شعريات المنفى والنظرية المترحلة

شعريات المنفى  والنظرية المترحلة

 انتقل معنى المنفى في الزمن الراهن، كما يقول إدوارد سعيد (من تجربة شخصية ومن عقوبة مختارة بعناية وأحيانًا حصرية لأفراد محدّدين، إلى تجربة جماعية وإلى عقاب وحشي لجماعات وشعوب بكاملها) تعرضت للاقتلاع والتشريد والنفي القسري كالفلسطينيين والأرمن والسوريين. وانتقلت بذلك تجربة المنفى إلى «براديغم معرفي» إرشادي أو (موقع ثقافي)، يرى منه الكاتب المنفِي كل العالم بمنظار نقدي مغاير، يعاند فيه الوجود الإلزامي والبقاء في الوضع المستقِر والثابت، متنقلًا من المكان الأليف إلى اللامكان الغريب، مكان الاقتلاع والفوضى والاختلاف عن الآخر، و(من الصحيح أن هجرة الشعوب ربما هي الصفة المميزة للقرن العشرين، وبما أن المنفى في بعض المعاني هو «قضية عالمية» كما قال جورج لامينغ).

 

يتداخل دالّ الهجرة ويتقاطع مع حالة تشكل الهُوية والذاتية المتعلقة بمفهوم المكان في تحولاته وتغيراته، وينتقل دور اللغة والهُوية ارتباطًا بالمكان المشترك أو الوجود «خارج المكان»، كما في عنوان السيرة الذاتية لإدوارد سعيد، أو العيش في حالة اللامكان أو اللا-أماكن - حسب تعبير عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي مارك أوجيه، الذي يحاجج بأن الحداثة الرأسمالية المعاصرة تخلق نمطًا متميزًا من التجربة المكانية الدنيوية، يصفها باسم «الحداثة الفائقة» التي تُعَرِف تفاعلاتنا المتزايدة مع هذه اللا-أماكن المتَّسِمة بنوع من «إزالة الصفات المحلية» عنها، وتتضمن الأمثلة التي عرضها مارك أوجيه عن اللا-أماكن، بـ«قاعات المغادرة في المطارات»، ومتاجر الأسواق الكبرى (السوبر ماركت)، والطرق السيارة السريعة، ومحطات خدمة السيارات وماكينات صرف النقود الموجودة في نواصي الشوارع، والقطارات فائقة السرعة، وهذه النواحي المحلية مُفرطة الحداثة، هي بالنسبة إليه «لا-أماكن» تفريقًا و تمييزًا لها عن تلك «الأماكن الأنثروبولوجية»، التي تخلق البعد الاجتماعي عضويًا،  (كما أن جدلية المكان والإزاحة عنه، تمثلان ملمحًا مشتركًا لجميع آداب ما بعد الكولونيالية، ما بعد الاستعمار، المكتوبة بالإنجليزية) لارتباطهما الوطيد بالتجربة المعيشة التي خبروها في المنافي، كلاجئين ومنفيين ومعارضين لكل أشكال القمع والاضطهاد والمطاردة التي تعرضوا لها في أوطانهم، وممانعتهم لسياسة التغريب والتهميش التي مارستها المركزية الغربية عليهم، في ظل آثار الأزمة الاقتصادية التي تعرِفها الولايات المتحدة وأوربا الغربية، وصعود رُهاب الحركة الشعبوية والأيديولوجيات اليمينية المعادية للأجانب، والتي يعتبر المهاجرون أولى ضحاياها.
  يلاحظ الناقد الأمريكي تيري ايجلتون، أن أغلبية الكُتاب الحداثيين باللغة الإنجليزية مع بداية القرن العشرين (قادِمون من خارج مركز الحياة الثقافية، نساء هن بالضرورة - وتبعًا لظروف تلك المرحلة - كُن من الهامشيات حسب تعريفهن آنذاك، بينما كان الكُتاب في أغلبهم من أصول إيرلندية وأمريكية، حتى عندما يكونوا من أصول إنجليزية، نجدهم إما ينتمون إلى سكان الضواحي التي تسكنها كذلك الطبقة العاملة أو هما معًا)، وإذا انتقلنا للسنوات الأخيرة، نلاحظ أن أعظم الكُتاب باللغة الإنجليزية منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية هم في أغلبهم من أصول هامشية ولا ينتمون إلى الدول الحواضر بل إلى دول المستعمرات، أمثال نغوغي، أشيب، ولكوت، بينول، سلمان رشدي، من دون أن نشير إلى قامة نسائية مبدعة كطوني موريسون، الحائزة على جائزة نوبل، لقد انتشر خطاب ما بعد الكولونيالية /أو ما بعد الاستعمار في الأوساط المثقفة الأمريكية والغربية بين باحثين تعود أصولهم إلى المستعمرات القديمة في الهند ودول الشرق الأوسط والأفارقة المغتربين في فرنسا.
يعيش أغلب المثقفين الذين ينتمون إلى نظرية ما بعد الكولونيالية/أو ما بعد الاستعمار، لاجئين أو منفيين أو محميين، ومن ثم فَهم ينتقدون مرة بلدانهم وواقعهم المتخلف، ومرة أخرى يرفضون سياسة التهميش والتمركز الغربي، وهذا يعني أنهم يعيشون تمزقًا ذاتيًا، وهُم دائمًا في غربة داخل المنفى، على النحو الذي يبرزه إدوارد سعيد في كتابه «صُور المثقف»، عن حالة المنفى الصعبة واللاذعة، فإذا قرأنا مذكرات «الثالوث المقدس» (إدوارد سعيد، غياتري سبيفاك، هومي بابا) التي تتناول سيرهم الذاتية، لتبَين لنا أن اختلال وضعهم وحالة التأرجح التي يعيشونها، نتيجة عدم استقرارهم في المنفى، يعبر عنها عنوان السيرة الذاتية لإدوارد سعيد بالوجود خارج المكان وشعوره الدائم بأنه «ليس في مكانه»، كما أن تراكم الأذى الذي تعرض له، دفعه في نهاية المطاف بكونه منفيًا، أن يعود إلى ثقافة أصوله.

