كأنها مصادفات! إضاءة لفيلم «قدحة... حياة ثانية» للمخرج التونسي أنيس الأسود

كأنها مصادفات! إضاءة لفيلم «قدحة... حياة ثانية»  للمخرج التونسي أنيس الأسود

اكتسح الفيلم التونسي «قدحة... حياة ثانية» (2021)، جملة من المهرجانات العالمية، ونال أكثر من جائزة، وحاز على إعجاب وتعاطف شرائح مختلفة من الجمهور. هو الفيلم الطويل الأول للمخرج التونسي أنيس الأسود، المعروف عنه إخراجه لأفلام قصيرة لم تمر مرور الكرام، والمعروف عنه كذلك أنه فاعل مدني يرافع في مجال حماية الأطفال والطفولة. 
«قدحة» فيلم عن الحنين، وعن طفولة مكلومة، وعن غريزتي الأبوة والأمومة حينما تصدمان بوضع محجوز، وعن الفروقات الطبقية الظالمة. وهو عمل يسائل الإنسان أينما كان مُقامه ومهما كان مَقامه، وترك المجال مفتوحًا للمتلقين لاقتراح تأويلاتهم وتقديم ما بدا لهم من خلاصات قد تكون متباينة.

يحكي الفيلم حكاية مراهق لقبه «قدحة» التي تعني «ومضة» باللهجة التونسية المحكية. وبالفعل، فومضات قوية ومحملة بأكثر من رسالة تستوقفنا منذ بداية الشريط، وهي تنبعث من عيني هذا المراهق الذي يشارك في كل الوقائع أو يشهد عليها من دون استثناء، وتكتسي ومضاته تلوينات ودرجات عدة حسب حالاته النفسية والضغوط المختلفة التي يتعرض لها، وعبر عينيه وانفعالاته التي تخفي غضبًا مكبوتًا، سوف نتلقى بالتدريج جملة أحداث ومعطيات تضيء مناطق الظل في الحكاية ليتقدم المشهد نحونا، في النهاية، كاملًا، وكأننا إزاء لعبة تركيب قطع Puzzle، لعبة تأسست على مصادفتين حاسمتين ومترابطتين. 

مشهد افتتاحي 
ويصور المشهد الافتتاحي ثلاثة مراهقين، من بينهم قدحة، وهم يسبحون بشاطئ أحد المنتجعات، ويمازحون بعضهم البعض، ويعلنون عن صداقة طفولية تجمع بينهم. وحينما سرق أحدهم هاتفًا نقالًا من شمسية أحد المصطافين، اضطر جميعهم إلى الهرب، فكانت المصادفة الأولى إذ صدمت شاحنة قدحة، فنقل إلى المستشفى لنكتشف سوء الخدمات الصحية العمومية وحالة الهلع التي تملكت أمه بركانة التي لم يكن في حوزتها مال لتأدية مصاريف العلاج في وقت كانت ترى فيه أن الموت يتهدد ابنها فأصبحت كالبركان الذي يتأهب للانفجار. وهنا تتدخل المصادفة الثانية، إذ تدخل غرباء، يبدو أنهم ميسورون، وتكفلوا بعلاج قدحة، بل عرضوا على الأم الانتقال هي وأسرتها للعيش معهم. فمقابل ماذا يا ترى كان كل هذا السخاء؟ لنتقدم قليلًا.
انتقل قدحة، إذن، رفقة أمه وأخته الصغيرة للعيش في منزل صغير يقع ضمن ضيعة فخمة يملكها السيد معز الثري صاحب محل لبيع الأسماك ومركب صيد، وذلك ما سهل عليه، على ما يبدو، مأمورية «اصطياد» قدحة الذي كان متوجسًا مما يقع من تطورات متسارعة بعد إجرائه عملية جراحية، ومحتارًا في تفسير كل هذا الكرم الذي أبان عنه أناس غرباء أصبحوا في رمشة عين أقرباء، وأصبح السيد معز يقدم نفسه باعتباره أبًا ثانيًا يعوض أبًا محتجبًا. 
وقد تساءل قدحة بلوعة عند تماسه الأول مع المنزل الجديد: «من يا ترى سيدل أبي عند عودته على مكان إقامتنا؟»، وبدأ يعيش مضاعفات الترقي الاجتماعي الذي فُرض عليه، فأُلحق بمدرسة جديدة لكنه لم يتحمل أجواءها ولم يتمكن من مسايرة مستواها العالي مما يؤكد أن المدرسة، كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، تعيد إنتاج الفوارق الطبقية التي تبدو أحيانًا صارخة. وقد سأل قدحة زوجة السيد معز إن كانت الثورة قد وصلت إلى حيها الراقي فأجابته: «الثورة مست التونسيين كافة». وكان واضحا أن الإجابة لم تقنعه.
وبعد فترة التقى قدحة صديقيه الحميمين رفيقي مغامرات غير محسوبة العواقب، وأحس هذان الأخيران بنقلته الطبقية، لكن ذلك لم يمنعهم من الاستمتاع بتواجدهم مع بعضهم البعض، ومعاكسة الفتيات والتحرش بهن، وسياقة دراجة نارية بسرعة جنونية، وتجنب حواجز رجال الشرطة بكل احترافية. وتتوجب الإشارة إلى أن التصوير في هذا الفيلم هو تصوير حيوي ومتوثب ينتقل بسلاسة بين عدة مستويات مثل الترافلينغ الجانبي والترافلينغ الأمامي واللقطات المقربة التي تصف المشاعر والانفعالات والكاميرا التي تهتز أحيانًا وهي تحاول القبض على شغب قدحة ورفيقيه، شغب أزعج السيد معز وجعله يطلب بصرامة من الأم أن تجعل ابنها يقطع علاقته مع أصدقائه القدامى، أي أن يبتر جزءًا من ماضيه. فحسب هذا الرجل الميسور، يتوجب على المرء أن يكون حاسمًا في اختيار طبقته.

