جمال العربية: الإعلام المقروء والمسموع وإثراء اللغة المعاصرة

 جمال العربية: الإعلام المقروء والمسموع وإثراء اللغة المعاصرة
        

لغة سلبيات وإيجابيات:

          الحريصون على سلامة الفصحى، وخلوّها من أية شوائب أو سلبيات، في استخدامها لغة اتصال وتواصل، وبخاصة على ألسنة العاملين في وسائل الإعلام العربية المسموعة والمرئية - الذين يهبط مستوى إتقانهم للغتهم القومية وتمكّنهم منها عامًا بعد عام، بعد حدوث خلل كبير في العملية التعليمية على مستوى المدرسة والجامعة - وعلى ألسنة ضيوف هذه الوسائل والمتحدثين فيها، بدءًا بكبار المسئولين - في أحاديثهم وتعليقاتهم - وخطب رجال الدين في شتى المناسبات الدينية، هؤلاء الحريصون على سلامة الفصحى يعنيهم الأمر على مستوى سلبياته أولاً، تلك التي تشمل الاستخدام المعيب للوسائل الصوتية، وعدم التدريب الكافي للعاملين فيما يتصل بتنويع الصوت واستخدام النبر والتنغيم ودرجة الصوت ومعدّل السرعة والنوعية والوقف والسكتة وغيرها، والخلط بين الأصوات المجهورة والمهموسة، وبين الأصوات المرققة والمفخمة وبين «ال» الشمسية و«ال» القمرية، وشيوع انحرافات معظمها في ضبط عين الفعل الثلاثي المجرد، وفي ضبط عين المضارع المضعّف.

          وقليل من هؤلاء الحريصين هم الذين يتوقفون عند إيجابيات هذا الأمر، ذلك أن علماء الفصحى المعاصرة والمهتمين بدراستها والبحث فيها يُجمعون على أن الإعلام المسموع هو الإطار الوحيد الذي تمارَس فيه اللغة الصحيحة ممارسة عملية بصورة تنشد الكمال وتتحرى الصواب، بالإضافة إلى تدريب العاملين فيه لغويًّا ومتابعة أدائهم وتقويم ما ينحرف على ألسنتهم أو في أقلامهم.

          كما يُجمعون على أن هذا الإعلام هو المستجيب الأول لاحتياجات الجماهير التعبيرية، والمبتدع الأساسي لمعظم المادة اللغوية المستحدثة، والمضخة التي تقذف في شرايين اللغة آلاف الكلمات والتعبيرات الضرورية التي قد تعجز المجامع عن ملاحقتها ومتابعتها، بحيث يبدو الأمر أحيانًا وكأن وسائل الإعلام هي التي تقود المجامع اللغوية وتتقدم مسيرتها، ويصبح ما تتخذه المجامع اللغوية من قرارات هو من قبيل تحصيل الحاصل أو تسويغ ما هو مستخدم فيها.

          لقد عظُم دور لغة الإعلام في إثراء لغتنا المعاصرة، بعد أن اتسعت لحصاد الترجمة الآنية، وترجمات أصحاب التخصص في الميدان على مدى عقود متتابعة، نتيجة لجهود دائبة مستمرة.

نماذج من الثروة اللغوية العصرية

          الخصخصة الاستنساخ العقوبات الذكية القتل الرحيم غسيل الأموال التضخم عقدة الخواجة تجميد الأموال ثورة المعلومات جماعات الضغط النشطاء (جمع ناشط) اقتصاد السوق الإغراق الاقتصادي الجمرة الخبيثة الحمّى القلاعية نظام البوت Boot العوْربة العولمة الكونية.

