الرواية العربية الرائجة

الرواية العربية الرائجة

 ظل الدرس الأكاديمي العربي لسنوات طويلة يتعالى على ما بات يعرف بـ «الرواية الرائجة» (Best Seller) أو الرواية التي يتراجع فيها الشرط الجمالي لصالح الشرط الاستهلاكي الذي يقوم على تركيبة الإثارة والتشويق وبنية المصادفات والخوارق وتداولية اللغة... وكل تلك الأمور التي تجعل الأكاديمية العربية تتعفف عن تناول هذه الظواهر التي تعيش على هامش البنية الأدبية.

 

لكن هذا الموقف يوشك أن يتغير مع جيل جديد من الدارسين وبأثر من الحضور المتزايد لمقولات «النقد الثقافي» و«بلاغة الخطاب»... وهي مقولات تعنى بالخطاب في عمومه وتنوعه وحضوره وتأثيره الجماهيري، بصرف النظر عن نوعه أو قيمته. ومن هذه المقاربات يأتي كتاب الدكتور شريف حتيتة الصافي «الرواية الرائجة... متابعة نقدية» (دار إشراقة - القاهرة 2021) الذي يقع في 130 صفحة من القطع المتوسط، ونال عنه جائزة الدولة التشجيعية بمصر هذا العام 2022م. 
ولعلّ أهم ما في هذا الكتاب انشغاله بضبط المصطلح «الرواية الرائجة» وتتبع مساراته وتقاطعاته حيث نما في سياق غربي واكتسب دلالة قد تختلف بدرجة أو أخرى عن دلالته عندنا، وقد نجم عن ذلك قدر من عدم التحديد، وهو ما احتاج من الناقد لأن يفرد له جانبًا من الفصل الأول الذي حمل عنوان «الظاهرة والتلقي النقدي».
فماذا نقصد تحديدًا بالرواية الرائجة (Best Seller)؟ 
قد يكون من تحصيل الحاصل الإشارة إلى أن الرواج مفهوم كَميّ؛ فالراوية الرائجة هي التي تحظى بنسبة عالية من البيع والتوزيع، وإذا اعتمدنا هذا المعيار الكمي وحده، بدا أننا إزاء مشكلة؛ إذ يمكننا أن نحصي روايات كثيرة لكبار الكتاب التي تطبع مرارًا وتكرارًا وتنتشر بين أجيال القُرّاء المتعاقبة، مثل الأيام والحرافيش وأولاد حارتنا وكثير من روايات توفيق الحكيم ويحيى حقي وإحسان عبدالقدوس وغيرهم... وهنا يبدو أننا مضطرون إلى متابعة كريستوفر دريهر الذي يقيد هذا الشرط بقوله: «Best Seller هو الكتاب الذي بيع منه أكثر من عدد من النسخ الأسبوع الماضي». (الصافي37)،  وهذا يعني أن الإشكال لا يتعلق بانتشار الكتاب أو الرواية بين القراء في حد ذاته بقدر ما يتعلق بالزمن الذي ينتشر فيه، إذ يجب أن يكون ذلك سريعًا، وفي فترة متقاربة، وإذا أخذنا ذلك في الحسبان بدا أننا - خاصة في العالم العربي - إزاء إشكال آخر، يحدده الصافي قائلًا: «الاستهلاك الأدبي في العالم العربي لا يخضع - في كثير من الأحوال - إلى الدراسة العلمية والمتابعة الحقيقية المبنية على معايير دقيقة وإحصاءات، فمثل تلك الإحصاءات قلما تتاح في ظل غياب الشفافية في تداول المعلومة؛ خاصة تلك المتعلقة بجانب اقتصادي». (ص13).

