تحديات تواجه الإسلام والمسلمين وحلولها

تحديات تواجه الإسلام والمسلمين وحلولها

«طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى...» لم يكن هذا النداء الرحماني الذي تطالعنا به سورة طه موجهًا في الحقيقة إلى النبي العربي وحده، بل إلى جميع البشر، مسلمين وغير مسلمين. «قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا...» (سورة الأعراف - الآية: 158). فالقرآن الكريم لم ينزل إلا ليكون هدى ونورًا ورحمة للناس أجمعين وإسعادًا لهم في الدنيا والآخرة، وإنقاذًا للإنسان، خليفة الله على الأرض بالمفهوم القرآني، من معاناة الجهل والتخلف والشقاء التي ابتلي بها منذ بداية الخليقة، حتى إن جمال الدين الأفغاني، عميد الإصلاحيين المسلمين الحديثين عندما أراد وصف دواء فعّال لشفاء المسلمين من تخلفهم لم يجده إلا في القرآن وتعاليمه:  «كل مسلم مريض دواؤه في القرآن، وما على طالب الحكمة إلا أن يتدبر معانيه ويعمل بأحكامه»، والقرآن نفسه يؤكد هذا الكلام بقوله تعالى في سورة ص / الآية 29: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكر أولو الألباب». 

 

«أولو الألباب» هؤلاء، أي أصحاب العقول النيّرة من البشر، الذين يذكرهم القرآن في مواقع كثيرة، هم الذين بفضلهم ولدت الحضارات وتطورت الأفكار والمجتمعات البشرية، وهم الذين أثروا الحضارة الغربية الحديثة بالمكتشفات والمخترعات وبكل ما تنعم به الشعوب المتقدمة ومجتمعاتها من الرفاه الصحي والاقتصادي والاجتماعي وما تتمتع به من السلطان المالي والسياسي والعسكري الطاغي، فإذا كان الهدف الرئيسي من نزول القرآن إسعاد المؤمنين بتعاليمه وغرس قيم الخير والفضيلة في نفوسهم وجعلهم نموذجًا يحتذى لتقدم الإنسان المادي والروحي، فما الأسباب التي جعلت المسلمين في مؤخرة شعوب العالم المعاصر بحيث أصبح مصيرهم «مثالًا عالميًا وتاريخيًا لأي مجتمع لا يستجيب للتطور العلمي الحديث في شتى مجالاته» كما يقول بول كندي في كتابه «الاستعداد للقرن الواحد والعشرين»، (الترجمة العربية - ص 226)، ولماذا يتكلم الخبراء الاقتصاديون والاجتماعيون بكثير من التشاؤم عن مستقبل المسلمين السائر نحو مزيد من القهقرى والتخلف دون أية بارقة أمل في خلاص قريب من الواقع المرير الذي يتخبطون فيه منذ قرون؟ هل تكمن العلة في قصور عقول المسلمين الحديثين والمعاصرين عن إدراك المعاني الحقيقية لتعاليم الإسلام، أم تكمن في القصور الذاتي لهذه التعاليم عن مواكبة التطور الحديث والتفاعل الخلّاق مع حقائقه العلمية والاقتصادية والاجتماعية، وعجزها عن تقديم أي حلول مجدية لمشكلات الإنسان المعاصر المادية والروحية وتطلعاته المستقبلية في زمن يخضع فيه المجتمع الإنساني كله لتبدلات عميقة ومتسارعة في كل مفاهيمه وأسس تفكيره برمتها؟ 
يجب التأكيد على أن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي مقارنة في العمق بين أهم خصائص المجتمعات الغربية الحديثة وحضارتها من ناحية، وموقف الإسلام وحضارته من هذه الخصائص من ناحية أخرى، عملًا بالمثل العربي القائل: «تُعرف الأشياءُ بأضدادها»، مع الإشارة إلى أن معظم التحديثيين المسلمين عمدوا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى صياغة موقف إيجابي للإسلام من العلم، في طليعتهم سيد أحمد خان وسيد أمير علي في الهند، ومحمد إقبال في باكستان، وجمال الدين الأفغاني في إيران وأفغانستان، ومحمد عبده ورشيد رضا وقاسم أمين في مصر، والكواكبي في سورية، ونامق كمال في تركيا، ودافعوا بحماس عن تدريس العلوم وتطويرها، وعن اقتباس «الذهنية العلمية» عن الغرب من أجل تحديث المجتمعات الإسلامية سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وعلميًا، مع الاحتفاظ بالأصول الثقافية للأمة كما فعلت اليابان.