          بالإضافة إلى ثروة لغوية حملتْها اللغة الجديدة في الإعلام المقروء والمسموع، فيما أطلق عليه اللغويون توليد الأفعال، في مثل:

          تصويب المسألة تعذيب مياه البحار تحضير القرى تقنين التبرع (بأعضاء الجسم) تدويل القضية تجذير الأفكار تفويج الحجاج ترفيق الأراضي (تزويدها بالمرافق) تثمين موقف الدولة تفعيل العمل العربي تهميش الدور تبوير الأرض الزراعية تعظيم الدور تسْريع النمو تديين السياسة تكييس السلع - تسييل الغاز- تحجيم العجز في الميزان التجاري ترسيم الحدود بين الدولتين.

          ومن هذه الإضافات أيضًا: شخصنة الأزمنة العوربة في مواجهة العولمة بلورة الفكرة حوسبة المشروع عقلنة العقل العربي تكريس المفاهيم الغربية تحرير التجارة عصرنة المجتمع  - قرضنة الموقف (جعله على صورة نمط قرضاي في الحكم) الوطْننة قبل العولمة تعزيز إيديولوجية السوق.

          بالإضافة إلى مصادر صناعية جديدة لم تعرفها اللغة من قبل: تبادلية تراجعية تراكمية تشاؤمية تعاقدية تعاملية تعددية تكاملية تواطؤية -  تحاورية تصادمية تظاهرية تعادلية تلقائية تعايشية تفاوضية.

          ومن الظروف: التحتية الفوقية الدونية الوسطية.

          ومن اسم الفاعل: الجاذبية العائلية الفاعلية التابعية.

          ومن اسم المفعول: المحسوبية المديونية المستقبلية المفوَّضية.

          ومن اسم التفضيل: الأحقية الأفضلية الأسبقية الأهمية.

          ومن أسماء الزمان والمكان: الموسمية -  المحلية المركزية الموضعية.

          ومن الجموع: الجماهيرية الحدودية الرجالية الشبابية الاستخباراتية العملياتية.

          ومن الضمائر: الهُوّية (نسبة إلى هو) الأنانية (نسبة إلى الأنا).

          ومن صيغ جمع الجمع:

          أيادٍ جمع أيْدٍ جمع يد -

          أُعطيات جمع أُعطية جمع عطاء - أساور جمع أَسْوِرة جمع سوار - بيوتات جمع بيوت جمع بيت - طرقات جمع طرق جمع طريق - أهرامات جمع أهرام جمع هرم.

          وبالإضافة إلى هذه الصيغ هناك أيضًا: حجوزات شحومات - وُصولات رسومات فحوصات زهورات كشوفات عكوسات شروحات سُحوبات (من البنوك) ضغوطات أذونات (أوراق تجارية ومالية ومصرفية) طروحات (سياسية وفكرية).

          واللغويون المهتمون بمتابعة مثل هذه الظواهر الجديدة ودراستها (وفي مقدمتهم العالم اللغوي الراحل الدكتور أحمد مختار عمر، والدكتور محمد حسن عبد العزيز عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة وأستاذ الدراسات اللغوية) يضيفون إلى هذه الظواهر الجديدة في العربية المعاصرة: النسب بزيادة الواو في مثل: سلطوي - نخبوي نهضوي إسلاموي فِِئوي جهوي.

          واستخدامات واسعة لـ«لا النافية» مع الاسم الواقع بعدها في مثل: اللاشعور (اللاشعوري) اللاإنسانية اللاأخلاقية اللاسلكية اللامنتمي اللاأخلاقي اللاإنساني اللانهائي اللامبالي اللامعقول اللامحدود اللاطبقي اللاتطبع اللاتوازن اللاإرادي اللاأوّلي اللامتناهي اللاإحساس اللامائية.

          ومنها النسب إلى ألفاظ الجموع في مثل: درس أخلاقي اتحاد طلابي قوانين دُوَلية بحث وثائقي تدريب مهني جمعيات نسائية مدن سواحلية مطلب جماهيري روابط أُسَرية تقارير صحفية صوت ملائكي.

          وهناك أيضًا: ثورة معلوماتية عمل مؤسساتي أخطاء مفرداتية دورة مخابراتية إجراءات عملياتية شبكة استخباراتية (وكلها منسوبة إلى جمع المؤنث السالم).

