مكانة اللغة الأم بين ملكات اللغات المكتسَبة وإنصاف «العربية»

مكانة اللغة الأم  بين ملكات اللغات المكتسَبة وإنصاف «العربية»

يقول ماك نيلَج لاد فوج «إنّ ما نعرفه عن إنتاج اللغة قليل» فما بالك إذا كانت لغات؟ وما رأيك في من يتقن لغات متعدّدة؟ فكيف يتجلّى الإعجاز الإلهيّ في امتلاك الملكة اللسانيّة دماغيًّا، في ظلّ تعدّد اللغات لدى الفرد الواحد؟ وهل يمكن لشخصٍ ما أنْ يمتلك الملكة اللسانية نفسها بين اللغات التي يتقنها بمستوى واحدٍ؟ بمعنى: هل تتساوى الملكة اللسانية عند متكلّم يجيد لغة ثانية وثالثة...إلخ، فتصبح كلّها كاللغة الأمّ؟ إذا كان ذلك بالإيجاب، فما نسبة الإتقان في لغةٍ دون غيرها؟ وماذا يتطلّب ذلك الإتقان من اهتمام؟ وما مدى ارتكاز تلك اللغات المكتسبة على اللغة الأمّ؟ وما دور اللغة الأمّ في تعلّم خصائص لغةٍ ثانية؟

 

تنبثق عن كل ما سبق تساؤلاتٌ تعين الباحث على طرح مادّة علميّة عرفانيّة عن كيفية تجوال اللغة في الدّماغ البشريّ، لتحديد مفاهيم كثيرة، منها:
- ما معنى اللغة الأمّ؟ وكيف اكتسبت مكانتها في فكر البشر؟ وهل تهتدي مناهج الدراسات الحديثة إلى تحديد أصل اللغة الأولى على هذه الأرض؟ ثمّ ما هي رطاناتُ الإنسانِ الأوّل؟ أهي واحدة أم متنوّعة مشتركة؟ وكيف تنوّعت وتشعّبت؟
- وما أثر تعدّد اللغات في الذهن البشريّ عبر الدماغ؟ وإلامَ يرمي؟
- وهل يتوصّل الدّارسون إلى إيجاد منهجٍ يجعل كلّ قومٍ يحافظون على لغاتهم وسلامتها من الاندثار في ظلّ اختلال الأمن اللغوي؟ أم هل ترمي المناهج المعاصرة إلى تدبير فكرٍ روحيٍّ يمَسّ المعتقدَ، ويلجأ إلى الذهن والعقل في شُعَبِ المخّ والدماغ للتصدي إلى معطياتِ الغزوِ اللغويّ الذي باتَ حقيقة واقعة؟ 
- وأين نصيب العربية من هذه المناهج التي عرفنا بعض أُطرِها حديثًا في ما يُعرف باللسانيات متناسين ما بدأه القدماء في بطون التراث من اهتمامات ومناهج وطرق تفكير؟ وهي تساؤلات ليست لرفض التحديث بقدر ما هي دعوات للحفاظ على الخصوصية.
- وكيف يمكن أن ننتشل العربيّة من معْمعات صراع اللغات والحضارات؟