هجرة الأفكار
عالج إدوارد سعيد في كتابه «(العالم النص الناقد)» فكرة النظرية النازحة المهاجرة، عندما يرى أن الأفكار والنظريات تهاجر مهاجرة الناس والمدارس النقدية - من شخص إلى شخص ومن حال إلى حال، ومن عصر إلى عصر آخر، إن خاصية النزوح والهجرة عملت على تشكيل وبلورة الأطروحات الفكرية والمعارف النظرية، التي صارت تعكس حركية المكان وتَشَعب الترحال، ففي مقال شهير لإدوارد سعيد بعنوان (النظرية النازحة) يتحدث المؤلف عما يحدث للنظرية والأفكار، عندما تنتقل من مكان إلى آخر، ومن شخص إلى شخص ومن عصر إلى آخر، فالحياة الفكرية والثقافية تجد غذاءها عادة وأسباب بقائها غالبًا في تداول الأفكار، لأن هجرة الأفكار والنظريات من مكان إلى آخر ما هي إلا حقيقة من حقائق الحياة، متأقلِمة مع الظروف التي تحيط بها، فالنظرية النقدية تتزايد قوتها أو تتناقص عندما تنتقل من عصر إلى آخر، وهناك نظرية قد تتحول إلى شيء مختلف عن نسختها الأولى. 
وتمر النظرية المهاجرة بثلاثة أنماط من تطورها، نختزلها في العبارات التالية (هناك أولا: موضع أصلي، أي مجموعة من الظروف الأولية التي صادف أن وُلدت فيها الفكرة أو راجت من خلالها في الخطاب... وثانيًا: هنالك ثمة مسافة تعترض سبيل الفكرة التي تنتقل من موضع سابق إلى زمن ومكان آخرين، لذلك علينا أن نجتازها... وثالثًا: هناك مجموعة من ظروف التلقي والتقبل للنظرية التي تتيح لها الاحتواء، وتتعرض هذه الفكرة التي أضحت الآن موضع الاحتواء أو الدمج بشكل كامل أو جزئي، إلى شيء من التحوير جراء استخداماتها الجديدة، أي من خلال الموقع الجديد الذي تحتله في زمان ومكان جديدين). 
في هذا السياق، يختار إدوارد سعيد كمثال توضيحي، نظرية جورج لوكاتش حول التشيؤ والاغتراب، وكيف اختلف المنظرون في توظيفها بينه ولوسيان غولدمان في باريس من جهة، من خلال كتابه «الإله المتخفي» الذي كان بمنزلة إحدى أوائل المحاولات النظرية التي تشابكت مع نظرية جورج لوكاتش، ومن بين أروعها. لوضع نظريات لوكاتش موضع التطبيق العملي، يرى إدوارد سعيد أن نظرية جورج لوكاتش عندما انتقلت من بودابست إلى باريس، قد تحولت من سياق ثوري بعد انضمام لوكاتش إلى ثورة 1919، ثم إلى سياق أكاديمي مختلف، مع لوسيان غولدمان وهجرته للتدريس في جامعة السربون. 
ويرى إدوارد سعيد أن انتقال النظرية من موطنها الأصلي في هنغاريا، أدى إلى تأقلمها مع الوضع الجديد في فرنسا، ما أفقدها طابعها الثوري والتمردي، (فعند لوكاتش يرتبط الوعي الطبقي بالرغبة العارمة في التغيير والانقلاب الثوري، أما عند غولدمان فيصبح الوعي الطبقي أو بالأحرى الوعي الجماعي رؤية لوضع اجتماعي، فالنظرية عند لوكاتش هي تمرد الفكر على الوضع، أما عند غولدمان فهي تماثل الفكر مع الوضع).
لقد انتقلت نظرية الوعي من كتاب جورج لوكاش «التاريخ والوعي الطبقي» إلى لوسيان غولدمان، وتحولت عنده إلى رؤية دنيوية مسالمة، (أي إلى شيء ما، هو الوعي المباشر، بل الوعي الجماعي، الذي يعبر عنه عمل بعض أكابر الكُتَّاب الموهوبين) لأن الاختلاف بين لوكاتش وغولدمان يرجع إلى مسارات النظرية المهاجرة. 
كما أن الفرق بين النسختين المطروحتين، أنه جرى تحويلهما عن نظرية لوكاتش (فلوكاتش يكتب كمشارك في صراع «الجمهورية السوفييتية - الهنغارية لعام 1919)»، في حين أن غولدمان (يكتب كمؤرخ منفي في جامعة السربون). ما يبرهن على وجود تحالف وتلاحم بين الناقد ونظريته، وعلاقة ترابط النظرية بالسياق المحيط بها، يقدم إدوارد سعيد كدليل على ترابطهما، من خلال نموذج تجربة الناقد الفيلولوجي الكبير إريك أويرباخ، متحدثًا عن موقعه في العالم الإنساني، وعن واقعة نفيه الذي فرضه عليه الألمان النازيون إلى تركيا، عندما ألف كِتاب («محاكاة Mimesis») أحد أكثر الكتب تأثيرًا في الأدب الغربي، دون الاستفادة من استعمال المكتبة الغربية، ووفقًا لسعيد، فإن نفي أويرباخ وتشرده القومي والثقافي وانتماءه إلى النزعة «الكونية الكوزموبوليتانية»، تمخضت عن هذا النفي، وجعلت هذا الكِتاب العظيم قابلًا للتحقيق، لكن الحرية والمسافة النقدية المتاحة في ظروف النفي والتشرد دائمًا ما تكون مهددة بقوى الثقافة الدوغماتية.