الخروج من مآسي التخلف
ما أهم خصائص المجتمعات الغربية الحديثة؟
1- حب العلم والاستطلاع:  يقول برتراند راسل في كتابه «آمال جديدة في عالم متغير»: «اتجه حب الاستطلاع في الغرب منذ القرن السابع عشر إلى مجال البحث العلمي الموضوعي المنزه. وقد أدى قيام هذه الأبحاث على أسس منهجية دقيقة، إلى ظهور نتائج عملية مثيرة تفوق حد الخيال، لم يحلم بها الباحثون الأوائل. ويعتبر هذا الاستطلاع العلمي المنزه عن الغرض السبب الرئيسي لعلو مكانة الغرب في العالم الحديث».
تختصر هذه الكلمات الصادرة عن أحد أكبر العلماء والفلاسفة في القرن العشرين ملحمة خروج الجنس البشري من مآسي التخلف إلى نعيم التقدم عن طريق العلم والتكنولوجيا بعدما أمضى مئات الألوف من السنين في البؤس والشقاء والأسر اللاهوتي والإقطاعي.
هل يعارض الإسلام مثل هذا الاتجاه العلمي الذي قامت عليه الحضارة الحديثة للخروج من دوامة التخلف والقضاء على أسبابه؟
لم يعرف تاريخ الأديان دينًا يحث على العلم ويدعو إليه كالإسلام، حتى إن المسلم لا يرتفع بفضيلة كما يرتفع بفضيلة العلم. نقرأ ذلك في آيات قرآنية كثيرة، منها: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات...} (سورة المجادلة - الآية: 11)، {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (سورة الزمر - الآية: 9)، (وقل رب زدني علما) (سورة طه - الآية: 114)، {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (سورة فاطر - الآية: 28). فالإنسان في الإسلام مكلف ومأمور بالتفكير والتأمل والتدبر وأعمال الفكر والنظر: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} (سورة العنكبوت - الآية: 20). 
وفي القرآن نحو 750 آية تحث المؤمنين على دراسة الطبيعة والتدبّر واستخدام العقل وجعل المشروع العلمي جزءًا متممًا لحياة الأمة، بالإضافة إلى بعض الأحاديث النبوية الشريفة.
أي كلام أروع من هذا الكلام في تمجيد العلم والحث عليه؟ وأي دين من الأديان أو نبي من الأنبياء أعطى العلم والعلماء مثل هذا المقام الذي يقترب من القداسة؟ الحضارة الإسلامية نفسها لم تشتهر ببعديها العالمي والإنساني إلا بفضل إنجازاتها العلمية الرائعة في الطب والهندسة والرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء، وتفاعلها الخلاق مع علوم وأفكار الحضارات الأخرى التي عاصرتها أو سبقتها، فالعلم الذي تحث عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والذي مارسه العلماء المسلمون وأبدعوا فيه هو العلم الذي يكون دائمًا في خدمة الله والإنسان، العلم الذي لا ينفصل عن الحكمة والأخلاق، ولا عن الإيمان والتسامي، العلم الذي يمتزج كل شيء فيه بالبعد الأخلاقي وبالتسامي الروحي سواء في علاقة الإنسان بالإنسان أو في علاقة الإنسان بالطبيعة أو في علاقته بالله. فعندما يكون العلم والتكنولوجيا وسائل لمنفعة الإنسان وتطوير مجتمعاته فإن الإسلام يؤيدهما، لأن الإنسان إذ يذكر الله في كل عمل يقوم به ويتصرف كخليفة الله على الأرض ويدرك أن الله جعله مسؤولًا عن مصيره ومصير الآخرين، فإنه يجب عليه المساهمة في تقدم العلوم والتكنولوجيا شرط أن تكون في خدمة الله والإنسان والطبيعة.