فكرة تعليم اللغات 
هي أسئلة كبيرة قد تجد ردودًا تبعث على التفاؤل وقد لا تجد، بانتظار الآتي، فقد تتحقّق عند معرفة خلق السموات والأرض ومعرفة سبب اختلاف ألوان البشر، وتعدّد ألسنتهم ولغاتهم وأنماط حياتهم، ومدى تفاعل المجتمعات واندماجها؛ لتسهم في وضع فكرة تعليم اللغات في فترة وجيزة من خلال طرق معطيات العصبيّة الدماغيّة العرفانيّة. 
لينفرد تساؤل آخرٌ: ما مدى اهتمام الفرد العربي المعاصر بلغته من خلال تعزيز الاتصال بين الدماغ واللسان والكلام؟ وكذلك اهتمام مدرّس العربية، والفرد العربي الذي يتعلّم غير العربيّة أخصّ الفرنسيّة والإنجليزيّة أو التركية وغيرها وهو من أصول عربية، مقارنة بغير العربي الذي يدرس العربية في ما يسمّى العربية للناطقين بغيرها؟
تروم هذه المقالة إلى تطوير طرائق تعليم اللغات، لا سيما السرعة في ذلك، من خلال التركيز على التعامل مع الدماغ والتعاطي مع شرائحه الذهنيّة وخلاياه بالتحفيز وشحذ الهمّة.
قدْ يتكلّم أغيدُ العربيّة والفرنسيّة والإنجليزيّة والتركيّة والصينية وغيرها من اللغات بطلاقةٍ تامّةٍ، وهو من أصولِ عربية، بمعنى أنّ لغته الأمّ هي العربيّة، فقد اكتسب لغاتٍ متعدّدةً غير لغته. 
ثمّ تراه يحاور أصدقاءه، كُلًا منهم بلغته وبلهجةٍ خاصّةٍ، فإذا ما وجّه خِطابه إلى أمّه أو أبيه، بلغته الأم، فسرعان ما تتغيّر لهجتُه، ونجد أنّ نبرة كلامه مختلفة، ومعظم مفرداته كذلك، وأنّ سرعة الصوت وخفوته والاختصار أو التفصيل متنوّعة، وما يتعلّق بقضايا التنبير والتلوين الكلامي والتنغيم، وما إلى ذلك مما تفرضها نوعيّة المخاطب ومكانته وهيبته وحجمه، وما إلى ذلك، فما بالك إذا توجّه به إلى زوجته أو أحد أبنائه أو أفراد مجتمعه الصغير والكبير، مع الافتراض بأنّ الموضوع الذي يتحدّث فيه واحد، فلغة الُملقي تتغيّر بحسب المتلقّي، لتترك سؤالًا، لماذا تتغيّر اللهجة، إذًا؟ وكيف؟ ومتى؟ وما أثرُ ذلك لدى الملقي متعدّد اللغات؟ وكيف تتحوّل لغته من اللغة الأمّ إلى لغة أخرى أجنبية يتْقِنها؟ بمعنى: كيف تتنقّل اللغات في دماغ المتكلّم رغم تعدّدها لديه؟ 
فما بالك إذا صادَفَ أغيدُ صديقَه الفرنسيّ أوليفييه (Olivier) وآخر بوش (Booch) الإنجليزي، أو صديقَه مَا (Ma) الصيني، أو مِهْمت (Mehmet) التركي، فتتوجه به ذاكرته: الواعية واللاواعية، إلى لغةِ كلٍّ منهم بعفويّة، على عكس ما إذا كان في مجتمعٍ غير عربي والتقى صديقه العربي (عبدالله) فسرعان ما يتحدّثان (أغيد وعبدالله) بلغتهما الأم، فضلًا عن التعبير عن أي موقف لحظة الغضب فترشقُ شفتاه ألفاظًا وعبارات اكتسبها من بيئة طفولته.

القواسم اللغوية والإنسانية 
فما هي القواسم اللغويّة بين أغيد وأوليفييه وبوش ومِهْمت وعبدالله وأغيد؟ طبعًا هي لغاتٌ متعدّدة ذات قواسم إنسانيّة مشتركة ومواقف مختلفة، وبأدوات نطقٍ موحّدةٍ إنما باختلاف مساراتها، وانفعالاته، انطلاقًا من المجتمع اللغوي الممسوك بالعادات اللغوية والعُرفيّة والطباعيّة أو الانطباعيّة. وليس أدلّ على ذلك مما إذا غضب أغيد فيبدأ سُبابًا بلغته الأمّ، أو الأقرب إليها من اللغات التي يمتلكها لطواعِيتها ولُصُوقِها في ذهنه منذ صغره، في خزّان ذاكرته سَجَّلها لحظة فتوّة خلايا دماغه، وإذا فرح فقد تصدر عنه نكات وطرائف وأغانٍ وما إلى ذلك بنبرة عاطفيّة وهي اختمار اللغة ذوبانًا في شخصيّته انطلاقًا من الدماغ في تواصلٍ كلاميّ معجز.
غير أن أغيد العربي أتْقنَ لسان الآخرين بلهجتهم ولهجة كلّ مجتمعٍ لغويٍّ غيرِ العربية بطواعيةٍ إلى أن يحسبه أهل ذلك المجتمع بأنّه منهم، على العكس من رفاقه المذكورين بعدما تعلّموا العربية فتبدو عُجمَتهم منْ لحنِ القول، ما يشير إلى أن هناك خصائصَ صوتية وعضليّة ترتبط بخلايا عصبية في الدماغ يتدرّب عليها لسان الناطق بالعربية وتشترك مع كثيرٍ من لغات الأرض، وعلى العكس قد لا تجدها لدى الناطقين بغيرها، وقد تحمل غيرُ العربية تلك الخصائصَ فتبدو العجمةُ من لحن القول والنطق واللفظ، على الناطق بها كلغةٍ غير لغةٍ أم، فهي ضعيفة إذا تعلّم لغة ثانية، في ترابط بين أعضاء النطق ووظائف دماغ حامل تلك اللغة. وذلك بإذن من الرحمن الخالق، ما يعني أنّ الدماغ يأتمر بأوامر، فلا بدّ من معرفة سلوكيات هذه الأوامر في الدماغ البشري/المتكلّم، تلك الأوامر تعزّز الملكة التي تتصل بلسان الناطق عبر جهاز النطق وأعضائه في نسقٍ مقوننٍ في مسيرِ خلايا الدماغ وشُعَبِهِ يُطْلَق عليها العِرْفانية. 

