القنبلة السكانية ومستقبل المعمورة
يحلو لكثير من العلماء والكتّاب التنبؤ بالمستقبل وأحداثه ومستجداته، وعدد منهم صدقت توقعاتهم وكثير من هؤلاء كانت تنبؤاتهم بعيدة عن الواقع. فهذه - مثلًا - توقعات الكاتب والصحفي الإنجليزي والتر ليونل جورج (1882-1926) الذي نالت مؤلفاته نجاحًا منقطع النظير، فقد كتب يوم السابع من مايو عام 1922 في صحيفة «نيويورك هيرالد الأمريكية صفحة كاملة من الحجم الكبير استعرض فيها تنبؤاته حول ما سيعيشه العالم خلال السنة الجارية، فذكر أن الطيران التجاري سينتشر عام 2022 وستبقى سفينة الركاب البخارية تُستعمل على السواحل، لكنها ستختفي على المسالك الرئيسية إذ سيتم استبدالها بقوافل الطائرات.
وتكهّن ليونل جورج بأن الطائرات ستقطع المسافة بين لندن ونيويورك في نحو 12 ساعة!
يصيبون ويخطئون
كما قال بخصوص الأسلاك الهاتفية إن الناس ربما لن يروا في عام 2022 أبدًا سلكًا في السماء، إذ من المؤكد عمليًا أن التلغراف اللاسلكي والهواتف اللاسلكية سيُزيلان نظام الكابلات قبل مدة طويلة من انتهاء القرن العشرين. وتحدث في مقاله عن الحروب، فرأى أن القادم منها سيكون مروِّعًا بسبب استخدام الغازات السامة الجديدة، والنيران التي لا يمكن إخمادُها، وسُحب الدخان العازلة للضوء.
وفي مجال الطاقة تنبأ بأن أحد مخاطر العالم سيكون بعد قرن من الزمان نقص الوقود... غير أنه من المحتمل أن يتم بحلول ذلك الوقت الحصول على كمية كبيرة من الطاقة باستغلال المدّ والجزر، ومن الشمس، وربما من الراديوم، ومن أشكال أخرى ذات صلة بالطاقة الإشعاعية، ربما يتم أيضًا تسخير الطاقة الذرية. وبنظر جورج سيكون الأمريكيون في عام 2022 أقل ميلًا إلى المغامرة وسيتمرّدون على ساعات العمل الطويلة، حيث سيعمل عددٌ قليل من الناس أكثر من سبع ساعات في اليوم. وقد أورد الكاتب الكثير من التنبؤات الأخرى لا يتسع المجال لذكرها، منها الصائب ومنها الخطأ.
ومن بين الاهتمامات التي شغلت بال الكثير من الخبراء والعلماء كثرة تعداد البشر في المعمورة، ونرى ظُلمة في مستقبل الكرة الأرضية بسبب هذه الكثرة. لكن المتنبّئين اليوم يخشون حدوث العكس؛ فهناك تجمعاتٌ سكانية كثيرة في العالم تسير نحو تقلّص تعداد سكانها. وهناك من الخبراء اليوم من يقدّر أن عدد سكان كوكبنا سيعادل نصف عددهم الحالي في نهاية القرن الحادي والعشرين، وهذا لأسباب عديدة دون مراعاة احتمال نشوب حروب خلال العقود المقبلة. وفي السياق نفسه تنبأ نادي روما قبل نصف قرن بأن عدد سكان العالم سيعرف ذروته في الستينيات من القرن الحالي ثم يبدأ في التراجع سنة بعد سنة! فهل نصدّق؟
في عام 1968 أصدر الباحث الأمريكي بول رالف إيرليش كتابًا في مائتي صفحة بعنوان «القنبلة السكانية» ونقرأ على صفحة غلافه تحت العنوان العبارة التالية: «في الوقت الذي تقرؤون فيه هذه الكلمات هناك أربعة أشخاص سيموتون جوعًا، أغلبهم من الأطفال». هذا ما كان يزعمه مؤلف الكتاب ويحذر منه للدعوة إلى الحدّ من النسل، فقد كان يرى اضطرابات مجتمعية ومجاعة داهمة خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في كامل أرجاء العالم. ما السبب؟ السبب هو الاكتظاظ في عدد سكان المعمورة! وهذا ما نقرأ في مطلع الكتاب: «لقد فشلت معركة إطعام البشرية جمعاء. في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين سيموت مئات الملايين من الناس جوعًا رغم كل برامج الطوارئ التي يتم تنفيذها اليوم. وفي ذلك التاريخ سيفوت الأوان، ولا شيء يمكن أن يمنع التزايد المفجع في معدل الوفيات عبر العالم».
