البسطي شاعر«الفردوس الأخير»

البسطي  شاعر«الفردوس الأخير»

يجمع عدد من الباحثين أن القرن التاسع الهجري في الأندلس قرن غامض لقلة المصادر وشح الروايات وضياع الوثائق والمدونات في غمرة انهيار آخر ممالك الأندلس. لقد شهدت الحقبة الأخيرة التي سبقت سقوط غرناطة 1492م ضياع عدد مهم من الأعمال الأدبية شأنها في ذلك شأن الأعمال العلمية والتاريخية والدينية، فقد تعرض كثير من التراث الأندلسي للضياع وآل إلى مصير مجهول نتيجة عوامل عدة، أهمها الإهمال وعدم التوثيق، سيما وأن الهاجس الذي كان يؤرق الأندلسيين هو الحفاظ على استمرارية الحكم العربي الإسلامي خصوصًا بعدما أخذت المدن الأندلسية تسقط تباعًا في أيدي النصارى، حيث كان الهم الأكبر لبني نصر المعقل الأخير للأندلسيين مقاومة الحصار الخانق الذي فرضه المسيحيون والتصدي لهجماتهم. كما تعرضت العديد من الكتب والمخطوطات للإتلاف والإحراق، ومازالت الذاكرة تحتفظ بتلك الحادثة الأليمة التي أقدم عليها الكاردينال دي ثيسنيروس F. J de Cisneros حين أضرم النار بكثير من المخطوطات العربية في باب الرَّملة بمدينة غرناطة. 

 

