في أهمية الإصغاء

في أهمية الإصغاء

في مقال له نشر عام 1935 في مجلة «إسكواير» الأمريكية عبّر فيه عن تأملاته في مهنة الكتابة ونصائحه للكتّاب الناشئين، قدم الكاتب الأمريكي الشهير إرنست همنغواي النصيحة التالية: «عندما يتكلم الناس استمع منصتًا، فمعظم الناس لا يستمعون أبدًا». يعتقد همنغواي أن الاستماع الفعلي أو الإصغاء للناس هو مفتاح الفهم والقدرة على الكتابة عنهم بطريقة حقيقية تلقى صدى لدى الآخرين. 

 

مما لا شك فيه أن هناك الكثير من الصحة في مقولته هذه لا سيما بإشارته إلى أن معظم الناس لا يستمعون أبدًا، فكم مرة اشتكى أطفالنا وأزواجنا من أننا لا نصغي إليهم بشكل جيد، وكم مرة جلسنا في اجتماع عمل أو غير عمل وأدركنا أننا لم نستوعب أي شيء من الجوهر الذي كان يقال، وكم مرة جلسنا فيها مع زميل أو رئيس في العمل وسمعنا ما أردنا سماعه وليس ما قد قيل في الواقع، وكم مرة دخلنا في جدال مع شخص آخر وبدلًا من الاستماع لما يقوله كنا مشغولين بالتفكير في الحجج التي أردنا الرد عليه بها، وكم مرة فشلنا في الاستماع لأننا كنا مشغولين جدًا بالتحدث نحن أنفسنا؟
تمتلك آذاننا أجهزة لالتقاط الذبذبات الصوتية وبها نسمع زقزقة العصافير وحفيف الأوراق وأصوات الناس من حولنا، لكن امتلاكنا للأذنين لا يتعلق فقط بالسمع، إذ جنبًا إلى جنب مع عملية التفكير تخلق آذاننا ما هو أعمق وأكثر أهمية ألا وهو فن الإصغاء، ففيما يتعلق بالتحدث مع الآخرين لا يكفي التقاط الأصوات فحسب، بل يجب أن نكون قادرين على التحليل والاستيعاب الكلي لما يقال، لكن للأسف أفقدتنا حياتنا العصرية مهارة الإصغاء السليم، وبتنا غارقين في ضجيج وإلهاءات عالمنا الرقمي الذي سلب منا القدرة على الهدوء والتركيز والتواصل الفعلي مع الآخرين.
 
العصر السيبراني وفن الإصغاء الضائع
نعيش في عالم التكنولوجيا الطاغية التي تمثل بمختلف أشكالها تحديًا لعملية الإصغاء وتفرض علينا الابتعاد عن القدرة على التركيز التام على المحادثات التي ندخل بها مع مَن حولنا. فمن سمات عصرنا الحديث، أننا نجد في كل مكان، إن كان في المقاهي أو الشوارع أو المنازل أو أماكن العمل وحتى في المدارس والجامعات، أشخاصًا يحدّقون في هواتفهم المحمولة أو يكونون في عزلة تامة بصحبة أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم أو يسيرون في الشوارع وهم يضعون سماعات الأذن، ما يقيم حاجزًا أمام تحقيق التواصل الفعّال ويحد من حتى الاستعداد إلى الإصغاء بهدوء. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي تزيد من تفاقم المشكلة حيث إنها تدور حول التحدث والإخبار والتعريف الشخصي وتشكيل السرد أكثر بكثير من الاستماع، بالإضافة إلى كونها تخلق مجتمعات نرجسية تركز على إظهار أفرادها بأفضل الصور بدلًا من التواصل الفعلي مع الآخرين، وهنا تكمن المفارقة غير المتوقعة والتي تدعو إلى السخرية أحيانًا، أنه عندما تضاعفت قنوات التواصل التي وفّرتها وسائل التواصل الاجتماعي تراجع التواصل الفعلي بين الناس وكل ما يتطلبه من قدرة على الإصغاء السليم. ومن هنا، يمكننا الحديث عن فن الإصغاء الضائع الذي بات سمة من سمات العصر السيبراني.
 
