نحو مجتمع أكثر انفتاحًا

نحو مجتمع أكثر انفتاحًا

تعيش جلّ المجتمعات العالمية في أزمة خانقة؛ اجتماعيًا، وصحيًا، ومناخيًا، وسياسيًا، وغيرها من الأزمات.  وبالنظر إلى هذه الصورة المعتمة والمشتركة يراهن ديدييه فاسين في كتابه «نحو مجتمع أكثر انفتاحاً»  على قيمة الذكاء.  يمكن قراءة تراكم هذه الأزمات على أنها لحظة حرجة تصاحبها أيضًا «أوقات المقاومة والتعبئة والتجريب». ولتحليل هذه اللحظة الحرجة وفهمها بشكل أدق، والنظر في فتح الإمكانيات نحو العالم الذي نود أن نعيش فيه، حيث يدعو ديدييه فاسين عددًا كبيرًا من المتخصصين إلى كتابة مجلد مكون من أربعة وستين فصلًا، حيث يمكننا الرجوع إلى كل فصل بشكل مستقل عن الآخر، كأننا نتصفّح موسوعة في الوقت الحاضر. لقد تمكن المؤلفون، بعيدًا عن التباهي بسعة الاطلاع، من تقديم ملخصات واضحة مصحوبة بببليوغرافيات قصيرة وملاحظات وفيرة لكل من يرغب في الاطلاع الواسع والإلمام المستفيض.

 

في الفصول الخمسة الأولى من الكتاب المعنونة بـ («القضايا»، «السياسة»، «العوالم»، «اللامساواة»، «الاعتراف») نجد الأسئلة الرئيسية التي تثير حاليًا الحقلين الإعلامي والسياسي، وتتعلق بما نسميه الرأي العام.  تعد البيئة أولى قضايا المجتمع القادم، حيث كرّس كريستوف بونويل مقالاً بعنوان «الأرض»، أبرز فيه الوضع البيئي المشترك، بدءًا بعصر الأنثروبوسين «وهو عصر يعود تاريخه إلى بداية التأثير البشري الكبير على جيولوجيا الأرض والنظم، بما في ذلك تغير المناخ البشري المنشأ، وهو تأثير عميق ومتعدد ومتآزر يصعب التنبؤ بما يخلفه من اضطرابات على الكوكب ككل». وبخصوص قضية الهجرة، يشير فرانسوا هيران، الذي يرفض كلًا من حلم الانفتاح العالمي وحلم الإغلاق المعمم، إلى أن الباحث هنا ليست مهمته البت في النقاش العام بل لإثرائه من خلال تقديم معلومات قابلة للقراءة ويمكن التحقق منها مدعومة بحجج جيدة.  ومع ذلك، فإن عددًا من المؤلفين يذهبون أبعد من ذلك، ويقدمون لنا حقًا مادة للتفكير.

نظريات المؤامرة
خصص ديدييه فاسين فصلًا مذهلًا لنظريات المؤامرة، وقد اختار لذلك مثالين موضحين؛ ففي نوفمبر 2020 عندما كانت فرنسا تحصي ما يقرب من مليوني حالة إصابة بفيروس كورونا، بما في ذلك أكثر من 42000 حالة وفاة وتم تقييد السكان للمرة الثانية، عرضت منصة Viméo الفيلم الوثائقيHold-Up، الذي يدعي الكشف عن الحقائق المخفية المروعة؛ مثل حقيقة أن النخبة العالمية مصممة على القضاء على 3.5 مليارات فقير لم يعد الأغنياء بحاجة إليهم. وفي غضون أيام قليلة سيحظى هذا الفيلم بمتابعة عدة ملايين من الأشخاص. وفي العام نفسه سيشهد تنديد منتدى QAnon على الإنترنت بعصابة شيطانية تسعى إلى التحكم في العالم، وهي أطروحة ستلقى قبول خُمس سكان الولايات المتحدة الأمريكية.  وإذا لم يكن الإيمان بالقوة الشريرة لقوى الظلام ظاهرةً حديثةً، فإن النظريات الحالية تنتشر بسرعة في جميع أنحاء العالم، وتلتقي بالإيديولوجيات الشعبوية، ما يجعلها مثيرة للقلق.
لا يتعلق الأمر، ببساطة، بإدانة نظريات المؤامرة، بل بفهم نجاحها داخل «الجماعات المسيطرة» التي لا تثق في الروايات الرسمية. يعتمد ديدييه فاسين على خبرته كعالم اجتماع للصحة ليذكر التجارب البشرية حول انتقال فيروس الإيدز، والتي أجريت في جنوب إفريقيا، حيث تعرض الأشخاص وسكان البلدات بشكل غير ملائم لمخاطر التلوث الجسيمة. وفي ولاية ألاباما الأمريكية أجريت دراسة غير مبررة أخلاقيًا على مرض الزهري عام 1932 على الفلاحين السود الذين كانوا يعانون من هذا الداء، وقد استمرت هذه الدراسة أربعة عقود خضع فيها المرضى للرعاية الطبية وتم إيهامهم بأنهم كانوا يتلقون العلاج، ولم يُسمح لهم بالاستفادة من المضاد الحيوي (البنسلين)، على الرغم من أن هذا المضاد أثبت فاعليته وكان متوافرًا منذ عام 1947. أما في الحالة الفرنسية، فإن الافتقار إلى الشفافية في العمل العام وعادات السرية وزيادة الشعور بالظلم أو حتى الكذب، من بين العديد من العوامل الأخرى التي يمكن أن تعزز الالتزام بأطروحات المؤامرة.