بعض المصادر التاريخية والدواوين المخطوطة التي تم العثور عليها وتحقيقها في السنوات الأخيرة تكشف لنا عن إبداع شعري يقدم لنا صورة من صور الشعر في أيام الفردوس الأخيرة، ومعها حالة الإنسان الأندلسي نفسيًا واجتماعيًا وسياسيًا. ولا يخرج عمل الباحث المغربي الراحل محمد بن شريفة في دراسته (البسطي آخر شعراء الأندلس) عن هذا الإطار، فقد قدم لنا قراءة عامة لمخطوط شاعر أندلسي مغمور لا ذكر له ولا لشعره في المصادر المعروفة، ولولا ظهور نسخة وحيدة من ديوانه في السنين الأخيرة ما وقف له على عين ولا أثر، مشيرًا إلى دور محمد إبراهيم الكتاني في اكتشاف هذا الديوان الذي وُجد في خزانة تامكروت ونقل إلى الخزانة العامة في الرباط.
يشير الباحث إلى أن الشاعر أبا عبدالله محمد بن عبدالكريم القيسي البسطي، شاعر بلدة بسطة Baza وفقيهها وخطيبه، نسيته كتب التراجم وأغفل ذكره أصحاب المعاجم. يكشف ديوانه عن ارتباط شديد بحياته، فقد كان له حانوت في بسطة يشتغل فيه بالنسخ والفتوى والتوثيق والتعليم، وقد أشار في قصيدة طويلة إلى إحراق حانوته ظلمًا وعدوانًا بعدما ألحق به خصومه من بعض العدول الموثقين الأذى، لا لسبب إلا لأنه كان يقول كلمة الحق. لقد كان «مستوى الشاعر في الكتابة والتوثيق فوق مستوى بعض الموثقين في بسطة وغيرها يومئذ، بل إن الشاعر الفقيه كان يسخر من جهل بعضهم وعجزهم، ويبدو أن هذا الصنف من العدول هم الذين تحزّبوا ضده وكادوا له حتى أُخّر عن التوثيق، كما تسبّبوا قبل ذلك في الاستحواذ على حقه في الأحباس»؛ ما اضطره تحت وطأة الحاجة إلى مغادرة بسطة متوجها إلى مدينة برجة، وبيع كتبه، وهي آخر ما يباع من المتاع.
يبرز هذا الديوان براعة الشاعر في مختلف الأغراض الشعرية؛ فقد وصف بلدته بسطة التي وُلد فيها ونشأ وقضى فيها معظم حياته، وشعره يردد أصداء الحياة اليومية في هذه البلدة التي تغري بقول الشعر لطبيعتها الخلابة ومتنزهاتها الجميلة، يقول البسطي في الحنين إلى بسطة حينما كان في الأسر: 
وَدَعِ الحَنِينَ لِبَسْطَةٍ وَرُبُوعِهَــا
إِنَّ الحَنِيـنَ يَهِيجُ مِنْكَ غَلِيلَا 
وَاترك حَدِيثَ جنَانِ رُومةَ جُمْلَةً      
وَجنَان (عَيْن قنولشٍ) تَفْصِيـلَا
حَيْثُ الجَدَاوِلُ مَاؤُهَا مُتَفَجِّــرٌ 
أَضْحَى الصَّغِيرُ بِهَا يَفُوقُ النيلَا
حَيْثُ البطَاحُ كَأَنَّهَا صحفٌ بَدَت  
تهفُو الجُفُونُ بِحُسْنِهَا التكحيلَا 
بين الأسر وزوال الحكم العربي الإسلامي
إن الجور الذي تعرض له الشاعر في بلده كان له انعكاس على رأيه فيه، فقد كان في شبابه يتغنى بطبيعة بسطة الجميلة، لكنه عدل عن هذا الرأي بسبب تفريط أهل بلده في حقه، وأصبح يقول أشعارًا في ذمها وهجو أهلها:
أَيُّهَا الصّبُّ بِسُكْنَى بَسْطَـــــــةٍ     
يَبْتَغِي العِــــــــزَّ بِهَا وَالشَّرَفَـــــــــــا
انْصَرِفْ عَنْهَا لِسُكْنَى غَيْرِهَا      
 فَكِلَا الأَمْرَيْنِ عَنْهَا انْصَرَفَا
لَا تُؤَمِّلْ نَيْــــــــلَ شَــــيْءٍ مِنْهُمَا  
مَـــــــــا عَلَيْهَا المَلَوانِ اختَلَفَـــــــا
بَلْدَةٌ فِيهَـا الهَـــــــوَا مُنْحَــــــــــــرِفٌ
كَمزَاجِ النَّاسِ فِيهَا انْحَرَفَـــــــــــا
وقد فجّر تعرض البسطي للأسر قريحته الشعرية، إذ أصبح النظم أنيسه في وحدة السجن القاتلة، وسلوته في ظلمته القاتمة في أبذة، إذ يخبرنا في قصائد (الأبذيات) بأطوار أسره، فقد وضع أول الأمر في شبه زنزانة مقيدًا مكبلًا مهددًا بوسائل التعذيب:
فَحَصلتُ فِي الأَسْرِ الَّـــذِي أَدْوَاؤُهُ    
لرَهينهِ مِنْ أَعْظم الأَدْوَاءِ
أَجْـنِي مَذَلَّتَــهُ وَضَيْـقَ قُيُـــودِهِ
 بعْدَ اجتنَاءِ العِزّةِ القَعْسَاءِ
وكان يخفف عنه أسره حسناء نصرانية تدعى (إلبيرة)، وقد تغزل فيها ببعض قصائده، وإليها يشير في هذين البيتين مواريًا باسمها الذي هو اسم مدينة وباب في غرناطة:
شَأْنِي بِأبّذةٍ لَا أَسْتَطِيـعُ لَـــهُ     
وَصْفًا يُوَافِي لِسَانِي عَنْـــهُ تَعْبِيرَهُ
وَالصَّبْرُ فِي أَسْرِهَا مَا كُنْتُ آلفُـــــــهُ
لَوْلَا اجتلَائِيَ فِيهَا حسـنَ إلْبِيرة
 وقد عُرف عن الشاعر إدانته للفتنة الناشبة بين الأندلسيين على إثر نبذ بيعة السلطان أبي الحسن ودعوة الناس إلى مبايعة ولده أبي عبدالله، وهذا ما أدانه فقهاء غرناطة في فتوى مؤرخة (في رمضان عام 888 هـ)، يقول:
مَنْ سَعَى فِي عَزْلِ وَالٍ    
وَابْتَغَى تَقدِيـمَ وَالِ
بانتهَاب النَّفْسِ وَالمــا     
لِ اجترَاء لا يُبَالــي
فَبحَــقٍّ مِثْــــلَ هَــذَا   
نبذهُ فِي كُلِّ حَــــالِ
وَاغتنَامُ البعــــدِ مِنــه    
فَهْوَ يَدعُـو للضـــلَالِ 
لقد عايش البسطي الأطوار الحاسمة لزوال الحكم العربي الإسلامي في الأندلس، ولعله عاش حتى حصار بسطة من قبل الملكين الكاثوليكيين فرديناند وإيزابيلا سنة1489م، وهو الحصار الذي استمر قرابة سبعة أشهر، وضرب فيه أهل بسطة أروع الأمثلة في الصبر والصمود وانتهى بتسليم المدينة، وللشاعر قصيدة في وصف هذا الحصار:
عَزَمُوا عَلَى إِجْلَائِنَا عَنْ أَرْضِنَا    
مِنْ بَعْد مَا اجْتَمَعُوا لَنَا وَتَأَلَّفُوا
أَتَوْا بِكُلِّ مَكِيدَةٍ قَدْ أرهِفت    
آراؤُهَا فِـــي أُهْبَةٍ لَا تُـوصَفُ
وَتَطَلَّعُــــوا فِرَقًا لِهَدْمِ مَعَالِــمٍ  
لِلدِّينِ شيدَ بناؤُهَـا واستشْرَفُــوا 
 