عوالم جديدة
وبعيدًا عن هذه المصاعب، فمفهوم الرواية الرائجة يحتاج إلى مزيد من الضبط الموضوعي، وهو ما تضافرت حوله الجهود؛ ففي الوقت الذي تؤكد فيه أماني فؤاد على البعد الاستهلاكي، وعلى نوعية قرّاء تلك الرواية من الشباب خاصة، يحاول الصافي أن يتقدم خطوة أبعد؛ فيقدم تعريفًا لها بالتركيز على سياقها وأبرز سماتها، فـ «الرواية الرائجة نمط من الكتابة الروائية يغلب على كتّابه الانتماء إلى جيل الشباب، ظهر مرتادًا عوالم جديدة منبتة عن الواقع، وتتخذ أبنيتها شكلًا خطيًا يبتعد عن تعقيدات السرد، ويقترب من التابوهات في غير تعمق، متخذًا من حاجات السوق والمستهلك أساسًا لبناء رواية ملبية لها ومتوافقة معها». (الصافي27). 
يبدو هذ التعريف متوازنًا إلى حد كبير؛ فهو ينظر بعين إلى الظاهرة في سياق وجودها الاجتماعي والتاريخي، وينظر بالأخرى إلى بنيتها الخطية، ويتجنب - ربما بأثر من تقاليد المنهاجية الحديثة على النقد المعاصر- الحكم بالقيمة على هذه الرواية.
ورغم ذلك، فمن الضروري أن نتفق على مبدأ الرّواج الحسابيّ، ولنتفق أيضًا على دور المتلقي في هذا الرواج، ولنتفق أخيرًا على أن هذا الرواج له أسبابه التي يمكن تلمسها في ثيمات تلك الرواية وفي تقنياتها... وهنا يبقى السؤال: كيف يمكننا مقاربة الرواية الرائجة؟ هل نقاربها بالأدوات ذاتها التي نقارب بها الرواية المشيّدة على نحو جمالي وتنطوي على مستويات تأويلية متعددة؟ 
هذا ما يحاول الصافي الإجابة عنه انطلاقًا من مسلّمة ترى أننا إزاء عمل روائي مهما كان موقفنا منه أو تقديرنا له... لقد راج هذا العمل لأسباب مختلفة متعددة، لكنه ينتمي تجنيسيًّا إلى الأدب، ومن الضروري أن تكون لغته أقرب المداخل التي يمكن الدخول منها إلى هذا العالم الذي جذب المتلقي إلى فضائه ومكَّنه من التفاعل مع تقنياته... ومن هنا يأتي الفصل الثاني حاملًا عنوان: «اللغة مدخلًا لقراءة النص الرائج».  يحاول الصّافي هنا عبر عدة روايات مختلفة تنتمي كلها بدرجات متباينة إلى هذه الراوية اختبار الأداة اللغوية باعتبارها سبب هذا الرواج؛ فاللغة - فيما يقول - هي «وعاء الأفكار والمضامين، وبها تنتقل الرسائل بين المبدع والمتلقي، وأي تفكير في تحقيق رواج لأي نص مكتوب لابد أن تكون اللغة أول وسيلة يمكن الاعتماد عليها في سبيل تحقيق هذا الهدف». (ص52).
يقف الصّافي إزاء لغة رواية «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي التي تمتاز بالحضور الشعري الذي يخاطب شرائح مختلفة من المتلقين، وذلك عبر بنية منفتحة على مختلف الأجناس، أو عبر بنية تستفيد من مقومات كل جنس أدبي، فتتعدد مستويات تلقيها أو لنقل إن هذه المستويات تشبع الأمزجة المختلفة لشرائح واسعة من المتلقِّين... ولا يتوقف الأمر عند شعرية اللغة أو التراكيب المجازية وحدها، وإنما يبالغ النص في توظيف تقنية المونولوج الداخلي، وهي تقنية تستوعب فكرة البوح، التي تتسع بدورها للتشييد الشعري...  ربما هذا الملمح تحدث عنه عبدالله الغذامي عند الحديث عن الحضور النسوي النوعي في الراوية؛ فقد جعلت مستغانمي المرأة ذات حضور لغوي بوصفها ذاتًا لغوية في ظل ثقافة كانت فقط تجعلها موضوعًا لغويًّا... فهنا - والكلام للغذامي - تحوّل في السيطرة على الكتابة نفسها، فلم يعد الرجل هو المتكلم أو هو الذي يفصح عن حقيقة الأنثى، لكنها المرأة التي تفعل وتفصح عن نفسها... (ص60).  ربما لهذا التعدد اللغوي بدت «ذاكرة الجسد» في المنظور النقدي عملًا استثنائيًّا، فهي عمل تمكن من الجمع بين الرواج الحسابي والقيمة الفنية معًا فيما يرى «تيتز روكي» و«فريال غزول».
وإذا كان نص «ذاكرة الجسد» قد راج بفضل لغته الشعرية العالية ومعجمها المتأنق، فإن راوية «القوقعة» للسوري مصطفى خليفة التي تصنف ضمن «أدب السجون» قد راجت بفضل عالمها ولغتها التي تمتاح مفرداتها من قاع التداول اليومي، أو اللغة القبيحة... فلغتها - فيما يرى الصافي - تمثيل رمزي لعالم الرواية الذي يمتلئ بمشاهد لا حصر لها لانتهاك الإنسانية وإذلالها... وبذلك كان الفضح اللغوي جزءًا لا ينفصل عن فضح البطش السياسي!
وتختلف هذه اللغة إلى حد بعيد عن لغة رواية «موسم صيد الغزلان» للمصري أحمد مراد التي تتناول الإلحاد بوصفه فكرة أساسية من حياة البشر في المستقبل... وهذه الثيمة الصادمة قد تفسر رواج الرواية، غير أنها بذاتها لا تكفي؛ فاللغة هنا لها دور أساسي في الرواج؛ حيث تتكون من مستويات متباينة ومتجاورة؛ فتنتقل بين الفصحى المعاصرة والعامية المصرية، واللغة المعربة والمفردات الإنجليزية، واللغة الخاصة بالتواصل بين الشباب... وكلها تنساب في تدفق وتلقائية على ألسنة الشخوص، حتى لكأننا أمام «كرنفال لغوي».
ما نخلص إليه في هذه النقطة تحديدًا هو قوة العلاقة بين موضوع الرواية ولغتها من ناحية ورواجها من ناحية أخرى؛ فإذا كانت رواية «ذاكرة الجسد» قد اعتمدت على لغة شعرية تناسب موضوعها وهو «موضوع كتابة الذاكرة، ذاكرة الفرد الأنثى، وذاكرة الجماعة أيضًا»... فإن لغة «موسم صيد الغزلان» قد «اكتسبت جمالياتها من لغتها الخاصة التي حاكت لغة الشباب في الوقت الحاضر، ومثّلت المصير اللغوي الذي آلت إليه بمآل الأحداث والزمان والمكان في المستقبل الذي كان موضوعًا للعمل» (ص79 - 80).