رفض المفاهيم البائسة
في فصل «العوالم» الذي خصصه فابيان ترونج  للضواحي، والتي اعتبرها أماكن العبور التي أصبحت مناطق محصورة في منطق يؤدي من غرفة معادلة الضغط إلى المصيدة، يحوّل المؤلف النظرة ويثري الانعكاس، إذ يحلل ويرفض المفاهيم البائسة والتصورات الثنائية والمثيرة التي تقدم أحياء الطبقة العاملة كفضاء يهدد بشكل مباشر التماسك الوطني. إن شعبية ممثلين مثل عمر سي  وآخرين والنجاح السياسي للجنة الحقيقة والعدالة لأداما والمكان الذي احتلته موسيقى الراب وثقافة الشارع  تُظهر بوضوح أن هذه التمثيلات هي معارك خلفية، «خارجة تمامًا عن المكان الذي تشغله ثقافيًا، وكل ما يتعلق بالضاحية لا سيما شبابها». ويخلص ترونج إلى أن الضواحي تبدو بالأحرى «مثل بوتقة مجتمع غير متكافئ بشكل خاص، على الرغم من علاقاتها المتبادلة العميقة مع المراكز الغنية». تمت مناقشة هذه التفاوتات، وكذلك التمييز بجميع أشكاله، باستفاضة في القسم الثالث من المجلد.
تركز ميراي دلماس مارتي، المتخصصة الكبيرة في القانون الدولي (توفيت في 12 فبراير 2022)، في فصل مؤثر بشكل خاص على موضوع العدالة، واحدة من تلك «الكلمات التي استخدمت لدرجة أنه تم تحويرها وتحويلها أو حتى تشويهها للتكيّف مع الظروف والأيديولوجيات المختلفة والمتعارضة في بعض الأحيان»، تقدم الباحثة ملاحظاتها على المستقبل القريب للعدالة الجنائية، وتُظهر كيف شكلت هجمات 2001 (وهنا تشير إلى نظرية رين توم) «كارثة تشعب حقيقية» من خلال جعل الأمن، وعلى نحو متناقض، أولى الحريات، حيث أدى التقليل من شأن حالة الطوارئ إلى «تأثير مزدوج يتمثل في طمس وظائف العدالة في النظم القانونية»؛ أولًا، من خلال تعتيم «أنثروبولوجي» بين الوظيفة العقابية للعدالة وإقامة عدالة «تنبؤية» تنتقل إلى البشر «الخطرين»، حتى إلى السكان «المعرضين للخطر»، وهو مبدأ احترازي مستعار من قانون البيئة والمنتجات الاستهلاكية. ثم من خلال تعتيم «سياسي» أكبر بين سيادة القانون، وهذا يعني حسب الكاتبة، مراعاة القانون، وحالة المراقبة والشك «التي تسخر القانون للخلط بين الجريمة بالحرب». إن مساواة الجريمة بعمل حرب سمحت، على سبيل المثال، للولايات المتحدة بإضفاء الشرعية على الضربات ضد العراق في عام 2003 كعمل دفاع «وقائي» عن النفس. أدى هذا التحول «إلى قيام دول أخرى، بما في ذلك فرنسا، بتبرير الاغتيالات المستهدفة المتمثلة في قيام السلطة التنفيذية بمحاكمة الأعداء وإدانتهم وإعدامهم دون محاكمة».
لقد وصف ميشيل فوكو فترة ما قبل الدولة، وهو وصف ينطبق على ما نعيشه الآن، حيث تعمل روابط الولاء على تراجع نظام القانون، مع عولمة المراقبة، ونقل أماكن الاعتقال السري أو التعذيب . إن تجيير الجيوش لصالح الدول الغنية يتناقض بشكل مؤلم مع غياب الجيش أو الشرطة لتنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية على وجه الخصوص. فعندما نتذرع بالحرب في حربنا ضد الإرهاب، ولكن أيضًا ضد فيروس كورونا، فإننا في الواقع نؤسس لحالة حرب «من دون حدود إقليمية، ومن دون قانون حرب ومن دون معاهدة سلام». لقد وصفت مارتي هذه الحرب: «بأنها حرب أهلية وعالمية بالفعل، ويمكن أن تصبح دائمة». يقول: إدوارد جليسان فقط دفعة من المجتمع المدني، و«انتفاضة هائلة للخيال»، يمكن أن تثير «مواطنين جددًا في العالم» لا يستسلمون لحكم الخوف أو لحكم السوق بالكامل.