الانفجار السكاني
نشير إلى أنه خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وبعد انقضاء الحرب العالمية الثانية ونتيجة الإقلاع الاقتصادي الذي لاح في الأفق بذلك الوقت، كان يكثر الحديث عن مخاوف من حدوث «انفجار سكاني». وقد ألّف كتاب «القنبلة السكانية» في تلك الأجواء العالمية المتوترة. ومن المعلوم أن بول إيرليش لم يكن المؤلف الوحيد لهذا الكتاب بل اشتركت معه زوجته وربما آخرون أيضًا. لكن الناشر أصر على أن يظهر اسم مؤلف واحد مع تغيير العنوان الأصلي للكتاب الذي كان «السكان والموارد والبيئة» ليتحوّل إلى «القنبلة السكانية». الغريب أن هذا العنوان الذي اختاره الناشر كان قد ظهر كعنوان لمنشور عام 1954، واضطر الناشر إلى طلب الإذن لتبنّيه كعنوان لهذا الكتاب الجديد!
لقد بيع الكتاب بأكثر من مليوني نسخة. ولا شك أنه زاد في وعي الرأي العام حول المشكل الديموغرافي في العالم والقضايا البيئية، بل يمكن القول إنه أثر خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي على السياسة العامة في عديد الدول. يلاحظ خبراء الإحصاء أنه على مدى الفترة من 1954-1968 التي سبقت ظهور الكتاب، كان عدد سكان العالم ينمو بمعدلات متسارعة، وبعد نشر الكتاب مباشرة بدأ معدل النمو السكاني العالمي في اتجاه تنازلي مستمر: انتقلت النسبة من 2.09 في المئة عام 1968 إلى 1.09 في المئة عام 2018.
يؤكد المؤلف في الطبعة الأولى للكتاب، أنه لا يوجد شيء يمكن أن يمنع حدوث المجاعات التي سيهلك فيها مئات الملايين من البشر خلال «السبعينيات والثمانينيات»، غير أن لفظ «الثمانينيات» حذف في الطبعات اللاحقة، إذ لاحظ المؤلف وغيره أن ما وقع في الميدان هو أن معدل الوفيات العالمي انخفض باستمرار، وبشكل كبير، منذ صدور كتاب «القنبلة السكانية». في الوقت نفسه تضاعف عدد سكان العالم، وتحسنت الوجبة الغذائية لسكان المعمورة، وبذلك دحضت تنبؤات المتشائم بول إيرليش!
كما أدرك الجميع أن العالم لم يتمكن من القضاء على المجاعة، وقد تبيّن أن سببها الأساسي هو عدم الاستقرار السياسي، وليس نقص الغذاء العالمي كما تصور الكاتب. من جهة أخرى، تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن نسبة سكان العالم الذين يعانون من «نقص في التغذية» وقد انخفضت بأكثر من النصف: من 33 في المئة إلى نحو 16 في المئة منذ نشر كتاب «القنبلة السكانية» عام 1968. مع أن الكاتب أورد في الطبعة الأولى لمؤلفه رأيه حول الهند، فقال إنه «لا يرى كيف يمكن للهند أن تطعم مائتي مليون شخص إضافي بحلول عام 1980»، ثم حذف هذا التنبؤ في الطبعات التالية!
