تكنولوجيا الاتصال والتواصل وأثرها على الثقافة العربية

تكنولوجيا الاتصال والتواصل وأثرها على الثقافة العربية

هناك ثلاث محطات أساسية في تاريخ البشرية الحديث: المحطة الأولى هي اكتشاف المطبعة في القرن الخامس عشر الذي أحدث تطورًا كبيرًا في الحضارة البشرية وأسس لعصر النهضة في أوربا بالقرن السادس عشر ثم لعصر الأنوار في فرنسا بالقرن الثامن عشر؛ المحطة الثانية هي الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وصولًا إلى المحطة الثالثة وهي الثورة التكنولوجية المعاصرة التي أدخلت الكثير من التحولات على شتى ميادين الحياة والتي يشكل التقدم الهائل في وسائل الاتصال أحد تمظهراتها الأساسية. ولعل أهم انعكاسات هذا التقدم وربما أخطرها التي تتجلى على مستوى الثقافة.

 

إن التكنولوجيا بحد ذاتها هي ظاهرة ثقافية حاضرة بدرجات مختلفة في المجتمعات وهي تلعب دورًا أساسيًا في بلورة نظرة الإنسان إلى العالم وحضوره فيه، كما أن علاقتها بالثقافة بشكل عام هي علاقة تأثر وتأثير، لذلك لا بد لمعالجة الموضوع من التوقف أولًا عند تعريف الثقافة، وهي كما ورد في الوثيقة الصادرة عن المؤتمر الدولي حول السياسات الثقافية الذي نظمته اليونسكو في مكسيكو سنة 1982: «جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعًا بعينه. وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة والحقوق الأساسية للإنسان، ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات». ويمكن أن نضيف انسجامًا مع الاهتمام الخاص الذي توليه اليونسكو للتراث بشقيه المادي واللامادي أن الثقافة تحتضن طيفًا واسعًا يمتد من المعالم التاريخية والمتاحف إلى ممارسات التراث الحي.
إلى ذلك لا بد من التعريف على سبيل التذكير بمختلف وسائل الاتصال الحديثة: الحاسوب، والإنترنت وتقنيات الاتصال الرقمية، والصحافة الإلكترونية، والمدونات الإلكترونية، ومنتديات المحادثة الإلكترونية، ومواقع البحث، والتسجيلات السمعبصرية (youtube)... تتطور هذه الوسائل بشكل سريع ومطرد، فقد أشار الباحث الفرنسي إيمانويل تود في مقدمة كتابه المهم «أين نحن من كل ذلك؟» إلى أن  نسبة مستخدمي الشبكة  قد ارتفعت بين عامي 1999 و2014  من 5 في المئة إلى 50 في المئة، أما اليوم فقد بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في العالم 5 مليارات وفي الدول العربية 291 مليون شخص وفق بيانات الاتحاد الدولي للاتصالات التابع لمنظمة الأمم المتحدة.  ويتوقع الباحثون أن يشكل عام 2034 منعطفًا كبيرًا على صعيد تطور تكنولوجيا الاتصال، ما يستدعي التوقف والتفكير في ما سينتج عن ذلك بالمستقبل القريب.
ومما لا شك فيه أن شبكة الإنترنت تشكل عنصر جذب كبيرًا نظرًا لمجانية المحتوى، وهي توفر المعلومات بكل اللغات والأشكال لكن لا يزال 9.2 مليار شخص في العالم لا يملكون القدرة على استخدامها، 96 في المئة منهم في البلدان النامية، إضافةً إلى أن 80 في المئة من الرسائل على الإنترنت تكتب بالإنجليزية ما يشير إلى التفاوت الكبير بين الدول المتقدمة والدول النامية، من جهة، و انتشار اللغة الإنجليزية على حساب اللغات الأخرى المختلفة، من جهة أخرى. ويشير المهتمون إلى عدم التكافؤ في تدفق المعلومات والمضامين الإعلامية ما يهدد بالهيمنة الثقافية، وقد لفتت مراكز دراسات كثيرة إلى أن تكنولوجيًا الاتصال الحديثة تمتلك اليوم مفاتيح الثقافة، مهيئة سيطرة الثقافات القوية تكنولوجيا على الضعيفة، وهذا ما تنبهت إليه منظمة اليونسكو عندما أقرت اتفاقية الحفاظ على التنوع الثقافي سنة 2005. 