كتاب «المحاكاة»
لقد هرَب أويرباخ من اضطهاد النازية إلى منفاه الجديد بإسطنبول، وقام بتأليف كتابه الشهير عن موضوع («المحاكاة») لأن حنينه إلى الحضارة الغربية والرغبة في استعادته لتاريخها والموروث الثقافي الغربي، كانت السبب - مع علاقة المنفى والاغتراب - الذي قاده إلى القيام بتأريخ مصطلح المحاكاة في الأدب الغربي، ولولا وجود أويرباخ في المنفى لما كان فكر أبدًا في أن يؤلف هذا الكتاب، أو كما يقول أويرباخ في خاتمة كتابه «محاكاة» (من الممكن القول إن هذا الكتاب يدين بوجوده لعدم وجود تلك المكتبة الفنية المتخصصة في اسطنبول) مكان المنفى، أي إن وجود هذا الكِتاب (دان بوجوده إلى حقيقة المنفى الشرقي غير الأوربي نفسه، وإلى فقدان الوطن والانتماء)، كما أن وفرة الكتب الأدبية والدراسات النقدية في مكتبات الغرب كانت ستَحُول دون تأليف هذا الكتاب في وطنه الأصلي. 
هكذا نجد أن الغربة والنقص الشديد في وجود المصادر والمراجع المعتمدة كانا السبب في انطلاق فكرة مشروع إنجاز كتاب (المحاكاة) واكتمالها، يحدث ذلك، عندما يكون المنفى إجباريًا، حيث يبحث المثقف المنفي عن شروط حياة أخرى، للانخراط في التجربة الإنسانية، باعتبار الوجود الإنساني، كله يعتبر شكلًا من أشكال المنفى ■