الشّعر الذي يحرسُ الأحلام مختارات شعرية لعبدالعزيز المقالح

الشّعر الذي يحرسُ الأحلام  مختارات شعرية لعبدالعزيز المقالح

لعلَّ الدّخول إلى عالم الشاعر اليمني الكبير د.عبدالعزيز المقالح فيه الكثير من المجازفة، فهذا الشاعر الذي التقى الشِّعر منذ أكثر من ستّة عقود، ولا يزال يُخوّض عُبابه ويحلّق في سماواته العالية، بنى قصيدته الخاصّة، وفتح في جدار الكتابة عددًا من الكوى السّرّانية التي أطلّ منها على العالم. كما أنّه منذ بداياته الشّعريّة تجشَّم خوض الأهوال، وصدح بصوته الحرّ الذي هو صوت الفارس العاشق، وهذا ما دفع الشاعر اليمني المعروف المرحوم (عبدالله البردوني) ليقول عنه:  «لقد أراد المقالح أن يبدو كبيرًا منذ البداية». 

 

لهذه الأسباب توجّس الكاتب اليمني د. همدان دمّاج ريبةً، وذلك حين أراد أن ينتخب مجموعة من قصائد الشاعر المقالح، لينشرها في كتاب، غير أنّه بعد فترة القلق هذه سرعان ما خاض غمار التجربة بالكثير من السَّعادة كما يقول.
في هذا الكتاب الذي بين أيدينا اختار د.همدان دمّاج مجموعة لا بأس بها من القصائد، وقد انتقاها من نحو اثنين وعشرين ديوانًا للشاعر.  اختار د.همدان للكتاب هذا العنوان:  «حروف مبرّأة من غبار الكلام»، أمّا دار النّشر التي قامت بإصداره العام الماضي، فهي (العائدون للنّشر) في مدينة عمّان بالأردن.

مشهدية شعرية
في هذه المختارات يجول بنا الشاعر عبدالعزيز المقالح في جبال اليمن وسهوله ووهاده:  في الرّيف اليمني الذي نشأ فيه، وفي مدينة صنعاء حيث أقام فيما بعد.
قرية (المقالح) في محافظة (إب) التي ولد فيها الشاعر، ربّما شكّلت العامل الأهم في ولادته الشعرية، وذلك لما في هذا المكان من تشكيل خرافي صاغته يد الطبيعة: في قصيدة له بعنوان «بيت في الرّيف» يقوم الشاعر برسم هذا المشهد الساحر حين يقول: 
 لي بيتٌ في الرّيفِ،
مساحتُهُ بضعةُ أمتارٍ،
وله بابٌ من خشبِ الطَّلحِ،
نوافذهُ تحملني كلَّ شروقٍ
نحوَ جِبالٍ عالقةٍ بالشَّمسِ،
وآكامٍ تغمسُ ماءَ أصابعِها في بلّورِ العُشبِ،
وتختالُ بشالٍ نَسَجَتْهُ النَّسماتُ من الضَّوء الأخضر
صنعاء أيضًا كان لها نصيبٌ آخر في إشعال نار الشّعر لدى الشاعر، ممّا مكّنه من رسم مجموعة من اللوحات الشّعرية الباذخة.  في قصيدة له بعنوان «الشّمس تتناول القهوة في صنعاء القديمة» يقول الشاعر:
في صنعاءْ
لكَ أن تختارَ القهوةَ والمقهى،
أن تختارَ رفاقكَ من بشرٍ أو حجرٍ،
لكنّ الشَّمسَ الفاتنةَ الإشراقِ
وقد نشَرَتْ أضواء جدائلِها
في الأفق الصّنعانيّ المغسولِ بضوءٍ شفّافٍ
ترغبُ أن تجلسَ بينَ يديكَ،
وأن تشربَ قهوتَها من كفّيكَ،
وحينَ يجيءُ الليلُ
سترعاكَ نجومٌ لا تعرفُ نومًا،
أو تتركُ حفلةَ أُنسٍ لا تغشاها
بهذا يمكن لنا أن نعتبر الكثير من قصائد الشاعر أعمالًا تشكيلية، أو مشاهد مقتطعة من عوالم السينما، حيثُ نرى الصّور الشعرية المرسومة بعناية تخفق في فضاء المخيِّلة لدى قراءة المقطع، ثم لا تلبث أن تأخذ كل صورة مكانها المناسب، ليتكوّن بين أيدينا في النهاية ذلك المشهد الشعري الذي هو مشهد سينمائي، لكنّه مصوغ بالكلمات، وهنا لا يسعنا إلا أن نشيد بهذه الإضافة الجمالية التي أنجزها الشاعر. عن هذا التَّراسل الصّوري بين الشعر والكاميرا يقول الشاعر: «الصّورة هي شعر أيضًا، وفي إمكانها أن تمدّ من عمر الشعر، وأن تزيد من تأثيره.  والكاميرا ما لم تستعن بالشعر تظلّ جامدة، تنسخ ما هو موجود ومرئي. وإبداعها الحقيقي يتوقّف على اقترابها من الشعر، واعتنائها بما يقدّمه من أخيلة وظلال».