أما الخبراء في العالم، من علماء الأوبئة وأطباء الصحة العامة وعلماء الديموغرافيا، فيرون اليوم أن الفساد هو السبب الرئيسي لسوء التغذية وليست الزيادة السكانية. وأشار بعضهم إلى أن التنبؤ الفاشل بمجاعات السبعينيات استند حصريًا إلى افتراض أن النمو السكاني المتسارع سيستمر إلى أجل غير مسمى، ولن يتم إحراز أي تقدم تكنولوجي أو اجتماعي يؤثر على هذه السرعة. أما اليساريون فيرون خطأ الكاتب بول إيرليش بأنه يكمن في تركيزه على تعداد السكان، وأن القضية الحقيقية تتمثل في طريقة توزيع الموارد الغذائية وليس في الزيادة السكانية. وقد اعترف بول إيرليش في مقال نُشر عام 2009 ردًا على الانتقادات بأن العديد من توقعاته لم تتحقق بينما دافع دفاعًا قويًا عن البعض منها متحججًا بقراءات مختلفة لبعض فقرات كتابه.
التأثر بكوكبنا المنهوب
يبدو أن المؤلف اطلع، وهو في الجامعة، على كتابين صدرا عام 1948، وتأثر بمضمونهما كثيرًا، وهما «جوع العالم» لوليام فوجت، و«كوكبنا المنهوب» لهنري فيرفيلد أوزبورن، وهما كتابان من أكثر الكتب مبيعًا في تلك السنة، وكان المؤلفان رائدين في مجال البيئة، ولم يتطّرقا إلا نادرًا للجانب السياسي بل تغلغلا في قلب المشاكل القائمة في العالم بذلك الوقت، تناولا الأسس المستقبلية للحياة البشرية على هذه الأرض، ذلك ما أدى بالعالم ألبرت آينشتاين إلى القول بخصوص الكتاب الأخير إن «المرء يشعر بحدة لدى قراءة هذا الكتاب بعدم جدوى معظم خلافاتنا السياسية مقارنة بالواقع الأعمق للحياة.
ولا شك أن المؤلفيْن تأثرا أيضًا في هذا المجال برأي من سبقهما، فقبل ذلك التاريخ بكثير في نهاية القرن الثامن عشر كان رجل الاقتصاد الإنجليزي توماس مالتوس (1766-1834) قد أكد أن التناقض بين النمو الديموغرافي المتسارع ومحدودية الموارد الغذائية سيؤديان بالبشرية إلى كوارث دائمة إلا إذا تم تنظيم المواليد، لكن سرعان ما فندت الثورة الزراعية في العالم تنبؤ مالتوس. غير أن وصول نسبة التزايد السكاني إلى القمة عامي 1965 و1970 جعل الخبراء يستعيدون السيناريو الذي رسمه مالتوس. وقد ركب صاحب كتاب «القنبلة السكانية» عام 1968 هذه الموجة، وتصور العديد من السيناريوهات الكئيبة، مثل انتشار «إنفلونزا خارقة» تقضي على أكثر من مليار نسمة. لكنه مال في تشاؤمه حول ما سيحدث للعالم إلى حلول كارثة مجاعة جماعية.
كان الكاتب بول إيرليش مقتنعًا بأن البشر مثل الحيوانات في السلوك، وطوّر وجهة نظر تقول «التاريخ نجده محزنًا في كل مكان، الناس يريدون أُسَرًا متعددة الأفراد». وبناء على حسابات تبدو سخيفة، أعلن إيرليش أنه إذا استمر النمو السكاني بهذه الوتيرة على مدى 900 سنة فسيأوي كوكبنا 60 مليار نسمة، أي ما يقارب مائة شخص في كل متر مربع! ذلك ما جعل هذا الكاتب يتخيل إنتاج مادة معقمة يمكن تسريبها عن طريق المياه الجارية أو الأطعمة الأساسية لتجعل العالم يحدّ من الانجاب، بل فكر في سَنّ عقوبات مالية للوالدين المنجبين ومكافأة لمن لم ينجبوا بعد خمس سنوات من الزواج.