لقد أدرك البسطي كغيره من شعراء تلك الفترة العصيبة خطورةَ الأوضاع المتدهورة، فكان شعره نقدًا لتلك الأوضاع رافعًا صوته عاليًا بالتقريع والتوبيخ لأولئك الذين فرطوا في البلد، وتسببوا في ضياعه بسلوكهم سبيل الخلاف وسيرهم على نهج الشتات، داعيًا في الآن نفسه إلى الصمود والمقاومة.  وكان كلما سقط ثغر من الثغور رثاه وبكاه، وقد كانت بلدته بسطة طوال هذه الحقبة أشبه بالمعسكر منها بشيء آخر، وذلك بسبب موقعها على خط المواجهة مع المسيحيين، فكانت ثغرًا للجهاد ورباطًا للغزو، وقد حفل شعره بمدح الغزاة المجاهدين كأبي عبدالله محمد بن عثمان الذي مدحه بقصيدة تعلي من شرفه الثابت وعقله الراجح ومواقفه في الجهاد: 
يَا صَارخًا جَعَلَ الصُّرَاخَ شِعَارَهُ
فِي مُلْتَقَـــى الأَقْــرَانِ بِالأَقْــرَانِ
قُلْ لِلْعِدَى جَهْرًا بِأَرفع مَنْطِـــــــــــقٍ
إِنَّ الرَّدَى من دَاركُــمْ مُتـــــدَانِ
مُذْ أَمّكُمْ شَيــخُ الغُزَاةِ مُحَمّــدٌ
نَجْلُ المُجَاهِدِ ذي التّقى عُثْمَـــــــانِ 
يعكس ديوان البسطي - الذي تتسم قصائده بالعفوية والبساطة - صورة من صور الشعر في أيام الفردوس الأخيرة، ويكشف القيمة الأدبية والمستوى العام الذي آلت إليه البلاغة الأندلسية، كما يمثل من جهة أخرى وثيقة تاريخية مهمة تكشف عن جوانب ظلت معتمة في تاريخ الأندلس، ومرآة لعدد من جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية في حقبة مليئة بالأحداث القاسية ■