تأثير لغة على غيرها
لم يكن من السهل التوصّل إلى نتيجة حاسمة لمسألة أيّ لغة أهم في الدماغ البشري ولا أي لغة تكون المسيطرة إذا اجتمع أشخاص عدة، بلغاتٍ مختلفةٍ لا يعرف الواحد منهم لغة الآخر وبينهم متكلّم العربيّة، فهل تطغى العربية على الجميع فيتأثرون بها ويفهمونها؟ وأي لغة تسيطر أكثر فيُجمع عليها المجتمعون في المجلس الواحد؟ وإذا تعلّموا العربية جميعهم فهل يتقنون لهجاتها؟ وهل بإمكان متكلّم العربيّة إتقان لغات الآخرين بلهجاتهم؟ وهل العُجمة تكمنُ في صعوبة نطق حروف العربيّة لدى الأعجميّ؟
لكنّ الكلام يخلص، إلى أنّ الملَكة اللسانيّة عرفانيّا (بأعصاب الدماغ) ترتبط صوتًا ومعنى بالخلايا العصبية والكهروعصبية التي امتاز بها الإنسان عن غيره، وهنا تفرض جغرافيّة اللغة سيطرتها على حافظة الدماغ في إكساب المتكلم لغتين معًا في وقتٍ واحدٍ، فأيهما تُعتبر اللغة الأمّ؟ وهنا وجه الإعجاز، لأنّ معجزة النطق كأيّ معجزة في الكون، ثمّ إنّ تعقيدات خلق الدماغ البشري أكثر إعجازًا، من حيث سرعة الأوامر والدقّة فيها وبداهة والنواهي اللغويّة على وجه الخصوص مدعاة تأمل كبير يمكن من خلال التعمّق في دراستها التوصّل إلى إيجاد طرائق حيوية فعّالة في مجال تدريس اللغات والتواصل بين النطق والدماغ والعكس. 
لذا آملُ أن تتوصل النتائج إلى لحظِ أنّ العربيَّ الذي يتكلّمُ غيرَ العربية قد يتْقُنها بلكنته ولهجة أهلها، فقد لايفرّق أحدٌ من سامعيه بين أنّه أجنبي عن لغاتهم، أو أنه قد اكتسب اللغة التي يتكلّمها الثانية (الهدف) غير لغته الأم اكتسابًا في مراحل عمرية غير متزامنة مع اكتسابه لغته الأم التي ولدت معه، على عكس الأجنبي الذي يتعلّم العربية فقدْ يتلعْثم لسانه طوال حياته نطقًا ومنطقًا، ومخارج حروف، وانتقاء كلمات، فتظهر غرابته عنها من خلال مدى الاهتمام الذي يتطلّبه تعلّم كلّ لغة.
ولا يمكن تحديد مكان امتلاك اللغة الأمّ، بمعنى إذا كان الفرد قد تربّى في مجتمعٍ غير عربيٍّ لأبويْن عربييْن، أو كلاهما، ثم في مجتمعٍ عربيٍ لأبويْن غير عربييْن، فالأخيرة أقرب إلى الاكتساب الذي يسهّل عملية امتلاك اللغة. 
وهذا ما نسمّيه ملكة امتلاك: هي اللغة الأولى التي يتعلّمها الفرد ويعيشها، فيعبّر فيها عن انفعالاته بيُسرٍ وسجيّةٍ أكثر من غيرها عند ممتلك غيرِ لغةٍ، فيفضّلها على غيرها ويرتاح إليها في خلوته مع نفسه أو مع عُزوته، فيسهل عليه المزاح بها أو السباب أو اللجوء إلى الترويح عن نفسه بها لحظةَ تأزمٍ أو ساعةَ انفعالٍ.