سلطة المتلقي 
قد لا يكون الحديث النقدي عن دور المتلقي بوصفه أحد محددات العملية الإبداعية جديدًا، وإذا كنا إزاء رواية استهلاكية بالأساس فهذا يفرض علينا النظر في طبيعة هذا الحضور (الملزم) لهذا المتلقي عبر المستويات المختلفة، وهذا هو موضوع الفصل الثالث والأخير لهذه المقاربة «من سلطة الإبداع إلى سلطة التلقي». 
وفيه يميز الصافي بين الرواية الجمالية الراسخة التي حرصت باستمرار على صدع أفق التلقي بما تقترحه من ثيمات وتقنيات مستمرة على قرائها وبين الرواية الرائجة التي تجاوبت على طول الخط مع توقعات قرائها وتماهت مع ما يُنتظر منها، لقد تغير موقع المتلقي في هذه الرواية، وبات ملزمًا لكتّابها، أو لنقل لقد حرص كتابها على الاستجابة الموضوعية والجمالية لما يطلبه هذا المتلقي!
وهذا الحضور المؤثر للمتلقي نجده على مستويي التقنيات والمضامين على حد سواء، حيث يجب أن يكون المضمون مثيرًا وقد يصل إلى حد الفانتازي ولا يعبأ بالأسئلة الوجودية والاجتماعية والتابوات العامة (الجنس والسياسة والدين)، وإذا اقترب منها فيكون اقترابه بسيطًا وسطحيًّا... وذلك على نحو ما نجد في «يوتوبيا» لأحمد خالد توفيق و«الفيل الأزرق» لأحمد مراد»، و«اغتصاب لكن تحت سقف واحد» لدعاء عبدالرحمن و«إنستا - حياة» لمحمد صادق... إلخ.
وعلى مستوى التقنيات نجد نزوعًا واضحًا نحو المباشرة والسطحية وبساطة البنية والبعد عن التركيب السردي الذي يحتاج إلى تركيز وتأويل.