حدث استثنائي
ثم عاد الطفل أسامة إلى منزل أبويه وهو يشعر بالوهن، ومثلت العودة حدثًا استثنائيًا تلقاها السيد معز وزوجته بامتنان. وسنعرف أن أسامة قد أجرى هو الآخر عملية جراحية دقيقة، وسنتابع كيف أن ارتباطًا سريعًا وتلقائيًا سينشأ بينه وبين قدحة، حيث ولجا معا «حديقة سرية» مليئة باللعب خاصة لعبة «التسديد بالقوس»، وتبادلا الخبرات والمهارات، إذ علم قدحة أسامة استعمال المقلاع، في حين لقن هذا الأخير قدحة مبادئ استعمال القوس والسهم. وبالطبع، فكل رياضة تشي بالمنشأ الاجتماعي لممارسها، كما أنها تسمح بتمازج هو بالتأكيد مؤقت. كان الجو العام رائقًا، ما جعل السيد معز يعلن، وهو في حالة من النشوة الفائقة، أنه فخور بهما. أما الجدة الطيبة فعمدتهما، وهي متأثرة تأثرًا بليغًا، «أخوين» لا يمكن لأي قوة أن تفرق بينهما. 
غير أنه خلال حفل نظم للاحتفاء بنجاح العملية التي أجراها أسامة، أعلن الجميع فرحهم وغبطتهم، في حين تم نسيان قدحة نسيانًا أليمًا ولم يُنادَ عليه لحظة التقاط صورة جماعية، رغم أن المناسبة تعنيه هو وأسامة وتحيل على «تشبثهما» بالحياة. والمشهد يذكر بحالة مشابهة عاشتها العالية بطلة فيلم «صمت القصور» حينما سها الكل عن دعوتها لتتخذ لها مكانًا ضمن صورة عائلية كانت لها دلالة رمزية قوية.  لكن يبدو أنه في منطق البعض ما كل الحيوات لها القيمة نفسها، وسنستخلص نحن أننا إزاء عالمين متجاورين قد يتعايشان لفترة لكنهما في العمق متصارعان، عالمين يبدوان متكاملين لكن وجود أحدهما يعني أحيانًا القضاء على الآخر، كما أن أحدهما يجد أنه من الطبيعي أن يكون الآخر في خدمته، لذا نجد أن أم قدحة، رغم ارتقائها الاجتماعي، كان نصيبها، بشكل لم يناقشه أحد، أن تعمل خادمة بمنزل أصحاب نعمتها.
وقد ظلت نظرات قدحة محملة بومضاتها الحادة والغامضة، وكان نادرًا ما يبتسم، حاملًا عبء وضع متعب وغياب غير محتمل لأب بدأت تغيم الملامح التي يضفيها عليه في الذاكرة. ومما أجج الإحساس بغياب هذا الأب ريبورتاج بثته التلفزة عن هجرة شباب تونسيين وغرقهم، ولمسنا إلى أي حد يشعر فيه قدحة بأنه معني بهذا بالموضوع الضاغط وبحرائقه النفسية والاجتماعية، وما يخلفه لديه غياب أب اسمه العائلي هو «ترمسي» وهو الاسم نفسه الذي يحمله الممثل ياسين الذي أدى دور قدحة لنتساءل نحن إن كان الفيلم قد قدم لنا شذرات من تجربة عاشها بالفعل هذا الممثل الموهوب؟ ثم إن قدحة كانت تحرجه حالة الحرمان والوحدة المحاصرة لأمه التي لم تكن تتردد في أن تجعله يأخذ حمامًا بحضورها، وفي تذكيره بأنها سنده الوحيد وبلا مسؤولية أبيه وأنانيته. 