هدم الحواجز والتحرر
في المقابل، يشكل الإنترنت وسيلة فعالة للتلاقح والحوار بين الثقافات، كما أن وسائل التواصل الحديثة تفتح المجال أمام الأفراد للتعرف إلى أشخاص يختلفون عنهم من حيث الهوية والثقافة والانتماء، ما يسهم في هدم حواجز الخوف من الآخر المختلف، ويساعد على التحرر من الأفكار النمطية والأحكام المسبقة، وربما يعد بتحقيق إنسانية أكثر انسجامًا. لكن نستدرك لنقول إن هذه النظرة قد تكون يوتوبية، نظرًا لما يحدث أحيانًا من ترويج لثقافة العنف والكراهية عبر شبكات التواصل الاجتماعي. 
يبقى أن الوسائل التكنولوجية الحديثة هي مجرد أدوات حيادية قد تستخدم بطريقة إيجابية، أو على العكس، فتنتج عنها سلبيات ومخاطر. من الإيجابيات في مجال الثقافة سهولة الحصول على المعلومات وتسهيل البحث العلمي، فقد أصبح بمقدور الباحث أن يدخل عبر الشبكة إلى كبريات المكتبات في العالم وأن يفيد من الكتب الرقمية، إذ تكفي نقرة على الحاسوب كي تصبح بمتناوله. كما أصبح بالإمكان القيام بزيارات افتراضية إلى المتاحف والمعارض والاطلاع على ما تكتنزه من إبداعات، كذلك في مجال الموسيقى صار بإمكان الفرد أن يحمّل على هاتفه المقطوعات الموسيقية والسيمفونيات العالمية والأغاني بحيث تصبح لديه مكتبة موسيقية يحصل عليها مجانًا. وتعد الكتب الصوتية ثمرة طيبة من ثمار التكنولوجيا الحديثة إذ سهلت على أصحاب الاحتياجات الخاصة من فاقدي البصر الحصول على المعرفة، كما أنه يمكن الإفادة منها للراغبين في التعلم مدى الحياة. 
بشكل عام، تسهم وسائل التواصل الحديثة في نشر الثقافة بأشكالها المتعددة على نطاق واسع وتخرجها من حيز النخبوية لتضعها بمتناول الجمهور العريض، وهي وسيلة متاحة للمبدعين في شتى المجالات للتعريف بإنجازاتهم والتفاعل مع المتلقي كما هو حاصل في الرواية الفيسبوكية وهي نوع جديد ظهر على الساحة الأدبية يتشارك فيه الكاتب مع متابعيه في صياغة الرواية عبر الحوار على الشاشة. كذلك تشكل التكنولوجيا الحديثة أداة للتعريف بتراث الشعوب بشقيه المادي واللامادي ولحفظ هذا التراث وتوثيقه ونشره من خلال الرقمنة، ما يسهم في ترسيخ الانتماء من جهة، والتفاعل الثقافي وإرساء الحوار بين الثقافات من جهة أخرى، كما ينعكس إيجابًا على تشجيع السياحة الثقافية من خلال التعريف بالمواقع الأثرية وبأنماط العيش وأشكال الملبس والمأكل التي تختلف من بلد إلى آخر بل في البلد الواحد بين منطقة وأخرى مما يساعد على نشر الوعي بتنوع الثقافات ويحضّ على احترام الاختلاف. على صعيد آخر توفر تكنولوجيا الاتصال أداة تعليمية ناجعة أظهرت فاعليتها إبان جائحة كوفيد- 19 من خلال التعليم أونلاين أو عبر الشبكة العنكبوتية.
بصورة عامة يمكن القول إن وسائل الاتصال والتواصل الحديثة نجحت في تحويل العالم إلى قرية كونية بحيث يمكن للفرد أن يتطلع على كل الصحف الصادرة في العالم وأن يستمع إلى أي قناة إذاعية ويشاهد أي قناة تلفزيونية في أي بقعة من بقاع العالم من دون أن يغادر مجلسه.