فلسفات اليأس والعدم
إن هذه النظرة الأخلاقية المتفائلة للإنسان تعطي للحياة معنى وتمنح الإنسانية الأمل، خلافًا لفلسفات اليأس والعدم الموجودة في الفكر الغربي الحديث، فإذا كانت حياة الإنسان خالية من المعنى يصبح هذا الإنسان مشروعًا فاشلًا نهايته اليأس والانتحار، وتصبح العلوم والتكنولوجيا التي هي في الأساس وسائل رائعة لخدمة الإنسان مصدرًا للكوارث والشرور. وقد تنبّه بعض المفكرين الغربيين أمثال ألبرت شويتزر وروجيه غارودي وآرنولد توينبي إلى هذه الفجوة الخطيرة في الحضارة الغربية الحديثة التي بدأت أساسًا منذ القرن السادس عشر عندما ادّعى الإنسان الأوربي، المنتشي باكتشافاته العلمية الحديثة، أنه باستطاعته إدارة العالم بدلًا عن الله، فدعوا إلى إعادة الاعتبار إلى القيم الأخلاقية في سلوك الدول والأفراد خوفًا من شطط العلم والعلماء ورجال السياسة الذي قد يؤدي إلى كارثة تدمر الإنسان وحضارته.
«إن جوهر الحضارة كما يقول ألبرت شويزر في كتابه «فلسفة الحضارة»، هو الأخلاق، لأن الإنسان لن تكون له قيمة حقيقية إلا من خلال كفاحه ليكون ذا بعد أخلاقي خيّر، وتحت تأثير المعتقدات الأخلاقية وحدها تتكون مختلف العلاقات في المجتمع البشري على نحو يسمح للأفراد والشعوب بالنمو والتطور بطريقة مثالية، فالحضارة تنشأ حينما يستلهم الناس عزما واضحًا وصادقًا على بلوغ التقدم ويكرّسون أنفسهم تبعًا لذلك لخدمة الحياة وخدمة العالم. إن مستقبل الحضارة يتوقف على تغلبنا على فقدان المعنى واليأس اللذين يميزان أفكار الناس ومعتقداتهم في هذا العصر».  
ويعتقد غارودي «أن السلطة المطلقة للمال هي التي حطمت الإنسان الحديث ومجتمعاته وجرّدته من كل أبعاده الإلهية، وأن أسطورة النهضة الأوربية التي تعني ولادة وحدة السوق وعبادة المال تخفي وراءها اضمحلال الحضارة والإنسان».
 من هنا تنبع مهمة العقل الرئيسية، وهي طرح المشكلات وحلها بما يسمح للبشر خلق مستقبل ذي أبعاد إنسانية لا ينفصل العلم فيه عن الحكمة، ولا الأخلاق عن الإيمان. يستمد غارودي هذا الاعتقاد من دراسته المعمقة للإسلام حيث وجد «العلم متصلًا بالدين، والعمل مرتبطًا بالإيمان، والفلسفة مستوحاة من النبوة، والنبوة متصلة بالعقل، والأرض غير بعيدة عن السماء، والسماء على اتصال بالأرض، والتقدم الحضاري يسير صعدًا نحو الله».
2- النزعة الفردية: لعبت هذه النزعة، كما يقول آرنولد توينبي في إحدى محاضراته بمصر، دورًا مهمًا في تطور المجتمعات البشرية، لأن لكل إنسان مواهبه وشخصيته المميزة.