فئة الشباب
ولا يتوقف الأمر على ما يطرحه هؤلاء الكتاب من موضوعات تمتاز بالبساطة والخفة في المعالجة، كما أنه لا يتوقف عند حدود استعمالهم للغة المتداولة بين شرائح واسعة من الشباب على نحو ما أشرنا، وإنما يتعدى الأمر إلى شخوص الرواية ذاتها، وهي شخوص تنتمي غالبًا إلى فئة الشباب ممن هم دون الأربعين... وكأننا إزاء كتابة تتجه إلى شريحة معينة، وتمنحها الفرصة في رؤية أمثالها من الشخوص، والتماهي مع قضايا هي جزء من انشغالها، حتى لو كانت زائفة، وكانت معالجتها ساذجة.
وفي هذا الإطار الترويجي يظهر ناشر هذه الرواية عناية بالغة بتصميم الغلاف واختيار العنوان الغريب والمثير فضلًا عن طريقة تثبيته على الغلاف نفسه، فعلى سبيل المثال نجد تصميم رواية «اغتصاب ولكن تحت سقف واحد» قد كتب عليه الجزء الأهم في اسم الرواية «اغتصاب» باللون الأحمر، ووضعت صورة فتاة وسط غبار وأشجار كثيفة. كذلك وضعت العلامة الدالة على رواج الرواية التي هي في حقيقتها إحدى وسائل صناعة الرواج للرواية، وأعني بها عبارة «الطبعة 12». (ص96).
وهذا الحضور الترويجي الشكلي قد ترادفه نصوص موازية تؤكد على حضور القارئ وسيطرته البالغة على النص، كما نجد في حاشية الشكر التي يتوجه بها كاتب رواية «إنستا- حياة» إلى القارئ:
«وأخيرًا ودائمًا... القراء الأعزاء... في انتظار رأيكم على أحر من الجمر، سواء بالسلب أو الإيجاب... وأدعو الله أن أظل دائمًا عند حسن ظنكم بي»...!
وهذا القدر من التملق غير المسبوق هو روح هذه الحالة بشكل عام... وكأننا إزاء كتابة موجهة لهذه الفئة تحديدًا، تمامًا كما يقول إسكاربيت عن الكتاب الناجح «الذي يعبر عما كانت تنتظره هذه الفئة الاجتماعية، والذي يكشف هذه الفئة أمام نفسها. إن الانطباع لدى القراء بأنهم خطرت لهم الأفكار نفسها، وأحسوا بالمشاعر ذاتها، وعاشوا الطوارئ نفسها، هو واحد من الانطباعات التي يذكرها غالبًا قرّاء كتاب ناجح». (ص88).
يحاول الصّافي في ختام كتابه أن يجمع السمات الفنية لهذه الرواية في عدة فقرات، تحتاج إلى مزيد من المتابعة، بل نقل: إنها تحتاج منه ومن غيره من الدارسين مزيدًا من الفحص لمقاربة هذه الظاهرة، ويمكننا إجمالها على النحو التالي:
نحن إزاء رواية تميل إلى نزع الألفة عن لغة الرواية، باستخدام مفردات لم يعتدها قارئ الرواية بشكل عام، المقاربة السطحية للقضايا والأفكار الدينية والاجتماعية، النزوع نحو العوالم الغرائبية والمحظورات، طول حجم الرواية نسبيًا، بساطة البنية الروائية وتضاؤل حضور الحدث وهيمنة الأفكار على الشخصيات التي تؤدي دورًا وظيفيًّا بسيطًا يتمثل في مجرد التعبير عن هذه الأفكار، وكثرة الوصف الذي يمتد إلى صفحات متتالية وهيمنة المونولوج الداخلي والمشهد الحواري على النصوص.
لكل ما سبق، بدا لنا كتاب «الرواية العربية الرائجة» لمؤلفه الدكتور شريف حتيتة الصافي عملًا مرجعًيا في مقاربة هذه الظاهرة التي تعفف عنها الدرس الأكاديمي طويلًا، ولعله يفتح الباب لمزيد من المقاربات الأكاديمية في المستقبل القريب ■