ثقافة عامة لا تشجع على الإصغاء
من جهة أخرى، فإن الثقافة العامة بالمجمل لا تعير اهتمامًا كافيًا لأهمية الإصغاء، فمعظم المدارس والجامعات لديها دورات في المناظرة والبلاغة والخطابة، لكنها نادرًا ما تقدم دروسًا تعلّم فن الإصغاء، كما يمكن الحصول على درجة الدكتوراه في التواصل الكلامي والانضمام إلى منظمات تعليمية في العالم من أجل تعزيز التواصل والقيادة وإتقان مهارات التحدث، لكن لا توجد أية جهة تهتم لتعزيز التميّز في الإصغاء. في كتابها: «أنت لا تُصغين» You’re Not Listening تشير الكاتبة الأمريكية كيت مورفي Kate Murphy  إلى أن الحياة العصرية معادية للإصغاء الجيد بشكل خاص، وتقول إنه لطالما يتم تشجيعنا على الاستماع إلى قلوبنا، والاستماع إلى أصواتنا الداخلية، والاستماع إلى حدسنا، لكن نادرًا ما يتم تشجيعنا على الاستماع بعناية وبقصد إلى الآخرين، بالإضافة إلى كل ذلك، وفي إيقاعات الحياة اليومية الحديثة، فإن النشاز المسيطر عليها لا يشجع على الإصغاء أبدًا بحيث إن مستويات الضوضاء في المطاعم تجعل روادها يجهدون لسماع بعضهم البعض، والمكاتب ذات التصاميم المفتوحة تجعل كل نقرة على لوحة المفاتيح وكل مكالمة هاتفية ومحادثة جانبية مصدر إزعاج متواصل، فضلًا عن الزحمة المرورية في شوارع المدن والموسيقى التي يتم بثها في المتاجر وأصوات ماكينات طحن القهوة في المقاهي التي تتجاوز حجم المحادثة العادية بما يصل إلى 30 ديسيبل، والتي يمكنها أن تسبب فقدان السمع.  كلها عوامل تعيق قدرتنا على الإصغاء، ما يسبب مشكلة في حد ذاتها، إذ لطالما تم خوض الحروب وخسارة الثروات وإنهاء الصداقات بسبب عدم الإصغاء السليم.  فمن خلال الإصغاء نتواصل ونفهم ونتعاون ونتعاطف ونتطوّر كبشر ، كونه هو الذي يمنحنا الحكمة، حسب الكاتب الأمريكي مارك توين الذي يقول إن: «الحكمة هي المكافأة التي تحصل عليها طوال حياتك من الاستماع عندما كنت تفضل التحدث». وهناك أهمية أخرى للإصغاء، لا سيما في وقتنا الحالي، حيث تعتبر مشكلة الإحساس بالوحدة مرض العصر وحيث ينصح الناس، لمحاربة شعورهم بالوحدة، بالتواجد مع أشخاص آخرين سواء كان من خلال الانضمام إلى النوادي أو ممارسة الرياضة أو الانخراط في الأعمال التطوعية أو دعوة الناس إلى منزلهم.  لكن هذه النصائح لا تكون عملية إذا كان الناس سيشعرون بالوحدة حتى بوجودهم مع الآخرين لأن معظم الناس لا يستمعون بشكل جيد إلى بعضهم البعض. 