          وهكذا أصبحت اللغة العربية في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة وعاء العصر في كل المجالات العلمية والثقافية والأدبية والفنية بالإضافة إلى المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فكل ما ينتجهُ العصر ويبدعه تأليفًا وترجمة وتعريبًا، ونحْتًا واشتقاقًا وقياسًا، يصبّ في خطاب اللغة العربية في الإعلام العربي، الذي يضخ في كل يوم مئات الكلمات والتعابير الجديدة، تصبح في اليوم التالي جزءًا من متن اللغة الحية في الاستعمال على ألسنة الناس وأقلامهم. 

إبداع لغة: وشم النهر على خرائط الجسد:

          القصيدة للشاعر الذي غادر عالمنا منذ شهور قليلة: محمد عفيفي مطر، أودعها كعادته شهادته على عصر وزمان، وعلى وطن يتشرذم، بالرغم من  أنه يهديها «إلى غيلان  الدمشقي، وهو يجدد شهادته على مفترق الطرق بين النوم الألفيّ والثورة المغدورة والموت الملغوم».

          وفي القصيدة كما في شعر عفيفي مطر كلّه لسْع لغته، التي كأنها تمارس وخزها باعتبارها فعْل يقظة لا غيبوبة، وهي لغة تنتمي إلى الحقل والقرية، بمثل ما تنتمي إلى الرمل والبحر، وصعلكة المدينة أيضًا. وفي حسّه الإبداعي، وغيبوبته الشعرية المتفجرة، يفصح عفيفي مطر عن كون خاص له رموزه وعلاماته، ومواقيته، وهواجسه، لا يُبالي بأن استعارة شاغلت قارئه طويلاً فتوقف وتلبث، ولا بأن المعنى بعيد والدلالة مُغيّبة. يكفيه أن يضرب بالإزميل أرض الشعر حتى تنجب وتُفرّع، وحتى تمنحه هذه الأرض من خصوبتها ما هو كفيل بإنجاز الدهشة وإطلاق الغرابة، وتحقيق منجزه الأساسي: إبداع شعري شديد الخصوصية بلغة هي لغته وحده، ويقين طافح بالجمال، يغويه فينطلق في إثره، وقد لا يعود إلينا إلا بعد أوان طويل موغل في البعد.

          يقول عفيفي مطر:

هي الشمسُ،
هل كانت الأرض رُمّانة تتخلّق فيها أَجنّتُها الخضْرُ؟
هل كان ما في عروقي غمامة
تُفتّحها الريح، تجدِلُها موسمًا يتفتح في سُرّة الأرض،
تنسجها حمرة تتكشّفُ،
تنسجها رحمًا ومشيمة؟!
هل الأرضُ رُمّانة جسدي جذرها الشبكيُّ؟
هل الشمس كانت رصاصًا يُثقّب أفرُعَها
مانحًا جسدي شكله بالفراغات والكتلِ
المستحمة في قُزح الدمع
والدمعُ قوسُ الأفق؟!
هي الأرض..
هل كنت أنشوطة الصيد بينهما
أم أنا السّمكُ المتحجر في مائها المشتعل؟
هي الشمسُ والأرضُ، رأسي الفضا، قدمايَ
الممالكُ. بين الأصابع كانت رمال الظهيرة
سُقوفًا تُدرْدبُ أوطان موتٍ
وأكفان جوعٍ
وغُربة.
تبعثر أجناس أرصفةٍ ولغاتٍ، تُبعثر حُبَّ المواريث،
تُنبت نخْلَ الحجارة
تمدُّ موائدها، كلُّ شيءٍ مضيءٌ، وليمتُها أرؤسٌ
تتخابثُ.
بالهمس، يقطر منها دمٌ يتخاطر فوق الصحافِ
ويلتفُّ أقنعةً وكلامًا كلامًا يُخثّرهُ الخوفُ
كانت رمال الظهيرة تُكوّرهُ شجرا حجريَّ التفرع،
يا ساعةَ الرمل..
هل أنتِ آنيةُ العضب المتفتّتِ، هل أنتِ رمانةُ الأرضِ
يختصُّ فيك الفراغُ الرمالُ الكلامْ
وهل أنت موعودة للهُويِّ حطامًا على رُكبة الصرخاتِ
القديمة
وهل أنتِ منذورة للتخلّق أرغفةً ووجوهًا وأحصنةَ
ودمًا
تتخاصرُ فيه العداواتُ والخوفُ والقهرُ،
يرقصُ في شهوة العنف، يكشف ليْلَ الغرائزِ
والشهوات الصريحة،
يلبس كنْز هواجسه جسدًا ويمدُّ يد الخلق بين
الرماد، ويخطو خطى الشكل بين هيولي القيامة
أم أنتِ يا ساعة الرمل كراسة للمواقيت، في
كلِّ سطرٍ تصاريفُ أرضٍ يُغمّسها البحر بالملح
يأكلُها لقمةً لقمةً ثم يكتبُ:
«هذا شتاءُ المطر»
أتى كرغيف الطحالب، هل يغسلُ الماءُ أطرافهُ
أم يجيءُ دمًا من فساد العناصر والوقت،
هل يغسلُ الماء ما خلَّفتْهُ اليدُ البائدة
وهذا ربيع المواقيت أم موعدٌ للشجر
يُفتّق من قشرة الوقت أكمامه الهامدة!

