المزدوج يجرّده من صفتي الفيلسوف والشاعر في اللزوميات، ويقصر عمله فيها على اللمّ والجمع دون الأخذ بعين الاعتبار أي جهد فني وعقلي بذل الرجل دونها، ويظلمه مرّتين. ويشاطر طه حسين عبود في نفي صفة الشعر عن اللزوميات، ويتخطى النفي إلى حدّ اتهام المعري بإفساد القصيدة فيها خلافًا لما فعله في سقط الزند (طه حسين، ص 150). ولعل الطريف الذي يأتي به حسين في وصفها قوله إن «اللزوميات ليست نتيجة العمل وإنما هي نتيجة الفراغ، وليست نتيجة الجد والكد وإنما هي نتيجة العبث واللعب» (طه حسين، ص 101)، ويعلل ذلك بلزوم المعري داره نصف قرن لا يبرحها فيه وحاجته إلى ملء هذا الفراغ الطويل، وفي هذا التعليل تسخيف للمؤلف والكتاب في آن معًا. وهذا الرأي، على طرافته، يتناقض مع ما ذهب إليه، قبل صفحة واحدة في كتابه، وتمّت الإشارة إليه أعلاه، من معاناة المعري ألوان الجهد الفني والعقلي واصطناع ألوان الحيل ليجمع بين الفلسفة والشعر (طه حسين، ص 100). لعل عميد الأدب العربي أراد القول إن الفراغ الذي عاشه المعري، بملازمة بيته، هو الذي حدا به إلى الجد والكد في وضع اللزوميات، والله أعلم.

رسالة الغفران
أمّا المؤلف الثاني، رسالة الغفران، فيجمع الدارسون على أهميته وتأثيره في الأدب العالمي. 
في هذا السياق يرى مارون عبود، أن الكتاب «هو أروع أثر عربي ينمّ عن ظرف (المعري) ويبرئ تلك التسمية. 
ومن شاء أن يتعرّف إليه فليطلبه هناك» (عبود، ص 281). وهنا ينصف الشاعر بعد ظلم، ويثبت فضله بعد نفي. ويعزو عبد الفتاح كيليطو الاهتمام بالرسالة في القرن العشرين، بعد إهمالها في القرون السابقة، إلى دانتي صاحب الكوميديا الإلهية وتأثره بها ما شكّل موضوع دراسة مقارنة بين العملين قام بها آسين بلاسيوس (كيليطو، ص 19). والمفارقة في هذا السياق أننا لا نعرف قيمة ما بين أيدينا إلا بعد أن يكتشف الآخرون تلك القيمة، وهو ما ينطبق على «رسالة الغفران» و«ألف ليلة وليلة» وسواهما من الآثار الأدبية والفكرية. 
وبعد، فإن هذين المؤلفين يثبتان، وسواهما من مؤلفات المعري، أنه إذا كانت الطبيعة قد حرمت المعري نعمة البصر في طفولته، فإنها لم تبخل عليه بما هو أبقى، ومنحته نعمة البصيرة في مختلف مراحل حياته، فوضع عشرات المؤلفات، وغاص على أعمق المعاني، وصاغها ببراعة الشاعر، فاستحق لقب «شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء»، شاء بعض الدارسين ذلك أم أبوا ■