سرعة اكتساب اللغات
لذا فإنّي أميل إلى تفاوت النتائج المفضيةِ إلى اختلافِ نسبةِ سرعةِ اكتسابِ اللغاتِ بين بني البشر، إذ يوصل إلى الاقتناع بالخصائص الفرديّة لكلّ شخص انطلاقًا من التركيبة الفسيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية وغيرها إضافة إلى الخصوصية الدماغية، إذْ إنّ عناصر المعرفة لدى بياجيه تمرّ بثلاثة شروط تتعلق بـ:
- الشخص ونشاطه. 
- الإثارات المحتملة من المحيط.
- آليات التفاعل بين هذا الشخص ومحيطه.  وهي شروط تنطلي على الأمّة بأسرها، تؤدّي إلى أنّه لا يمكن لشخصٍ واحدٍ أنْ يمتلك الملكة اللسانية نفسها بين اللغات التي يتقنها وبمستوى واحدٍ، ولا تتساوى الملكة اللسانية عند متكلّم يجيد لغة ثانية وثالثة ليصبح مجموع تلك اللغات التي يجيدها كلّها كاللغة الأمّ، وإذا حدث ذلك فمن باب الموهبة الخارقة المرتبطة بقوة تأثيرات الدماغ وهي مقدرة ربّانية.  إلا أن سؤالًا آخر يبقى مطروحًا، ما نسبة الإتقان في لغةٍ دون غيرها؟ وماذا يتطلّب ذلك الإتقان من اهتمام؟ وما مدى ارتكاز تلك اللغات المكتسبة على اللغة الأمّ؟ وما دور اللغة الأم في تعلّم خصائص لغةٍ ثانية؟ ذلك ما يحيل الأنظار إلى دراسة دماغ المتكلم المكتسب المُجيد؛ لأنّ العاقل الحصيف إذا اكتشف سرّ النطقِ وعلاقة الكلام بالدماغ ضمن ملكات اللسان اللغويّة لازداد إيمانًا بخالقه، ولأصبح مسؤولًا عن كلّ حرف تَنْبُس به شفتاه، وَلَلَزِمَ الصمت احترامًا وتقديرًا لكلّ خليّة من خلايا دماغه من أن يستهلكها سُدىً، فليقلْ خيرًا أو ليصمتْ، وليلتزمْ بألا يقول: «أفّ»، وليقلْ صوابًا كي لا تتلف ملايين خلايا دماغه في اجتراح الكذب والتلفيق والهلوسات، ما يدفع بي إلى تأكيد خصوصيّة اللغة العربية وفرادتها عرفانيًا في دماغ متكلّمها، حيث إنّ:
- دماغ متكلّم العربيّة يحتاج إلى كمّية دم أكثر من أي لغة أخرى ويحتاج إلى حرارة أكثر فيصبح الدم أكثر خفّة في الدخول إلى الخلايا العصبية، فما بالكم إذا حفظ آلاف الأبيات الشعرية المملوءة عاطفة والقصص والقرآن الكريم؟ عندها تزدهر اللغة فتمثّل أعلى مراتب نشاطها الذهنيّ والتفاعليّ في منصّات تصنيعها بالدماغ ومستودعاته.
وعليه، يجب أنْ نستثمر الدراسات العصبيّة اللغويّة العرفانية في تعزيز مكانة العربية وفق آليات احتضانها وفق ما سبق، لا سيّما في إدراج البحث عن ملكات اللسان عرفانيّا، من خلال الحواس عامّة وكلّ حاسّة خاصة، والربط المتواصل بين الدماغ والنطق والكلام وأجهزته، وإفراد الدراسة بخصوصيّة الذاكرة الدماغية، وموادّها المحيطة: اللحائيّة والعصبيّة والدمويّة والغذائيّة، المفضية إلى إبراز مصنع الكلام بملكاته الربانيّة ومقدرته جلّ في علاه، (فهل ينبئك مثل خبير)؟ تبارك الله أحسن الخالقين.
وبهذا فالبحث مستمر للإجابة عن تساؤلات الكُتَّاب والمتلقّين التي تتفرّع منها تساؤلات، على طلاب المستقبل والباحثين منهم أن يجيبوا بالتدرجّ على ما طُرح، والدعوة إلى ورشة عمل ضخمة مركزيّة، في دماغ الشبكة الإلكترونية، وتضافر جهود الجامعات والمؤسسات في أقسام الدراسات العليا والدراسات البينيّة من عصبيّة ولسانيّة ولغويّة، وطبيّة وعلميّة واصطلاحيّة وغير ذلك لاجتراح سرّ إصدار اللغات في الدماغ البشرية، وإنصاف لغتنا العربية، والله المستعان ■