الاعتراف من منظور جديد
أما في فصل «الاعتراف»، وهو فصل مخصص لكيفية نظر المجتمع إلى نفسه، وللفئات التي يتم النظر إليها من منظور جديد، مثل الطبقات والمواطنة، والمفاهيم التي ظهرت مؤخرًا مثل الجنس أو الرعاية، والمفاهيم التي تم رفضها أحيانًا (إنهاء الاستعمار) أو تم تحويلها من معناها الأساسي، وهذه هي حالة العلمانية، التي يتطرق إليها المؤرخ فالنتين زوبر، بشكل مفيد للغاية، معتبرًا أنها مبدأ أساسي للعيش المشترك، كما ورد عام 2005 خلال الذكرى المئوية لقانون فصل الكنائس عن الدولة في فرنسا، وهو إعلان عالمي للعلمانية وقّع عليه أكثر من 250 مفكرًا من 30 دولة مختلفة، وحتى لو تم تطبيق هذا المفهوم في إطار تاريخ وطني معين، فإن العلمانية لم تعد استثناءً فرنسيًا.  ورغم ذلك، فإن هذا المبدأ النابع من فلسفة سياسية ليبرالية يتجه نحو تفسير غير ليبرالي، كما يتضح من قانون 2021 «ترسيخ مبادئ الجمهورية» الذي يبدو أنه «يعزز سلطات الدولة في مسائل السيطرة وضبط الأديان على حساب استقلاليتهم وحرياتهم». لقد كانت العلمانية تُفهم سابقًا كشرط لممارسة الحريات، وتحولت إلى مبدأ للهوية الوطنية ونظام للأمن العام.  «ففي المجتمع الديمقراطي يجب أن تكون الدولة علمانية، أي محايدة وغير منحازة، وليس المجتمع نفسه، فهو بالضرورة تعددي».
يستكشف الفصل السادس من المجلد، بطريقة مجردة أحيانًا ونظرية إلى حد ما، السبلَ المفتوحة بالفعل تجاه إمكانيات أخرى في الأمور الاقتصادية والبيئية. يتعلق الأمر بطرق أخرى للعمل، والاستهلاك، والتفكير في الديمقراطية، وحتى أن تكون مواطنًا، كما تفعل ساندرا لوجيير، من خلال البحث في منظور العصيان. ينتهي الكتاب بسلسلة من الفصول التي يمكن تسميتها «خارج الشاشة»، كتبها مؤلفون (بمن فيهم الفيلسوف أكسل هونث، وعالمة السياسة الألبانية ليا يبي، وعالمة الاجتماع الفلسطينية إصلاح جاد) الذين لا ينتمون إلى الحقل الأكاديمي الفرنسي، والذين اقترح عليهم ديدييه فاسين «إطلاق العنان» لتفكيرهم. على سبيل المثال يتحدث روبرتو إسبوزيتو عن المناعة المشتركة، أي الحصانة التي تصبح، بدلًا من استبعادها، «أداة إقصاء عالمي». فيما تم تكليف السنغالي فلوين سار بالفصل الأخير، الموسوم بـ«أن تكون على قيد الحياة، وأن تظل إنسانًا»، والذي دعا فيه إلى قطع العلاقة الآلية مع الطبيعة و«جلب الحيوية إلى أقصى إمكاناتها»، «لزرع بذور الحياة».
نحن بعيدون عن تحليلات الفصول السابقة التي غالبًا ما تكون متشددة، لكنها مليئة بالمعلومات. هذه الرحلة الجميلة للمفكر السنغالي ليست بخاتمة. لقد قدّم ديدييه فاسين المجلد، لكنه رفض أي تأليف نهائي وأي احتمال، حتى لو كان اختيار المؤلفين يشير إلى مشروع سياسي يمكن وصفه بأنه ديمقراطي للغاية وإنساني عميق. لا يسعنا إلا أن نرحب بهذا التفكير الجماعي الذي يتم فيه التعامل مع الموضوعات المجاورة (الديمقراطية، والمرأة، والبيئة، والعمل، والهجرة، والصحة، وما إلى ذلك) من زوايا مختلفة لا تتقارب دائمًا.  يكمن المفتاح إذن في تزويد أكبر عدد ممكن من الأشخاص بالمعرفة التي يحتاجونها لإجراء نقاش حقيقي، وبالتالي فإن المجتمع القادم سيكون مجتمعًا منفتحًا ■