          ثم يقول محمد عفيفي مطر:

نافذة من الزجاج المعشّق
هي الشمس، سمّرها عنكبوت الشظايا
سفينة نوحٍ على الأرضِ،
وجهك يا طفلة الحلم والرعبُ مُنقسمٌ
مستريب المساحات، أثوابُك امتلأت
بعطايا التناقض:
من تحتها سُرّةٌ تتشققُ،
هذي جيوش السلاطين هامدة في السكون الملوّنِ
(لا تعبري النهر يا طفلتي يا غزالة رُعبي
وحلمي المكثف
يأتي زمانك، يأتي زماني، فنعبرُ
في جسد الرقص، نخترقُ الصرخة الحجرية)
هي الأرضُ
هذا الدم المتخثر، وجهُ الحسيْنِ،
وعيناهُ كأسا دمٍ،
والشهادة بين ذراعيه: طفل تكلَّمُ في جانبيْه
الفتوقُ السخية
ودائرةُ الرمل  كعكته وفطام الشفاه الطريّة
هي الأرض..
قارورة الظمأ المتجذر بين التعاشيق.
(هل كان يدري الحسين
بأن المياه الأسيرة ملحٌ أُجاجٌ
وأن اشتجار السهام على الأفق فاتحة
في كتاب المطر؟)
هي الأرضُ..
نافذة للغيوم الأسيرة،
لا تعبُري النهر يا طفلتي يا غزالة حُلمي المكثّف،
هذا هو الله يمنحني ساعديْه،
وهذا هو الشعب يقذفني حجرًا في سكون
الزجاجِ الملوّن.
فانتظري.. جسدُ الرقص يبدأ رعْدته الدافئة
تقدم معي أيها الجسد العبد
وامرق كما يمرقُ الرمح، هل صرخةٌ أنت
مكتوبة في
نسيج الشوارع، أم أنت دوامة تتجسّد في
مدن تتقشر تحت نصال المطر؟!
ويا بقعة من دم كتبتْها المدائن، هل أنتِ مكتوبة في
المياه!
أم الماء جُرح الكتابة؟!

***

          والمقاطع المختارة من القصيدة الطويلة «وشم النهر على خرائط الجسد» تؤكد أن الإبداع بهذه اللغة الجميلة العصرية، إبداع بلا حدود، وأن ألوان الجمال فيه، هي بعدد شعرائه الحقيقيين، الذي عرفوا قدْر لغتهم في جمالياتها المتواصلة عبر العصور، فأضافوا إلى هذه الجماليات جمالهم الخاص، والفريد.

 

 

فاروق شوشة