لكن هذه الإيجابيات على أهميتها يجب ألا تنسينا السلبيات التي يمكن أن ينضوي عليها استعمال هذه الوسائل. يلاحظ إيمانويل تود أن «التطور التقني لم يحرر أبدًا الإنسان في العالم الأكثر تقدمًا، ما يجعله بالتالي يسقط مجددًا تحت الاستعباد».
إحدى المساوئ الناتجة عن تدفق المعلومات - مثلًا - تشتت الفكر لدى المتلقي الذي يضيع وسط هذا الكمّ الهائل من الأبحاث والمقالات والمنشورات الإلكترونية دون القدرة على التمييز بين الغثّ والسمين. 
وغالبًا ما يكتفي بنقل المعلومة أو استهلاكها دون عناء إخضاعها للتفكير أو الإضافة عليها. وهذا ما نلاحظه معظم الأحيان لدى الطلاب الجامعيين ما يحتّم إعادة النظر في المناهج التعليمية بحيث يتمكن المتعلم من امتلاك المهارات اللازمة، من قدرة على التحليل والتمييز والربط وصولًا إلى بلورة الحس النقدي والقدرة على التفكير المستقلّ، ذلك أن الحصول على المعلومات لا يعني الوصول إلى المعرفة؛ فإذا كانت المعلومات متوافرة على الإنترنت فعلينا أن نعلم الشباب كيف يتعلّمون لا ماذا يتعلمون، وكيف يتعاملون مع ما تحمله التكنولوجيا الحديثة مع الحفاظ على قيمهم الثقافية.
قد تسهم وسائل الاتصال والتواصل الحديثة في تسطيح العقل من خلال نشر ثقافة تقوم على التسلية وإضاعة الوقت. ولا يخفى تأثيرها السلبي على اللغات بشكل عام نظرًا لهيمنة اللغة الإنجليزية وسعة انتشارها على المواقع، كما أن ما نلاحظه على تطبيق الواتساب وغيره من التطبيقات من اعتماد الحرف اللاتيني لكتابة اللغة العربية، خاصةً من قبل الشباب، يشكل ظاهرة تدعو للتنبّه. مما يحتم على المؤسسات التعليمية والجامعية والثقافية، والحكومية المعنية بذل مزيد من الجهود للحفاظ على لغة الضاد بل لتطويرها بحيث تتماشى مع متطلبات العصر واحتياجات الأجيال الشابة.

التطور التكنولوجي واقع مفروض
في الختام، يمكن القول إن التطور التكنولوجي أصبح واقعًا مفروضًا على المجتمعات وهو يسير بسرعة هائلة، ما يحتمّ على المفكرين والمؤسسات طرح الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالأهداف والغايات والعمل على بلورة أخلاقيات العلوم والتكنولوجيا كي تتفادى البشرية الوقوع في أخطاء كبرى. 
إن اكتشاف المطبعة في القرن الخامس عشر أدى إلى بلورة حركة فكرية نتج عنها عصر النهضة في أوربا، كما أن الثورة الصناعية بالقرن التاسع عشر استدعت اهتمام الفلاسفة والمفكرين الذين بلوروا مفاهيم جديدة في الاجتماع والأخلاق والاقتصاد والإنسانيات. ونحن اليوم إزاء التحولات الكبرى الناتجة عن التقدم التكنولوجي في شتى ميادين الحياة نجدنا بحاجة ماسة لمواكبة هذه التحولات ببلورة مجموعة من الأدوات الفكرية والمفاهيم والقيم تضمن للإنسان المحافظة على إنسانيته، فقطار التقدم قد ينحرف عن سكته إن لم يتمكن السائق من التحكم في مساره ■