نار الشّعر التي قَدَحَتْ
أواخر الخمسينيّات من القرن الماضي، قدحت نار الشّعر بين يدي الشاعر المقالح للمرّة الأولى، هذه الفترة كانت فترة قاسية عاشها الشّعب اليمني، وذلك بسبب سياسة التسلّط التي كان يعاني منها. لم يكن أمام الشاعر الشّاب في ذلك الوقت سوى أن يحمل راية الشّعر بجدارة، ويغني للحرية والإنسان، وهذا ما حدث، فقد كتب تلك القصائد المعجَّنة بطعم النار. سنوات قليلة، وتخلَّص الشعب اليمني من الاضطهاد. في السادس والعشرين من شهر تشرين الثاني من العام ألف وتسعمائة واثنين وستّين، قام الشاعر المقالح بإلقاء بيان الثورة التي انتصرت من إذاعة صنعاء.
منذ ذلك الزّمن البعيد ظلّ المقالح مخلصًا لوطنه، وظلّت تجربته ترصد تلك التّحوّلات المتتابعة التي شهدها الواقع اليمني في جميع جوانبه: السياسية والاجتماعية والثقافية. وقد استطاع أن يُقدّم من خلال قصائده مساهمةً متميّزة في تحصين الرّوح اليمنية، وتحريضِها على المواجهة والصّمود.  ليس هذا فحسب، فقد امتدّت قصائده إلى مناطق أخرى في الوطن العربي والعالم لتحرس حلمه القومي والإنساني.  لقد صدح شعره بحب فلسطين وأنشد في حبِّ مصر في زمن العبور عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين، كما أنّه هتف لطاغور وفقراء الهند، وهتف أيضًا لنيرودا ومأساة تشيلي.

زمن المحرقة
ظلّ الشاعر المقالح يعالج بالشّعر هموم وطنه، إلى أن وقعت الواقعة واشتعلت نيران الحرب الأهلية في السنوات الأخيرة، حيث أطاحت بكلّ شيء جميل. ما حدث كان يصعب على الشاعر أن يتخيَّله، فقد تحطّمت آماله أمام تلك القسوة والبشاعة والقذائف التي تطحن كلَّ شيء.  أصيب الشاعر برجّة عظيمة في أعماقه، ولم يجد أمامه غير أن يرثي نفسه، كما يقول في قصيدة له بعنوان «أعلنتُ اليأس»، يقول فيها: 
أنا هالكٌ حتمًا فما
الدّاعي إلى تأجيلِ موتي
جسدي يشيخُ ومثله
لغتي وصوتي
ذهب الذينَ أحبّهم،
وفقدتُ أسئلتي ووقتي
أنا سائرٌ وسط القبورِ
أفرُّ من صمتي لصمتي
مجموعة من القصائد كتبها الشاعر مؤخّرًا تبكي بحرقة على الأحلام المغدورة، وعلى المستقبل الضائع، مثل قصيدة (بكائية)، و(عندما قامت الحرب)، و(كوابيس وأحلام)، و(صنعاء تحت قصف المجاعة) التي يقول فيها:
أمقبرةٌ هذه أم مدينة
لا ماءَ فيها، ولا خبز،
لا دفءَ يا وحدَها
لم يعدْ أحدٌ يتذكّرها أو يراها
بعد أن دخلت زمن المحرقة

أقنعة شعرية
بين تلك المراثي التي تفيض بالدّمع، والتي كتبها الشاعر في الفترة الأخيرة، تطلّ علينا قصيدة ذات إيقاع مختلف. إنّها قصيدة حبّ بعنوان «اشتياق»، حيثُ يقول فيها الشاعر:  
خذيني إليكِ إلى منتهى سدرةِ الحبِّ
لا تتركيني لأفنى هنا ظَمَأً
حيثُ لا حبَّ لا ماءَ في وحشةٍ مقفرة

هل يمكن أن يشكّل الحبّ حلًا؟ ثمّ ما طبيعة هذا الحبّ الذي يمكنه أن يضع حدًّا للحرب؟ إذا ما تأمّلنا وضع الحبيبة التي يهدل الشاعر بحبّها في القصائد التي ضمّها هذا الكتاب، فإنّنا سنخرج بالنتيجة التي تقول: إنّ قصائد الحبّ هذه ما هي سوى أقنعة شعرية خلقها الشاعر لعلّها تُحدثُ تغييرًا ما في هذا المشهد المأساوي.  من جهة أخرى، ثمّة تبادل أدوار بين الحب والشعر، أو بين المرأة والقصيدة، وكلاهما، الحب والشعر، سلاحان عظيمان يصنعان التّغيير، هكذا سوف يلجأ الشاعر إلى الشعر بعد أن لجأ إلى المرأة، ليقول في المقطع الأخير من القصيدة الأخيرة في الكتاب، وهي بعنوان (تساؤلات):
يا شِعرُ يا مطرَ السّماء البكر
يا شمسَ المدائنِ والعصورِ
اهطلْ، فقد دَنَتْ المواقيتُ العظيمة
واستوى زمنُ الظّهورْ
فاغسِلْ تُرابَ الأرضِ من دمِها
وأيقظ ما تبقّى في الخلايا من شعور ■