وانفضح المستور، وعرف قدحة أنه تعرض لعملية بتر، لعدوان على جسده تمثل في سرقة إحدى كليتيه قصد تعويض الكلية المعطلة لأسامة ابن السيد معز. كان ذلك بمباركة من أمه، فبكى من الغيظ والمهانة والحرقة، وأضرب عن الكلام، وأصبحت ملامحه أكثر صرامة وقسوة كأنه في تنازع مزمن مع الوجود، أو كأنه بطل مأساة يونانية اتخذت من تونس مسرحًا لها.
وذات ليلة نزل قدحة من فوق شجرة كان مختبئًا، مثل كائن بدائي، بين أغصانها الكثيفة، وأخذ سهمًا، وصوّبه نحو أسامة بكل حزم وقسوة، فأصيب الأب معز بالذعر، وتدخل بعنف لتجنب الأسوأ. 
انهار قدحة وصرخ في وجهه «أنت لست أبي»، وصرخ في وجه أمه المغلوبة على أمرها والتي كاد أن يصيبها سهمه: «أنت لست أمي»، فأصبح يُتمه مضاعفًا بل مركّبًا، وتبين لنا أنه في أعماق نفسه يتمنى «قتل أمه». 
وظل الوضع متوترًا وطلب قدحة بصرامة أن يعمل بمتجر بيع السمك متحملًا الرائحة النفاذة والمقززة، ثم سرق مالًا من أمه وبدأ يخطط للهجرة سرًا قصد اللحاق بأبيه ومعانقته. ثم حدثت مواجهة بينه وبين أسامة حيث بكى هذا الأخير، وذكره برابط الأخوّة الذي يجمع بينهما وبأنه لا مسؤولية له في البتر الذي كان ضحيته.  كانت نتيجة هذا التأثر القوي أن أصيب أسامة بأزمة حادة أودع على إثرها بشكل مستعجل بالمستشفى، وهناك سنجد قدحة وهو يحدّق طويلاً في أمه وأخته سلمى الوديعة التي تبتسم له، ثم جلس قربهما وكأنه يربط مجددًا مصيره بمصيرها. وفي مشهد أخير، وجّه قدحة سهمه نحو سماء زرقاء تتخللها بعض الغيوم، ثم وجهه نحو الأرض، ورفع وجهه نحو سماء فسيحة بحثًا عن أمل ما أو معجزة أو سكينة. أما نحن فنتساءل في نهاية الفيلم وبعد تماهينا مع جميع الشخصيات: ما نصيب حياة كل واحد منا من المصادفات؟ وهل تبيح الرابطة المسماة أبوة أو المسماة أمومة المحظورات؟ وهل هناك بالفعل شيء اسمه مصادفة أم إن كل ما يحدث مكتوب في لوح محفوظ؟ 
أسئلة تتناسل وإجابات تتحور، في حين يحاول الفن التقليل من هول حيرتنا ■