عزيزي القارئ

 عزيزي القارئ

انتصار لبنان

تحتفل العربي في هذا الشهر بصدور عددها رقـم 500، وهي مناسبة تستحق التأمل لولا أن الأحداث العاجلة لا تترك لنا الفرصة لذلك، فتدافعها لا ينقطع على الساحة العربية. في الشهر قبل الماضي تكـرّمت إسرائيل على مجلة العربي وصادرت هديتـهـا التي دخلت أرض فلسطين المحتلة برفقة عدد العربي لشهر مايو 2000.

ولم يكن هـذا تصرّفا غريبا من دولة تكره الخرائط حتى أنها نفسها ليست لها خريطة معتمدة، فما بالك إذا كانت هذه الخريطة تصوّر فلسطين السليبة، وتصوّر المراحل التي تم فيها اقتطاع أرضها قطعة وراء الأخرى؟! لقد حاولت إسرائيل منذ خمسـين عاماً أن تضرب بخرائطنا عرض الحائط وأن تعيد ترتيبها وفق هواها، ولكن إذا كانت حتى الآن ترفـض خريطة فلسطـين المرسومة على الورق، فقد اضطرت إلى أن تعترف بخريطة لبنان المرسومة عـلـى أرض الواقع.

فما حدث في فجر الرابع والعشرين من شهر مايو الماضي لم يكن حدثاً عادياً، بل كان نقطة تحوّل حاسمة في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي.

إنها المرة الأولى التي نشعر فيها كعرب بأننا قد تصرّفنا بصورة صحيحة، فعلى مدى خمسين عاماً ونحن نتخبّط في مواجهة هذا الصراع ونرتكب المزيد من الأخطاء الـتـي أضـاعـت الأرض والإرادة والكرامة. لم نستفد من تاريخنا الطويل في مواجهة تلك الحملات الاستعماريـة التـي بدأت مع الصليبيين، ولا من حقنا الواضح في الأرض، ولا حتى من كثرتنا العددية.

خضنا حروباً بدائية هزمنا فيها، وحروباً كلامية ارتدت علينا، وحروباً تفاوضية خسرنا فيها حتى ورقة التوت، ولم يبق لنا من أمل إلا في زمن آخر على يد جيل آخر، ثم جاء هذا الفجر الغريب ليبدد من ملامح تلك الصورة القاتمة.

لقد هرول فيه الإسرائيليون من الحدود اللبنانية التي سرقوها إلى الحدود الفلسطينية التي سرقوها أيضاً، وعندما ارتفعت أعلام القوى اللبنانية الوطنية فوق الأرض المحررة، كان هذا إيذاناً ببداية أسلوب جديد في إدارة هذا الصراع.

أثبت لبنان أن ثمن الحرية كان باهظاً ولكنه قادر على تحمّله، تحمّل تدمير مدنه، وقتل أطفاله ونسائه في مذابح بدائية بشعة، واحتلال عاصمته وإحـراق قـراه وسوق شبابه إلى الأسر، وقتل رجال مقاومته، لم يتوجع أو يبكي أو يـلـجـأ إلـى مـائـدة المفاوضات.

كان هذا هو الدرس الأول، إن هذا الانسحاب يثبت أن إسرائيل قادرة فـقـط على هزيمة الحكومات العربية، فهي تعرفها جيـداً وتدرك كيف تتصرف في أوقات الهلع، ولكنها أعجز ما تكون في مواجهة الشعوب العربية، خاصة عندما تكون مستعدة للتضحية بكل شيء.

حدث هذا مع أطفال الانتفاضة في فلسطين، وحدث هذا مع أبطال المقاومة في لبنان، في الأولى لجأت للزعامات القديمة كي تقيم هيكلاً صورياً يدعى الحكـم الذاتي، وفي: الثانية لجأت إلى حفنة من المرتزقة أطلقت عليهم جيش لبنان الجنوبي.

ولعل رؤيتنا للمصير الذي آل إليه مصير الحل الثاني ينبئنا بما سيئول إليه الحل الأول وكل هذه الحلول المماثلة.

لقد عبّر عن ذلك انطوان لحد في أكثر التعبيرات بلاغة " خدمنا إسرائيل اثنين وعشـريـن عـامـا وتخلت عنا في أربع وعشرين ساعة"، وهو بهذا يقدم من واقع تجربته رسالة خاصة لـكـل الذين يتعاملون ويهرولون ويطبّعون، ولعل هذا يكون الدرس الثاني.

لقد أثبتت التجربـة اللبنانية أن هناك لغة واحدة يجب أن تخاطب بها إسرائيل هي لغة القتال، فمنذ أن قام الرئيس السادات بزيارته الميمونة ! لإسرائيل، وتسلل القادة الفلسطينيون إلى أوسلو، وذهب العديد من القادة العرب إلى شاطئ البحر الميت وقد حاولوا جميـعـاً التدليل على أنه لا بديل عن الخنوع عند أي مائدة للمفاوضات.

لقد أحرجت لبنان الآن كل هواة التفاوض، وأسقطت العديد من الشعارات الرنّانة مثل سلام الشجعان والأرض مقابل السلام وهلم جرا، فالأرض لن تُستعاد إلا بالقتال، ومائدة المفاوضات أعجز من أن تمنح شيئاً.

إنها رسالة واضحة إلـى إخواننا المرابطين في الأرض المحتلة، وهذا هو الدرس الثالث ولن يكون الأخير.

إن العربي تهدي تحياتها إلى كل الأشقاء في لبنان الحبيب الذين أعادوا إلينا الأمل العربي الذي غـاب طويلاً، وهي تقدم في هذا العدد هديتها المتواضعة عن ذلك الانتصار الذي أعاد الأمل إلى قلوبنا، وتوغل العربي في هذا العدد في المضي جنوباً إلى اليمن السعيد الذي احتفل الشهر الماضي بعيد وحدته التي صمدت رغم كل عوامل الفرقة ليقدم لنا مثلاً على أهمية التمسّك بالوحدة كـمصير وحياة، ثم تتفرغ قليلاً لعددها الاحتفالي بملف خاص ترصد فيه معـالـم رحلتها.

ويتحدث رئيس التحرير عن المرحلة الجديدة التي تدخلها الـعـربـي وهـي تـبـث صفحاتها على الإنترنت، وهو يثير من خلالها كل قضايا النشر الإلكتروني والمستقبل الذي ينتظرها، إنه عدد غير عادي، مليء بالأمل والتوق إلى الانطلاق إلى أفق جديد من الأمل العربي الذي عزّ انتظاره.

 

المحرر