فالإبداع البشري هو دائمًا نتيجة جهد فرد معين.  وهذه القدرة الفردية الخلاقة هي الرأسمال الوحيد الذي يملكه الإنسان، والمجتمعات التي أعطت الفرد الفرص الضرورية للقيام بعمل منتج هي المجتمعات الأكثر تقدمًا وتطورًا، وعندما تقيد هذه الفرص بمطالب سياسية أو عائلية أو عنصرية أو طائفية فمعنى ذلك شلل القدرة الإبداعية للأفراد. الإنسان الذي يمتلك مواهب شخصية ممتازة يستطيع استخدام هذه المواهب بطريقة أخلاقية خيرة كما أنه يستطيع استخدامها للإضرار بمصالح الآخرين، وهذا يعني أن النزعة الفردية يمكن أن تؤدي إلى نتائج ضارة بالمجتمع إذا لم توضع تحت السيطرة الأخلاقية. ويبدو أن الغرب قد أطلق العنان لهذه النزعة فكانت نتائجها سلبية على حساب الصالح العام وعلى صعيد العلاقات الإنسانية والدولية.
أما في الإسلام، فإن هذه النزعة تخضع بدورها للفلسفة القرآنية القائلة بأن كل أعمال البشر يجب أن تهدف إلى رضوان الله باعتباره مصدر الحق المطلق والخير المطلق والجمال المطلق.  والإسلام لا ينكر الدور الذي تلعبه النزعة الفردية في تطور الحضارات، وهو نفسه لم ينشأ وينتشر إلا بفضل المواهب الفردية الفذّة التي كان يتمتع بها الرسول وصحابته ومن جاء بعدهم من المشرعين والعلماء والقادة. لكن الإسلام من ناحية أخرى لا يطلق العنان لهذه النزعة بل يخضعها لمراقبة إلهية واجتماعية صارمة: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} (سورة التوبة - الآية: 105).
والسلوك الإنساني في الإسلام خاضع لموازين دقيقة يوزن بها خوفًا من الشطط والتطرف وحفاظًا على العلاقات الخيّرة بين الناس، وبناء مجتمع فاضل لا أنانية فيه ولا استعباد ولا عنصرية، بل عدالة ومساواة وأخوة وسلام بين الناس: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، (إنما المؤمنون إخوة)، فمثل هذه الصفات تطهر روح الإنسان وتساعدها على السمو تدريجيًا نحو الله.
3- النزعة العملية:  يفخر الغربيون كما يقول توينبي أيضًا، بأنهم قوم نشيطون وعمليون، يخططون وينفذون أمورهم بسرعة وكفاءة، ولا شك أن هذه الصفات تعد مصدرًا من مصادر العمران والرقي في المجتمع البشري إلا أنها قد تتجه أحيانًا إلى غايات غير مرغوب فيها أخلاقيًا وتكون لها نتائج مضرة بالمجتمع بعد أن حلّت عبادة الحياة والرفاهية والمال والقوة مكان عبادة الله، وتخلى الإنسان الغربي عن شخصيته الروحية وفضائله الخلقية التي كان يتصف بها قبل بداية المرحلة الحديثة من تاريخه وأعلن خضوعه لمقتضيات الحياة المادية وقوانينها مما شل قدرته على التأمل الروحي بعدما أسقط مراقبة أو وجود الله من دائرة حياته العملية.  كانت النزعة العملية أحد أسس الحضارة الإسلامية وازدهارها، فكان النبي وصحابته والمسلمون الأوائل يسيرون في حياتهم وفق هذه النزعة التي كانت مرتبطة دائمًا بالعنصر الأخلاقي والروحي. وخير تعبير عن هذا الاتجاه قول علي بن أبي طالب: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا). وقوله أيضًا: (ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، بل خيركم من جمع بينهما). فحياة المسلم يجب أن تقوم على التعاون التام والمطلق بين ذاته الروحية وذاته المادية، لأنهما وحدة مركبة تضم أعمق المظاهر الخلقية والعملية والشخصية والاجتماعية.

الحفاظ على السلوك البشري
لقد وضع القرآن، كما يعتقد المسلمون، الخطوط العريضة لحياة إنسانية سعيدة لكنه لم يفرغها في قوالب قانونية دقيقة وجامدة بل ترك لأتباعه في كثير من الأحوال حرية الانسجام مع المؤسسات التي تلائم العصر والبلد اللذين يعيشون فيهما، فهو يمس حياة الناس في الكليات، أي في الثوابت ولا يمسّها في الجزئيات أي في المتغيرات. إنه يهتم ببيان ما هو صواب وما هو خطأ، وما هو خير وما هو شر حفاظًا على السلوك البشري من الانحراف وارتكاب المظالم والشرور التي تؤدي إلى تدمير المجتمعات والحضارات، فهو لا يذكر الماضي إلا لتأخذ منه الأمة قدوة ومثالًا: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} (سورة الحشر - الآية: 21).
كان من الطبيعي في كتاب يمجد الإنسان ويجعله خليفة الله على الأرض ويعلن أن الكون كله مسخّر له، أن يعطي لهذا الإنسان فرصة واسعة للاختيار وتكييف واقعه تبعًا لاحتياجاته وما يستجد في حياته الدائمة الحركة والتطور. وقد تنبّه المعتزلة وأكثر الفقهاء إلى هذه القضية عندما قالوا إن أحكام الشرع معللة بمصالح العباد، كما أن الفقيه المالكي الإمام الشاطبي (القرن الخامس عشر الميلادي) أشار إلى ذلك في كتابه «الموافقات» عندما قال: «إن الشرائع تابعة للمصالح». وكانت معظم المدارس الفقهية الإسلامية صورة حية لهذه القاعدة.