النرجسية التخاطبية واستجابة التحول
لكن بعيدًا عن العوامل الخارجية التي تدفعنا إلى عدم القدرة على الإصغاء السليم، ثمة عوامل نفسية على الصعيد الشخصي تؤدي إلى تشويه عملية الإصغاء لدينا، وهنا يمكن الإشارة إلى المصطلح الذي صاغه عالم الاجتماع تشارلز ديبرCharles Deber في كتابه: «السعي وراء الانتباه: القوة والأنا في الحياة اليومية» The Pursuit of Attention: Power and Ego in Everyday Life وهو «النرجسية التخاطبية» الذي عرفه على أنه: «الميل لإعادة المحادثات إلى أنفسنا والأشياء التي نهتم بها... أحيانًا بوعي وأحيانا أخرى بطريقة لا شعورية». فنحن نحب التحدث عن أنفسنا كونها أكثر الموضوعات راحة ومتعة بالنسبة لنا لأننا نعرف عن أنفسنا أكثر مما نعرف عن أي شيء آخر، بالإضافة إلى سبب آخر، وهو سعينا الدائم وراء الانتباه الذي هو بمنزلة مورد اجتماعي (نوع من العملة) الذي يمثّل ديناميكيات القوة بين الناس. وهكذا فإن الفرضية بسيطة: كلما زادت المحادثة عنا زاد الاهتمام الذي نحصل عليه وزادت العملة أو القوة الاجتماعية التي نكسبها. وهنا يمكن الحديث عن استجابة التحول في مقابل استجابة الدعم بالمحادثة، واستجابة التحول، التي هي في صلب «النرجسية التخاطبية»، هي محاولة لتمهيد الطريق للشخص الآخر لتغيير الموضوع ولفت الانتباه إلى أنفسنا نحن، فعلى سبيل المثال عندما يقول لنا أحدهم: «أنا متعب جدًا. بالكاد نمت الليلة الماضية» ونرد عليه بـ«لقد نمت بشكل سيئ أيضًا، ولدي الكثير من العمل الذي يجب القيام به هذا الأسبوع لدرجة أنني لا أملك وقتًا للنوم»، وهو رد فعل يتجاهل تمامًا البيان الأولي.  وفي حين أن تبادل الحديث جزء مهم من أي محادثة ذات مغزى، فإن الحقيقة هي أن تحويل الانتباه إلى تجاربنا الخاصة أمر طبيعي تمامًا، فهناك ميل بشري لتفضيل التحدث عن أنفسهم أكثر من أي موضوع آخر، وقد وجدت إحدى الدراسات أن «معظم وقت المحادثة الاجتماعية يخصص لتصريحات حول التجارب العاطفية للمتحدث و/أو علاقاته». أما السبب البيولوجي العلمي وراء ذلك فهو أن الجزيرة أو القشرة الجزيرية في الدماغ، وهي منطقة من الدماغ موجودة داخل القشرة الدماغية، تأخذ المعلومات التي يخبرنا بها الناس ثم تحاول العثور على تجربة ذات صلة في بنوك الذاكرة لدينا من أجل إعطاء سياق معين للمعلومات، في محاولة من دماغنا لفهم ما نسمعه ونراه. وبطريقة لا شعورية نجد تجارب مماثلة ونضيفها إلى ما يحدث في الوقت الحالي، ثم يتم إرسال مجموعة كاملة من المعلومات إلى المناطق الحوفية، وهي الجزء الموجود أسفل المخ مباشرة، وهذا هو المكان الذي يمكن أن تنشأ فيه بعض المشاكل، فبدلًا من مساعدتنا على فهم تجربة شخص آخر بشكل أفضل يمكن لتجاربنا أن تشوّه تصوراتنا لما يقوله أو يختبره.  وفي حين أن استجابات التحوّل قد لا تحدث عن قصد فإنها تجعل الشخص العادي يبدو غير مهتم بما يقوله شريكه في المحادثة، وهو مثال رئيسي على النرجسية في المحادثة.
لكن ذلك لا يعني أنه لا يمكننا اختيار استجابة الدعم التي تمكّننا من أن نكون شركاء أفضل وتساعدنا على تجنب الهيمنة على المحادثة. تعترف استجابة الدعم بكلمات المتحدث الأولية بدلًا من الالتفاف عليها وتحويل المحادثة نحو الذات. وفي العودة إلى المثال السابق تكون استجابة الدعم على التصريح بـ: «أنا متعب جدًا. بالكاد نمت الليلة الماضية»، على الشكل التالي: «أنا أيضًا أنام بشكل سيئ. برأيك، ما الذي كان يبقيك مستيقظًا؟» مثل هذه العبارة تستدعي تجربة الشخص المتلقي مع الحفاظ أيضًا على تركيز المحادثة على المتحدث الأصلي. يحدث هناك تدفق طبيعي للأفكار من دون أن يتحكم شخص واحد في مسار المحادثة بشكل كامل، وهذا ما يمكن تسميته بالمحادثة الصحية التي تتضمن مساهمات من كلا طرفي المحادثة، وحيث تكون بعيدة كل البعد عن اللعبة التنافسية، كما أن المحادثة الصحية تولي اهتمامًا لكيفية ما يقوله الطرف الآخر وما يفعله أثناء حديثه وفي أي سياق، وكيف يتردد صدى ما يقوله في داخلنا. بالإضافة إلى كل ذلك، فالإصغاء بشكل جيد لا يعني مجرد الحفاظ على الهدوء بينما يسترسل الشخص الآخر في الحديث، بل على العكس تمامًا، الكثير من الاستماع الفعلي له علاقة بكيفية استجابتنا - الدرجة التي نستنبط بها تعبيرًا واضحًا عن أفكار الآخرين، وفي أثناء ذلك نبلور أفكارنا الخاصة. 
من أجل ذلك يمكن القول إن الإصغاء عملية معقدة ودقيقة لكنها موجودة فينا ويمكننا العمل على صقلها كل يوم. وعلى عكس التجريدات في الكثير من المفاهيم الأخلاقية والفلسفية، فإن الإصغاء موجود ليتم تطويره كل يوم، فهو مثل العضلة يمكن تدريبها، ومثل الذكاء يمكن اختباره. ولنتنبه دائمًا إلى أهمية الإصغاء في ظل إلهاءات وضجيج عصرنا الحالي الذي يطغى عليه الصراخ والمحادثات من طرف واحد، ولنتذكر ما قاله الفيلسوف الإغريقي إبكتيتوس: «لقد وهبتنا الطبيعة فمًا واحدًا وأذنين بحيث نستمع ضعف ما نتكلم» ■