أما الكاتبان الكنديان داريل بريكر وجون إيبتسون فبيّنا في كتابهما «كوكب فارغ: صدمة انخفاض عدد سكان العالم» الصادر عام 2020، بأن التحضر والتعليم واجتياح المرأة لسوق العمل كانت عوامل أكثر فاعلية بكثير من أي سياسة قسرية، مثل سياسة الطفل الواحد لفترة طويلة، المطبقة في الصين.
دقّ ناقوس الخطر
هكذا نرى أن التنبؤات والتحليلات تخطئ كثيرًا، فعلى مدار نصف قرن حذر الإحصائيون والمحللون والسياسيون من أن تزايد عدد السكان سوف يطغى على موارد الأرض ويحدث اضطرابًا لا يمكن السيطرة عليه دون هلاك عدد كبير من البشر، بينما نجد الآن عددًا متزايدًا من الخبراء يدقون ناقوس الخطر: فبدلًا من الاستمرار في الزيادة أضعافًا مضاعفة في عدد سكان العالم يتجه هذا العدد إلى انخفاض حاد في عديد البلدان، ذلك أن الأزواج تكيّفوا مع الظروف الصحية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة في كل بقاع العالم. والنتيجة: انخفاض كبير في معدل الإنجاب في جميع أنحاء العالم، من 5 أطفال لكل امرأة في منتصف ستينيات القرن العشرين إلى 2.3 طفل في عام 2021. ووفقًا لتوقعات الأمم المتحدة الجديدة، من المنتظر أن يصل عدد سكان المعمورة إلى ذروته في حدود عام 2080 حيث سيصل إلى 10.4 مليارات... لكن هذا الرقم يتراجع، ويتم تعديله باستمرار كما أشرنا في مطلع المقال.
وإذا عدنا إلى كاتب «القنبلة السكانية» نجده يسخر من «التفاؤل التكنولوجي» بشأن ما عرف بالثورة الخضراء. لكن هذه الثورة نجحت آخر المطاف في اعتماد أفضل أصناف الحبوب، واستخدام الأسمدة ومنتجات الصحة النباتية، وتحسين أدوات الري، ونجمت عن هذا النجاح قفزة كبيرة في كمية المحاصيل الزراعية، وهذا ما جعل المهندس الزراعي نورمان بورلوغ «أب» الثورة الخضراء يحصل على جائزة نوبل للسلام، لذا يمكننا القول بعد أكثر من نصف قرن، إن بول إيرليش أخطأ في تقييمه للثورة الخضراء.
وإذا كان بول إيرليش مخطئًا بشكل فادح بشأن موضوع التطور البشري، فقد حذر من الضرر الذي يلحق بالتنوع البيولوجي، كما حذّر أيضًا من مخاطر تغيّر المناخ حين كتب: «كل القمامة التي نلقيها في الغلاف الجوي، وكل الغبار، وكل ثاني أكسيد الكربون له تأثيرات على توازن درجة حرارة كوكبنا». كما تحدث عن إمكانية ارتفاع محتمل في منسوب المياه. وهو رأي صائب نتأكد منه يومًا بعد يوم. ومع ذلك، يعيب عليه علماء البيئة تشويه سمعتهم بوصفه واحدًا منهم ويسمح لنفسه بأن يعلن باسم العلم عن اقتراب وقوع كوارث لم تحدث، ذلك ما جعل بعضهم يتهكمون بعلماء البيئة لقصر نظرهم!
وعلى كل حال، فإن كتاب «القنبلة السكانية» أثار الكثير من الجدل بخصوص تنبؤاته المتطرفة وأخطائه الكثيرة والفادحة، لكنه في الوقت نفسه أسهم في نشر الوعي -لدى المواطن وصاحب القرار- بالأضرار والمخاطر المحدقة بالمعمورة ■