البعد عن الجمود والتحجر
إن مستقبل الإسلام والمسلمين في الأزمنة والعصور القادمة متوقف على كيفية تطبيق هذه القاعدة الدقيقة من قبل فقهاء متنورين بالفكر العلمي الحديث ومناهجه ومنفتحين على مشكلات هذا العصر، فقهاء مثقفين بثقافة عصرية يقرأون الإسلام بعقول رحبة وقلوب رحيمة وعيون واعية بعيدة عن الجمود والتحجر والجهل وعصور الانحطاط، خصوصًا أن وسائل التقدم أصبحت متوافرة لمن ينشدها، وتختصر كثيرًا من المسافات الزمنية الضرورية للقضاء على التخلف وأسبابه. لقد أصبح واضحا الآن أن أحد الأسباب الرئيسية لأزمة الإسلام مع نفسه ومع الحضارة الحديثة ومفاهيمها عدم وجود مرجعية مؤسساتية، كالفاتيكان بالنسبة للمسيحية تضم كبار المفكرين والعلماء والمشرعين المسلمين، دينيين ومدنيين، تقوم عن طريق الاجتهاد بتطوير مفاهيم الإسلام وتجديدها لتتكيف مع تطورات الأزمنة والعصور ومفاهيمها السياسية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية. 
فالاجتهاد كما يقول محمد إقبال «هو السعي في كل لحظة من لحظات التاريخ إلى اكتشاف الوسائل لحل المسائل المستجدة دائمًا التي يطرحها هذا التاريخ، وذلك في الطريق المستقيم الذي تحدده لنا الشريعة الخالدة»، كما أنه المبدأ الأساسي للنهضة الإسلامية، ولكل انبعاث إسلامي، كما يقول رشيد رضا.  وبمعنى آخر، باستطاعة الاجتهاد، كما يعتقد غارودي، أن يكون خميرة للتحولات الضرورية لعصرنا، ومن خلاله يستطيع الإسلام أن يلعب دورًا مهمًا في حل مشكلات المجتمع الإنساني حاضرًا ومستقبلًا في عصر يخضع كل شيء فيه، حتى الإيمان، لمعايير العلوم ومقولاتها.
إن صراع الإنسان الطويل من أجل التقدم إنما يهدف إلى تحقيق تلك المُثُل الأخلاقية التي تكلم عنها القرآن وألحّ عليها كقواعد للسلوك البشري، وعندما يبطل اعتبار هذه المثل من أساسيات التفكير الإنساني والحياة الإنسانية يصبح الإسلام تراثًا من الماضي وعبئًا ثقيلًا على أتباعه: فالقرآن يحوي صورة رائعة من ذلك الحوار الأزلي بين الله والإنسان، والإنسان وأخيه الإنسان، وبين الإنسان والكون والطبيعة، وهو بذلك يربط الإنسان بالله والكون برباط روحي وثيق يجعل لوجوده معنى تحت الإشراف الإلهي: {أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وإنكم إلينا لا ترجعون} (سورة المؤمنون - الآية: 115)، {أيحسب الإنسان ان يترك سدى} (سورة القيامة - الآية: 36). ثم إن الإنسان في المفهوم القرآني ليس مخلوقًا ماديًا تطور عبر ملايين السنين من تركيب مادي خاص إلى ما هو عليه اليوم، كما يقول الفكر المادي، وإنما هو مخلوق إلهي وجد لغاية وينتهي إلى غاية، وهو خليفة الله على الأرض، أي مسؤول عن تعميرها وحفظ بيئتها من التلوث وإقامة نظام اجتماعي يخول كل فرد إمكانية استخدام مواهبه لبلوغ الغاية التي رسمها الله له.  إن مثل هذا التكليف يستدعي البحث المستمر في المجال العلمي والتقني للاضطلاع بالواجبات التي فرضها الله عليه نحو الطبيعة والبشر الآخرين.  لهذا السبب تمتزج في الإسلام خيوط الوحي الإلهي مع العقل البشري بصورة لا تقبل الانفصال، لأن الغاية الأساسية للإسلام تحقيق «اقتران ناجح بين المادة والروح لقيام مدنية قوامها القوة والرحمة: القوة المادية تحت إشراف قلب رحيم»، وبذلك تتحقق دولة الإنسان الكامل، التي حلم بها الأنبياء والفلاسفة منذ بداية الخليقة ■